عن بعلبك التي لم تعد كما كانت
“بعلبك لم تعد كما كانت”. يمكن سماع هذه العبارة تتردّد على أكثر من لسان، وفي مناسبات كثيرة. يمكن القول إنّ هذا الحكم يمكن سماعه أيضاً في غير منطقة لبنانيّة تغيّرت وتبدّلت، ولم تعد كما كانت في سابق الأيّام. بيد أنّ هذه العبارة تطاول، في نظرنا، مدينة بعلبك أكثر من سواها، وذلك لأسباب عديدة.
من المعروف والبديهيّ، أنّ المدن لا تبقى على حالها، وأنّ سكانها يزدادون في شكل مضطرد. فإتساع المدن وتمدّدها يشبه العُرف، وربّما القانون غير المكتوب، الذي سارت عليه البشريّة منذ نشوء الحضارات الأولى وحتّى وقتنا الحاضر. في هذا الصدد لا بدّ من الإشارة إلى بعض الإستثناءات، لجهة أن مسألة الإزدياد السكّاني ليست متشابهة، كما أنّها ليست على المستوى والطبيعة نفسها في كلّ الأمكنة.
وإذا كان من المفترض أن تكون المناطق الريفيّة هي المستفيدة من التمدّد العمرانيّ من حيث المبدأ، وأن تؤدّي هذه الظاهرة إلى تطوّرها، فإنّ هذا الأمر بقي محدوداً في شكل عام في مجمل المناطق البقاعيّة، وتراوح زخمه بين منطقة وأخرى. أمّا الظاهرة الأبرز في هذا المجال فهي ظاهرة نزوح سكّان القرى نحو المدينة الوحيدة في الجزء الشرقيّ من سهل البقاع، أيّ إلى مدينة بعلبك.
النزوح إلى بعلبك
بدأ توافد سكّان القرى، القريبة منها والبعيدة، إلى مدينة بعلبك في النصف الثاني من القرن الماضي، وازدادت عملية النزوح في ثمانينياته، وما بعدها. وإذا شئنا الحديث بلغة الأرقام، فإنّ سكان المدينة كان يُقدّر عددهم قبل بداية مرحلة النزوح بنحو 5000 نسمة، أمّا في الوقت الحالي فقد تجاوز عدد سكّان بعلبك مع محيطها القريب الـ100 ألف نسمة، وقد يصل إلى 150 ألفاً. إذ مع إتّساع رقعة الأراضي العائدة للمدينة، التي فاضت بكلّ أنواع البناء، لم يعد هناك من مساحات فارغة تفصل بين بعلبك والقرى القريبة منها كإيعات مثلاً، إلى جهة الغرب، أو دورس إلى جهة الجنوب، ولا نستبعد أن يصل التمدّد العمرانيّ إلى قرية نحلة لجهة الشمال، هذا إذا لم يكن قد وصل فعلاً.
كان عدد سكان مدينة بعلبك قبل بداية مرحلة النزوح يُقدّر بنحو 5000 نسمة، أمّا في الوقت الحالي فقد تجاوز عدد سكّان بعلبك مع محيطها القريب الـ100 ألف نسمة، وقد يصل إلى 150 ألفاً
أمّا الجهة الباقية، فضلاً عمّا ذكرنا، والمقصود جهة الشرق، التي تتميّز بكونها ذات طبيعة جبليّة، تفصل مرتفعاتها المدينة عن الحدود السوريّة، فقد شهدت بدورها حركة بناء كثيفة. هذه المرتفعات الشرقيّة، التي كانت عبارة عن أرض صخريّة لا يتكلّف أحد مشقّة البناء على منحدراتها، وكانت أسعار الأراضي فيها متدنّية للغاية، صارت الآن مرغوبة أكثر من سواها، لكونها تطلّ على السهل من جهة، كما أصبحت مقصداً لمن شاء العيش في مكان بعيد من مركز المدينة، وبعيداً من ضجيجها.
