عين الصحافيين تقاوم مخرز الإحتلال.. وقائمة الشهداء والجرحى تطول
استقبلت بلدة الخيام الجنوبيّة ابنها الصحافي المصوِّر عصام عبدلله، محمولًا على الأكتاف، فشيعته بحضور حشد من الأصدقاء والمحبّين وأهالي البلدة، بعدما استشهد يوم الجمعة في 13 تشرين الأول جراء اعتداء إسرائيليّ مباشر على الطواقم الإعلاميّة التي كانت متواجدة في منطقة علما الشعب، أثناء التغطيات الإعلاميّة للأحداث الأمنيّة على الحدود اللبنانيّة- الفلسطينيّة.
عصام الذي أمضى نصف عمره (37 عاماً) مصوّراً صحافيّاً ميدانيّاً مع وكالة رويترز، سبق له أن شارك في توثيق مختلف الأحداث الحاصلة في الداخل اللبنانيّ وفي خارجه، كالحرب الأوكرانيّة- الروسيّة، زلزال تُركيّا وغيرها.
منذ أيّام عدة، انضمّ عصام إلى المصوّرين في الجنوب، لمتابعة الأحداث الأمنيّة بالقرب من الحدود اللبنانيّة، إلّا أنّ إسرائيل باغتته بقذيفة موجّهة أودت بحياته، وأصابت كذلك مجموعة من الصحافيّين وهم: مراسلة “فرانس برس” كريستينا عاصي، مراسلة قناة “الجزيرة” كارمن جوخدار، مراسل وكالة “رويترز” العراقي ثائر كاظم، مراسل “رويترز” ماهر عبد اللطيف، ومصوّر “الجزيرة” إيلي برخيا، مراسل “فرانس برس” ديلين كولينز.
شكّل استشهاد عصام صدمة كبيرة لدى الصحافيّين والحقوقيّين والمصوّرين، لاعتباره اغتيالاً وليس من باب الصدفة، وأنّه استهداف مقصود لوسائل الإعلام التي تعمل على نقل الأحداث الأمنيّة اليوميّة للرأي العام، خصوصًا أنّ الطواقم الإعلاميّة التي تواجدت في منطقة علما الشعب مع المصوّر عصام، حطّت في منطقة آمنة بعيدة عن الإشتباكات. وذلك بعد التنسيق مع اليونيفيل، وكانت إشارة “PRESS” واضحة على ستراتهم الواقية من الرصاص، كما التزموا جميعهم بمعايير السلامة المطلوبة كالخوذة وغيرها، مع العلم أنّ جميع كاميراتهم وثّقت في خلال البثّ المباشر مشاهد تعرضهم لمحاولة القتل هذه، بغية إلزامهم التوقّف عن توثيق الإعتداء الإسرائيليّ على الأراضي اللبنانيّة.
في حديث خاص لـ”مناطق نت” مع شقيق عصام، علي عبدلله، أكّد أنّ والدته ترفض تصديق اغتيال عصام، والعائلة ما زالت تحت تأثير الصدمة. عصام كان شغوفًا بمجاله، ومحبوبًا من الجميع.
بابتسامة خجولة، يروي علي حديثه الأخير مع شقيقه قبل أن يتوجّه عصام نحو الجنوب، لافتًا إلى أنّهما كانا يذكّران بعضهما بشكل يوميّ قبل أن يتوجّها إلى عملهما “بأنّ مهمّة المصوّر هي نقل الصورة فقط، ومن المفترض ألّا يتحوّل المصوّر إلى الحدث أو القصّة، إلّا أنّ عصام الذي سعى لنقل الخبر بتفاصيله الدقيقة، تحوّل في لحظة واحدة إلى حدث أليم، تداولته جميع وسائل الإعلام المحلّيّة والدوليّة”.
وعليه، نفّذ تجمّع “نقابة الصحافة البديلة”، ونقابة المصوّرين الصحافيّين، ونادي الصحافة، و”إعلاميّون من أجل الحرّيّة”، وقفة احتجاجيّة أمام مبنى الإسكوا في العاصمة بيروت، للمطالبة بفتح تحقيق دوليّ بمقتل عصام. كما حمّلوا إسرائيل مسؤوليّة ما حصل، وأعلنوا عن بدء مسارهم القضائيّ لمتابعة قضيّة اغتيال عصام دوليًّا.
