عاشوراء تجذّر جنوبيّ ومظهر بعلبكيّ مستحدث
أضحت ذكرى عاشوراء، مناسبة اجتماعيّة- سياسيّة، تنطلق من السيرة الحسينيّة بالمفهوم الدينيّ لتتمدّد وتتكرّس كمظهر اجتماعيّ له طقوسه الممتدّة من الجنوب العامليّ وصولًا إلى قرى بعلبك التي كانت في ما مضى بعيدة نسبيًّا عن الممارسات أو عن المجاهرة بالطقوس كباقي مناطق الانتشار الشيعيّ.
النبطية أولى العاشورائيّات في لبنان
في السياق التاريخيّ لبداية إحياء المجالس الحسينيّة في لبنان، يلفت المؤرّخ وضّاح شرارة لـ”مناطق نت” إلى أنّ أوّل مجلس عاشورائيّ تمّ إحياؤه في لبنان، يعود إلى العام 1916، عندما قدم إلى المدينة أحد التجّار الإيرانيّين وبدأ بنشر الشعائر الحسينيّة من مجالس عزاء مرورًا باللطم وغيرها من الممارسات، مع تكريس يوميّ التاسع والعاشر من محرّم لتنظيم المسيرات الضخمة.
وفي هذا السياق، لقد بادر الإيرانيّ “إبراهيم الميرزا” إلى استصدار تراخيصَ من الخارجيّة العثمانيّة في اسطنبول بواسطة القُنصل الإيرانيّ في بيروت، حيثُ سُمح للإيرانيّين فقط بإحياء مراسم عاشوراء، من دون اللبنانييّن.
بعد مجيء الميرزا إلى النبطية بثلاث سنوات، أيّ في العام 1919م، بدأت هذه المراسيم تُقام بشكلٍ مُشترَك بين الإيرانيّين والأهالي في النبطية، ثمَّ تضاعف العدد؛ ليشمل كلّ شيعة جبل عامل.
أمّا في ما يتعلّق بتمثيل مصرع الحسين في مدينة النبطية، فيشير شرارة إلى أنّه بدأ باللغة الفارسيّة، ومن بعدها باللغة العربيّة العام 1926 وما زال مستمرًّا في يوم “العاشر” حتّى الآن.
بعلبك خارج السرب الدينيّ
لا يخفي شرارة أنّ قرى بعلبك كانت بعيدة نسبيًّا عن ممارسة الطقوس الدينيّة، نظرًا إلى قلّة عدد علماء الدين فيها، بعكس قرى الجنوب أو جبل عامل التي كانت تعجّ بدارسي الدين سواء في قمّ أو النجف.
بيد أنّ الجديد في بعلبك، تمثّل بحضور الشيخ الجنوبيّ، حبيب آل ابراهيم إليها في العام 1933، تاريخ البدء بتلاوة السيرة الحسينيّة في مسجد النهر في مدينة بعلبك.
ومن بعلبك إلى الهرمل، حيث حضر إلى المدينة شيخ جنوبيّ آخر هو الشيخ موسى شرارة الذي تزوّج من ابنة الشيخ حبيب آل إبراهيم.
الجدير ذكره هنا، أنّ الشيخ موسى شرارة، الذي عين مفتيًا للهرمل، وبقي مقيمًا فيها حتّى تاريخ وفاته، بنى المساجد والحسينيّات وكان له الدور الأبرز في تصدير- إن صحّ القول- إحياء مراسم عاشوراء. والكلام للمؤرّخ وضّاح شرارة.
يونين مشيخة أولى
في المقارنة ما بين قرى بعلبك والجنوب، يتقاطع الشيخ عبّاس الجوهريّ مع شرارة لناحية أنّ البقاع كان يفتقر إلى انتشار العلماء قياسًا مع جبل عامل. وإذ يؤكّد الجوهريّ لـ”مناطق نت” أنّ بلدة يونين كان لها دور ببداية إحياء السيَر الحسينيّة، يقول: “إنّه مع بداية الستينيّات كانت تقام المجالس الحسينيّة على مساحة ضيّقة في الحسينيّات، ثمّ ما لبثت أن تطوّرت مع اهتمام العائلات السادة من آل مرتضى والحسينيّ بها”.
لا يخفي شرارة أنّ قرى بعلبك كانت بعيدة نسبيًّا عن ممارسة الطقوس الدينيّة، نظرًا إلى قلّة عدد علماء الدين فيها، بعكس قرى الجنوب أو جبل عامل التي كانت تعجّ بدارسي الدين سواء في قمّ أو النجف
وفي هذا السياق، يشير الجوهريّ إلى أنّه مقارنة بالجنوب كانت الشعائر في بعلبك حتّى العام 1979 ذات طابع منازل وحسينيّات دون انتشار كثيف.