أمّا الطامّة الكبرى فتتمثّل في اجتياح البناء لبساتين بعلبك، التي كانت حتّى عهد قريب أشبه بدرّة خضراء تبدأ من سور الهياكل الرومانيّة وتمتدّ حتّى مسافة كيلومتر منه، تقريباً، وقد إختفى نصفها على الأقلّ من خلال عمليّات البناء الهوجاء. هذا التمدّد العمرانيّ، الناتج من التزايد المستمر في عدد السكّان، سوف يترك آثاراً متعدّدة الوجوه، كما سيكون له عواقب على مستويات عدّة.
التراث المهمل والمندثر
ضمّت بعلبك العديد، بل الكثير، من المباني التراثيّة المنتشرة في أنحاء مختلفة من أحيائها. ولا بدّ هنا من التمييز بين مساكن شعبيّة أصحابها من المزارعين أو الحرفيّين، وأخرى ذات طابع بورجوازيّ، كان قد بناها أبناء الطبقة الميسورة، أو حتّى الغنيّة.
كان من الطبيعيّ أن تُبنى بيوت الفئة الأولى من المواد الطبيعيّة المتوافرة في المحيط: الحجر والتراب والطين والأخشاب (الحديث عن هذا النوع من المساكن يستحقّ أن يُخصّص له مقال خاص)، وأن يدخل الحجر المنحوت والأخشاب في بناء الفئة الثانية. لكن هذه المنازل، التي شُيّدت بذوق خاص يحمل رائحة التراث الشعبيّ المعماريّ، وينضح بجماليّة عناصره، بدأت بالإنحسار تدريجاً منذ أكثر من نصف قرن لتحلّ محلّها أبنية “حديثة” كوسموبوليتيّة، متشابهة وكئيبة.
لم يكلّف أحد نفسه اللجوء إلى الموادّ ذاتها في بناء مسكن القرن الحادي والعشرين، بالرغم من إمكانية اللجوء إلى أساليب معماريّة حديثة وتراثيّة في الوقت نفسه، وتتناسب مع البيئة والمحيط، وهو النهج الذي اتّبعته بلدان عديدة، تبعاً لسياسة كانت قد فرضتها سلطاتها. أمّا في مدينة بعلبك، فقد كان الهمّ الأساس لدى السكّان هو تشييد مساكن ذات صفة وظيفيّة، بصرف النظر عن ملاءمتها للطبيعة والمناخ والمشهد العام، وذلك على قاعدة “اللّهم نفسي”، في حين تحتلّ الناحية الجماليّة الدرجة الأخيرة في سلّم أولوياتهم.
في مدينة بعلبك، كان الهمّ الأساس هو تشييد مساكن ذات صفة وظيفيّة، بصرف النظر عن ملاءمتها للطبيعة والمناخ والمشهد العام، وذلك على قاعدة “اللّهم نفسي”، في حين تحتلّ الناحية الجماليّة الدرجة الأخيرة في سلّم أولوياتهم.
وفي ما يخصّ عدم ملاءمة هذه الأبنية لتقلّبات الطقس المتطرّفة، فقد ظهر هذا الأمر جليّا في خلال موجة الحرّ الأخيرة، وفي فصل الصيف بشكل عام، بعدما تحوّلت دواخل تلك البيوت إلى ما يشبه الـ “أفران” الحجريّة، التي يستحيل الشعور بالراحة فيها في الفصل الحار، كذلك من الصعب تحمّل برودتها شتاءً.
أمّا الأمر الآخر، فيتعلّق بضرورة الحفاظ على ما بقي قائماً من تلك البيوت، التي صنعتها يد الإنسان بحبّ وذوق فطريّ تراكم على مرّ القرون، وصولاً إلى إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات البناء ومتطلّباته الصحّيّة. لكنّ العكس هو ما نشهده اليوم، إذ تجري عمليّة تدمير ممنهجة لكلّ ما يمتّ بصلة إلى ذلك الإرث التاريخيّ، ما لم يتمّ تصنيفه من قبل الوزارات المعنيّة كبناء ذي طابع تراثي.
