صناعة التقطير تزدهر جنوباً.. فرص عمل للشباب و”مونة” لكلّ بيت
تنبعث رائحة زهر الليمون من المكان، تفوح بعطرها الذكيّ لتتفوّق على رائحة البارود والغارات المتلاحقة في الجنوب. يواصل عبّاس سعد دكّ كركته بالزهر لينتج مزيدًا من الماء المقطّر بعدما بات هذا عمله الإضافيّ في زمن الأزمة، حيث تدارك سريعًا حجم المعاناة الاقتصاديّة وقرّر إيجاد حلّ لمواجهتها. رفض الاستسلام لظروف البلد وتحديدًا لندرة فرص العمل، فوجد في التقطير أو المهنة التراثيّة فرصة قرّر الاستفادة منها، “كيف لا وهي مهنة مربحة ومطلوبة” على حدّ تعبيره.
لا تقلّ صناعة المقطّرات شأنًا عن غيرها من الصناعات البيتيّة، بل يمكن أن تكون الأهمّ حاليًّا بعدما باتت مقصد الهاربين من “البطالة” أو الباحثين عن عمل آخر يدرّ عليهم دخلًا إضافيًّا.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الصناعات الغذائيّة في جنوب لبنان تأثّرت بفعل الحرب الدائرة على حدوده مع فلسطين المحتلّة، غير أنّ صناعة التقطير تبدو واعدة، وتشهد ازدهارًا جديدًا في قرى النبطية، فازدادت نسبة العاملين في هذا القطاع كونه يدرّ ربحًا وفيرًا عليهم، ويدخل في الصناعات الطبّيّة، لتتمثّل هذه الصناعة بمغدوشة (صيدا)، البلدة الأكثر شهرة في صناعة ماء الزهر والورد.
علاج لكلّ داء
أمام منزله في كفررمان وضع عبّاس سعد “كركته” (كركة: آلة التقطير)، يمضي ساعات في صناعة المقطّرات التي تحتاج وقتًا ودقّة وتأنٍّ، “الغلط بالنسبة لي ممنوع، لأنّني أحرص على إنتاج مقطّرات باب أوّل. أجد في هذه المهنة متعتي، وأنصح الشباب بامتهانها لأنّها حرفة منتِجة وتفتح لهم باب التصدير إلى الخارج” يقول عبّاس سعد في حديث إلى “مناطق نت”.
ازدادت نسبة العاملين في هذا القطاع كونه يدرّ ربحًا وفيرًا عليهم، ويدخل في الصناعات الطبّيّة، لتتمثّل هذه الصناعة بمغدوشة (صيدا)، البلدة الأكثر شهرة في صناعة ماء الزهر والورد.
يمضي عبّاس سعد في عمله، يقطف الزهر، يلاحق كلّ التفاصيل، ولا يقتصر عمله على تقطير زهر الليمون فحسب، بل يطال كلّ أنواع المقطّرات. يمضي وقتًا طويلًا في حديقة منزله الخلفيّة، يجمع ما أمكنه من الزهر، قبل أن يحملها إلى باحة منزله ليبدأ بعمليّة غسلها وتقطيرها.
تحتلّ الكركة مكانها وسط باحة الدار، يأتي سعد بالزهر وكلّ المستلزمات المطلوبة ويشعل النار تحتها ثمّ يضع الزهر في الطبقة الأولى منها والمياه في الطبقة العلويّة لتنطلق رحلة الساعات الستّ التي يتحوّل في خلالها الزهر إلى ماء مقطّر. “وهذه المرحلة مهمّة جدًّا لأنّها تحدّد جودة المقطّر وهي ليست سهلة كما يعتقد البعض، بل هي دقيقة جدًّا والخطأ قد يكلّف خسارة عبوة” يتابع سعد.
دفعت الظروف المعيشية “الصعبة” بالشاب عباس لإطلاق عنان مشروعه “تقطير الزهر والأعشاب العطريّة”. يقول: “لم يكن الأمر واردًا في حساباتي، فأنا موظّف في الدولة، غير أن تدهور قيمة الرواتب دفعني إلى البحث عن فرصة عمل أخرى. فقرّرت الاستثمار في زهر الليمون والأعشاب العطريّة، بداية كانت الفكرة مجرّد هواية لتوفير ماء الزهر والورد والمقطّرات للمنزل والعائلة فقط، ولكنّني سرعان ما طوّرتها لتصبح مهنتي الجديدة”.
مهنة تتحدّى البطالة
وبالحديث عن البدايات يقول عباس: “بدأت رحلتي مع التقطير قبل ثلاث سنوات مع انهيار العملة، فراتب موظّف القطاع العام لم يعد يساوي شيئًا، وربّ الأسرة مضطرّ للبحث عن أكثر من مصدر للعمل. أنا أب لثلاثة أولاد، عادة ما يعاونونني في عطلة المدرسة. اجتراح الفرص واحد من أهمّ أسلحة مواجهة الأزمة الاقتصاديّة، والركون إلى اليأس لا يجلب إلّا المرض والحزن وتفاقم الأزمة”.
ممّا لا شكّ فيه أنّ فرص العمل في لبنان تكاد تكون معدومة، بل شبه مستحيلة، لم تخلق الحكومات المتعاقبة يومًا فرصًا للشباب، ولم تدعم القطاعات الحيويّة وتحديدًا الزراعيّة والصناعيّة، أبقتها خارج اهتماماتها، فانعكست هذه الحال سلبًا على الناس وفتحت مجالًا للترقيع والهجرة والبطالة واليأس.