حركة الإمام الصدر
وفي السياق التاريخيّ لتمدّد الشعائر الحسينيّة إلى قرى بعلبك- الهرمل، لا بدّ أن نتوقّف عند إعلان تأسيس أفواج المقاومة اللبنانيّة (أمل) في 17 آذار العام 1974 في مدينة بعلبك على يد الإمام موسى الصدر، في مناسبة أربعين الإمام الحسين.
وقد استغلّ السيّد الصدر السيرة الحسينيّة لربط حركة المقاومة بمعركة كربلاء وعاشوراء، إذ اعتبر الصدر في ذلك المهرجان أنّ معركة كربلاء بمثابة الخطّ العريض لتاريخ التشيّع، حيث تشكّل عاشوراء صفحة من هذا التاريخ، وأنّ تاريخ المسلمين الشيعة كان ولا يزال، كنايةً عن معركة وتمرّد وثورة، فهي معركة رساليّة ترتبط بالماضي لتصله مع المستقبل، وأنّ استمرار عاشوراء في التاريخ يجعل الحدث يتجدّد كلّ سنة.
الثمانينيات والمسيرة الأولى
في ما يتعلق بتاريخ أوّل مسيرة حسينيّة في مدينة بعلبك، يعود الجوهريّ بالذاكرة إلى العام 1980، عندما نظّمت في مدينة بعلبك أوّل مسيرة حسينيّة إثر ترحيل نظام صدام حسين عددًا من العراقيّين الشيعة إلى لبنان وتحديدًا بعلبك، نتيجة تأييد السيّد محمد باقر الصدر للثورة الإيرانيّة.
وفي ما لا يخفي الجوهريّ أنّ وجود “حركة أمل” راكم انتشار الممارسات العاشورائيّة، يرى أنّ وجود الحرس الثوريّ الإيرانيّ وتاليًا حزب الله منذ العام 1982 في بعلبك أدّى إلى نشر الفكر السياسيّ- الحسينيّ على مجال واسع في المنطقة.
وعليه، كان لصعود نجم حزب الله ونزول الحرس الثوريّ الإيرانيّ في بعلبك الدور الأكبر في انتشار الممارسات العاشورائيّة في قرى مدينة الشمس.
فبعد تمركز طلائع الحرس الثوريّ في ثكنة الشيخ عبدالله في بعلبك، وبلدة البزّالّية، العام 1982، كان لافتًا إقدام الشباب البعلبكيّ على التعمّق في الفكر الشيعيّ وإحياء مراسم عاشوراء، فأصبحت الحسينيّات تمتلئ في البداية بمؤيّدي الحزب إلى أن تمدّد نفوذ حزب الله بعد تحرير الجنوب في العام 2000.
المظاهر في التاريخ الحديث
أمّا في التاريخ الحديث، وأقلّه في الفترة الممتدّة من حرب تمّوز 2006 مرورًا بمعركة السلسلة الشرقيّة في جرود عرسال، وصولًا إلى اليوم، فقد دخلت عادات جديدة على إحياء عاشوراء في قرى بعلبك، حيث أصبح حضور المجالس الحسينيّة يتمتّع بصفة العموميّة، ناهيك ببروز ظاهرتين تستحقّان التوقّف عندهما: الأولى تتمثّل في التزام شريحة كبرى بارتداء اللباس الأسود حتّى أربعين الإمام الحسين، والثانية تتمثّل بانتشار ظاهرة المضائف على الطرقات لتوزع الأكل والشراب محبّة بالحسين وأهل بيته.
وليس بعيدًا من هاتين الظاهرتين، كانت ذكرى عاشوراء سابقًا في قرى بعلبك- الهرمل، تقتصر على إحياء الأيّام العشرة الأولى من محرّم، مع تنظيم زيارة إلى مرقد السيّدة زينب في دمشق يوم العاشر “الفلّة” وبذكرى الأربعين. أمّا الآن ومع توسّع نفوذ حزب الله داخل النسيج الشيعيّ، أصبحت الطقوس في بعلبك آخذة في التمدّد ناهيك بانتشار الفكر الدينيّ وصعود عدد المشايخ في القرى.
وفي هذا الإطار، أصبح مقام السيّدة خولة في بعلبك محجًّا للزوّار إضافة إلى تنظيم الرحلات لزيارة المقامات الشيعيّة في العراق.
وبين بداية إحياء مراسم عاشوراء في الجنوب وتمدّدها إلى قرى بعلبك- الهرمل، يبدو جليًّا أنّ تمدّد انتشار الفكر الدينيّ في البقاع مرتبط حكمًا بحالتين سياسيّتين، هما ظاهرة الإمام موسى الصدر وولادة حركة أمل، والحالة الجماهيريّة لحزب الله مع ما استتبعهما من مؤسّسات تربويّة وحوزويّة تنشر الفكر الشيعيّ بين صفوف الناس.