هذا الفعل، الذي هو نتيجة جهل بقيمة تلك المباني، والعائد لنقص الوعي المتواري خلف المصالح الخاصّة، يتمّ من دون ندم ولا حسرة، لا بل قد يُواجه بالسخرية من قبل “الجاهلين”، في حال حاول أحدهم لفت نظرهم إلى ما تمثّل هذه الأبنية من قيمة، وإلى أنّ إزالتها ستغيّر وجه المدينة إلى الأبد. لكن، وكيّ نكون منصفين في هذه النقطة، لا بدّ من الإشارة إلى جهود بعض الأفراد في الحفاظ على ممتلكاتهم التي ورثوها عن أجدادهم، وتجنيبها التخريب والهدم قدر المستطاع.
التخطيط المديني الغائب
يلوح في ذهني، بالرغم من صعوبة المقارنة وسورياليّتها، حالة مدينة كـ “سان بطرسبورغ” في روسيا، إذ وُضعت مخططات هذه المدينة، التي تُطلق عليها تسمية “بندقيّة الشمال”، قبل الشروع في توزيع شوارعها، فسيحة كانت أم ضيّقة، وتشييد قصورها وأبنيتها، وذلك في العام 1703، تنفيذاً لإرادة أشهر قياصرة روسيا بطرس الأكبر، الذي سميت المدينة باسمه.
لم تُبنَ بعلبك بناء لأيّ مخطّط، إذا ما استثنينا هياكلها الشهيرة، وبعض الأنصاب الأخرى، وهذا شيء عاديّ وطبيعيّ في بلادنا. فالمدن تكبر عادة، عندنا وفي أمكنة كثيرة أخرى، بدءاً من نواة، وتمتدّ في مختلف الإتجاهات بحسب ما يسمح به الوضع الجغرافيّ وتوزّع الملكيّات. وإذ يعود للسلطات مهمّة ضبط هذا التمدّد، بحيث يتوجّب الحفاظ على مسألة التواصل بين مختلف الأحياء والتجمّعات البشريّة، فإنّ هذه المسألة لم تُعالج في بلادنا إلاّ على نحو محدود في بعض الأحيان، ولم تؤخذ في الإعتبار مرّات أخرى كثيرة.
وإذ تضاءل هذا الدور أكثر فأكثر بسبب الحرب الأهليّة، التي أضعفت دور الدولة وسلطاتها، فقد عمّت الفوضى كلّ مكان، وبأشكال متعدّدة. وكما هو معلوم، فإنّ هذه الفوضى تزداد كلّما بعدت المسافة عن المركز – العاصمة، لا بل أنها تحدث في العاصمة نفسها، أو بالأحرى في أمكنة لا تبعد عن مركزها سوى كيلومترات عدّة، وما بعض أحياء الضاحية الجنوبيّة سوى مثال ساطع على ذلك. وإذ كانت هذه المناطق، التي تُعتبر لصق العاصمة، تسبح في فوضى موصوفة، فكيف بك بمناطق أخرى تبعد عنها عشرات الكيلومترات أو أكثر.
حول هذه النقطة، يتّفق الجميع على أنّ دور الدولة الفعليّ ينتهي عند حدود بلدة ريّاق، أمّا ما بعدها فيخضع لسلطات أخرى، وليس من المستحيل تسوية أيّ مخالفة بأساليب ملتوية. وفي ما يخصّ التسويات “القانونيّة” التي تمّت إثر إنتهاء الحرب الأهليّة، والمتعلّقة بالمباني المخالفة، فقد كانت شكليّة إلى حدّ بعيد، وخضعت لـ”قانون” المحسوبيّات، بحيث نلحظ ثمّة عدم توازن فاضح بين حجم المخالفة وقيمة المبلغ المفروض على المخالف في هذه الحالات.
هكذا، تحوّلت الطرقات التي تخترق بعض أحياء المدينة، حيث ازدهر البناء بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، وانفلت عقاله من دون حسيب أو رقيب، إلى ما يشبه المتاهات، وهي متاهات تشبه نمط حياة السكّان أنفسهم، اللّامبالين، والغارقين في مستنقعات المجهول في الزمن الحاضر، في انتظار خلاص قد يأتي من السماء، لكنّهم لا يفعلون شيئاً من أجل بلوغه.