في ظلّ الأزمة والوضع الاقتصادي المأزوم بدأت مهنة التقطير تزدهر، بعدما كانت محصورة بعدد قليل من ربّات المنازل أو التعاونيّات الزراعيّة المحدودة. يختم سعد: “بدأ الناس يفهمون قيمة التراث وتحديدًا المهن التقليديّة، التي كاد أن يأفل نجمها”.
وعلى رغم أنّ الصناعات الحرفيّة لم تحظَ بدعم من وزارة الزراعة، حيث بقيت على الهامش على رغم أهمّيّتها في تنشيط الاقتصاد المحلّيّ، إلّا أنّ صنّاعها استمرّوا في تطوير المقطّرات التي لا تقتصر على زهر الليمون، بل كذلك على زهر الصعتر (الزعتر) وغيره.
تقطير الزعتر دواء كلّ داء
وحدها رائحة الزعتر ترشدك إلى منزل حسين علّيق وزوجته سليمة قرّة علي في بلدة يحمر الجنوبيّة، فكلاهما يعملان في تقطير الزعتر البلديّ، بعد أن رفعا إنتاجهما مع ارتفاع الطلب على الزعتر المقطّر.
لساعات طويلة يقف علّيق متابعًا عملية تقطير زهر الزعتر بواسطة الكركة، فالتقطير يحتاج وقتًا، ومع ذلك “على قلبه كالعسل”، فرائحة الزعتر الذكيّة تزيل تعبه. يقول حسين علّيق في حديث إلى “مناطق نت”: “إنّ احتساء ملعقة منه تذهب المرض أيضًا، ما حفّز الناس على الاتجاه نحو هذه الصناعة”.
عن طريقة تصنيعه يقول علّيق: “نضع زهر الزعتر اليابس في جرن الكركة الأوّل وفي الثاني نضع المياه، ونشعل النار تحته، وبمرور الوقت يبدأ بالتقطير نقطة نقطة. كلّ كيلوغرام زعتر ينتج عبوة مقطّرة ذات لون أبيض، يتحوّل بعد أيّام إلى اللون الزهريّ”.
بينما يعمل حسين عليق في كركته، تحضر زوجته الحاجة سليمة أزهار الزعتر اليابسة وتشير إلى “مناطق نت”: “ليس كلّ الزعتر مخصّصًا للتقطير، بل أزهاره هي الأساس، لأنّها تحوي كمّيّة من الزيت، فتمنح الزعتر المقطّر نوعيّة وجودة”.
“مونتك ببيتك.. ضمانة لعيلتك” تقول الحاجة سليمة، وتتابع: “الزعتر المقطّر يدخل في الصناعات الطبّيّة، ويحمل فوائد صحّيّة جمّة، فهو يساعد في تخفيف نزلات البرد والحرارة، وهو مدافع شرس عن الجسم ضدّ الأنفلونزا، كما أنّه مفيد لأوجاع البطن والرأس ويطهّر الجسم من الالتهابات، هذه الفوائد وغيرها دفعت الناس لزيادة الطلب عليه. أعشاب الأرض دواء لكلّ داء”.
الوزارة الغائبة
قبل أعوام أخذت صناعة تقطير الزعتر بالانتشار، غير أنّها هذا العام حصدت رواجًا بين الناس، نظرًا إلى فوائدها المتعدّدة، وعلى حدّ تعبير الحاجة سليمة: “لم يعد الزعتر محصورًا بالدقّ والخلط بالسمسم والسمّاق”.
بالمبدأ، تشهد القرى الجنوبيّة انطلاقة واعدة لصناعة المقطّرات، غير أنّ الصناعات الزراعيّة الصغيرة تحتاج إلى اهتمام من قبل وزارة الزراعة. في هذا الصدد يشير عليق إلى “أنّهم يحفّزوننا على الزراعة والصناعة، ولكن أين الدعم؟ كيف نطوّر أعمالنا؟”.
“الزعتر خليط أساس في كلّ منزل، فالبيت من دونه بلا قيمة، وإذا ضاقت الظروف يأكل المواطن زعتر وزيت” تضيف الحاجّة سليمة التي اعتمدت الترويج لمنتوجاتها من خلال مواقع التواصل الاجتماعيّ، وقد ذاع صيت إنتاجها في الخارج، وكانت قد بدأت تصدّر كمّيّات منه لأهمّيّته، فالمغترب يعشق المؤونة البلديّة، وهو ما ينعشها، ويمدّها بالقوّة لمواصلة العمل.
على أمل أن تتلقّف وزارتا الزراعة والصناعة هذه الصناعة المهمّة التي تشقّ طريقها نحو السوق الصناعيّة بلهفة كبيرة. يحاول مزارعو الزعتر والمقطّرات اليوم تطوير زراعتهم باللجوء نحو التصنيع، بحثًا عن مردود اقتصاديّ جديد. يدرك هؤلاء أنّ الصناعة باتت حاجة، في ظلّ ارتفاع الطلب على المقطرات أخيرًا، جاء ذلك بعدما فهم الناس قيمة هذه النبته وغيرها، وعديد فوائدها الصحّيّة.