وحوّلوا بيانًا إلى “اليونيفيل” لمطالبته بتقديم عرض مفصّل حول معطيات اغتيال عصام. وهم بصدد التعاون مع مجموعات حقوقيّة عالميّة لفتح تحقيق شفّاف عبر الأمم المتّحدة، أو تشكيل لجنة تقصّي حقائق دوليّة، أو تحقيق من خلال مكتب المفوّض السامي.
في المقلب الآخر، كان لافتًا بيان وكالة “رويترز” بعد مقتل عصام، إذ لم يتمّ اتهام إسرائيل أبدًا، واكتفت الوكالة بالإشارة إلى أنّ المصوّر الذي يعمل معها قُتل من “ناحية إسرائيل” فقط.
أثار بيان “رويترز” استياء مئات المصوّرين والصحافيّين، الذين اعتبروا بأنّه تفريط واضح بدم عصام. في حين لم يعلّق علي عبدلله في حديثه مع “مناطق نت” على بيان الوكالة، معتبرًا أنّ “جميع الزملاء على علاقة متينة بعصام، وهم بحالة صدمة، والجميع بحاجة لبعض الوقت لتجاوز هذه الصدمة”، متمنّيًا أن تتمكّن “رويترز” من تحقيق العدالة لشقيقه.
معايير عالمية لحماية الصحافيين
داخل مشفى الجامعة الأميركيّة، تستكمل الشابّة الصحافيّة كريستينا عاصي (28 عامًا)، ابنة بلدة أنصار الجنوبيّة، علاجها من إصابتها البليغة في قدميها، بعد أن تقطعت شرايين وأنسجة فيها، فعجزت عن تحريكها، ونُقلت على أثرها من الجنوب إلى بيروت لتلقّي العلاج اللازم.
وفي ما يتعلّق بوضعها الصّحّي، يقول المحامي عيّاد عاصي، وهو أحد أقاربها: “إنّني أزورها وأهلها في المشفى بشكل يوميّ. في البداية كانت حالتها الصحّيّة حرجة جدًّا، وأجريت لها عمليّة جراحيّة طويلة دامت أكثر من 11 ساعة متواصلة، لمعالجة الشرايين والأنسجة، فاحتاجت إلى كمّيّة كبيرة من وحدات الدمّ، وصلت إلى 17 وحدة، وذلك بسبب النزيف الحاصل منذ لحظة الحادثة الأليمة”.
ويضيف عاصي: “إنّ مرحلة علاجها ستكون طويلة، فهي بحاجة إلى الكثير من وحدات الدمّ، وإلى عمليّات أخرى في قدمها، وهي بحاجة لمراقبة مستمرّة للتأكّد من وصول الدم إلى القدم، وبالرغم من الإصابة الحرجة إلّا أنّ الأطبّاء أكدوا بأنّهم لن يحتاجوا إلى بتر ساقها، بل سيتمّ معالجتها لفترة طويلة حتّى التعافي”.
تعمل كريستينا في وكالة “فرنس برسّ” الأجنبيّة منذ عدّة سنوات، وانتقلت من لبنان إلى قبرص لمتابعة عملها في مكتبها هناك، ومع بداية الأحداث الأمنيّة والعسكريّة على الحدود اللبنانية- الفلسطينية، بالتزامن مع معركة “طوفان الأقصى”، عُرض عليها التوجّه إلى لبنان لتغطية هذه الأحداث ونقلها، فوافقت من دون أيّ تردّد.
ويتابع المحامي عاصي بأنّها “وصلت إلى بيروت قبل يوم واحد من إصابتها، فاستقبلتها عائلتها بحفاوة، بعد غيابها عنهم لأشهر طويلة، وكانت متحمّسة جدًّا لمتابعة هذه الأحداث، وما إن توجهت إلى الجنوب حتى باغتتها القذيفة الإسرائيليّة وأسقطتها أرضًا”.
وصلت كريستينا إلى بيروت قبل يوم واحد من إصابتها، فاستقبلتها عائلتها بحفاوة، وما إن توجهت إلى الجنوب اللبنانيّ حتى باغتتها القذيفة الإسرائيليّة وأسقطتها أرضًا.
بعد الاستهداف الإسرائيليّ للطواقم الإعلاميّة، ظهرت كريستينا في مقطع مصوّر، تبادله روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ، فكانت ممدّدة على الأرض وتصرخ من الألم جراء إصابتها في قدمها وقد غطتها الدماء، ولم تتمكّن من تحريكها. وسرعان ما تضامن عدد كبير من الصحافيّين والناشطين مع هذا المقطع المصوّر ونشروا صورًا قديمة لكريستينا، آملين الشفاء العاجل لها والعودة إلى ميدان العمل. وفي المشفى أيضًا، يتابع باقي الصحافيين المصابين علاجهم من الشظايا التي حلّت في أجسادهم، وهم بحالة مستقرّة.
في الخلاصة، إسرائيل لم تتردّد يومًا في ممارسة اعتداءاتها على الطواقم الإعلاميّة في غزّة وفي لبنان، إذ يكمن خوفها من توثيق إجرامها أمام الرأي العام. لكن يبقى السؤال الأهمّ: هل سيتحرّك القضاء الدوليّ لتحقيق العدالة لعصام عبدالله وزملائه ومحاسبة إسرائيل؟
شهداء على درب الجلجلة
في 3 آب من العام 2010، وعلى أثر مواجهات جرت بين الجيش اللبنانيّ وجنود العدو الإسرائيليّ قرب العديسة (مرجعيون)، بسبب قيام إسرائيل باقتلاع أشجار من داخل الأرض اللبنانيّة المحرّرة بمحاذاة الحدود الفاصلة. أطلقت حينها دبابة “ميركافا” إسرائيليّة قذيفة مباشرة من مستعمرة مسكاف عام، باتجّاه تجمّع للصحافيّين اللبنانيين وعدد من عناصر الجيش اللبنانيّ، ما أدّى إلى استشهاد الصحافيّ عساف أبو رحّال (مواليد العام 1955 الكفير- حاصبيا) مراسل جريدة الأخبار في منطقة مرجعيون، في حادثة تشبه إلى حدّ كبير حادثة استشهاد المصوّر عصام عبدالله.
بعد ظهر ذاك النهار، كان عساف أبو رحال قد وصل سيراً على الاقدام إلى المدخل الشرقي لبلدة العديسة، حيث يقع حاجز الجيش اللبناني، بعدما ركن سيّارته قرب الساحة عملاً بنصيحة عدد من أبناء العديسة ممّن حذروه من خطر الوصول بالسيّارة إلى التلّة المكشوفة على المواقع الإسرائيليّة. توجّه مباشرة نحو الدشمة (الغرفة) الأماميّة التي يتجّمع فيها عدد من ضبّاط الجيش والجنود، الذين يراقبون حركة الجنود الإسرائيليّين ودبابة الميركافا، التي لا تبعد أكثر من مئة متر عن موقع الجيش.
وما كاد أن يصل إلى الدشمة، حتى هوت قذيفة حوّلت المكان إلى دخان وصراخ. لحظات قليلة، انقشع الغبار وتبيّن سقوط عدد من الشهداء. بقيت جثة عساف نحو نصف ساعة وسط الدمار قبل أن يتمكّن عناصر الدفاع المدني من سحبها (مع أبو رحّال استشهد كذلك الرقيبان في الجيش اللبنانيّ روبير العشيّ من درب السيم، وعبد الله طفيلي من دير الزهراني في جنوب لبنان). بعدها بأقل من ساعة، أصيب مراسل ومصوّر تلفزيون المنار علي شعيب بشظيّة من قذيفة سقطت بقربه في العديسة، ما أدّى إلى بتر جزء من قدمه.
في 23 تمّوز العام 2006 كانت المصوّرة في مجلّة الجرس ليال نجيب (مواليد مدينة طرابلس العام 1983) في طريقها إلى منطقة صدّيقين للتصوير وإجراء مقابلات مع نازحين فرّوا من جحيم القصف الإسرائيلي، أصابت قذيفة إسرائيليّة موجّهة سيارة الأجرة التي كانت تستقلّها، فأصيبت ليال بشظيّة قاتلة أدّت إلى استشهادها على الفور. بعدها قام عناصر من الصليب الأحمر اللبنانيّ بسحب جثّتها إلى أحد مستشفيات مدينة صور.
كانت ليال تعمل مصوّرة حرّة في مجلة الجرس، ثم عملت مصوّرة لدى وكالة “فرانس برسّ”. كانت حرب تمّوز 2006 أوّل تجربة ميدانيّة لها في تصوير الحروب والعدوان. وكانت أوّل صحافيّة لبنانيّة أنثى تسقط في خلال الحروب الدائرة والمتنقّلة.