في وداع “باردو” والأمكنة الآمنة المتبقية..
في زاوية من شارع كليمنصو في بيروت، مقهى، مطعم، حانة، وأكثر من ذلك بكثير. هناك يقع “باردو” أو كان يقع. المكان هو أحد المساحات القليلة الآمنة في مدينة انعدم فيها السلام والأمان.
أقام “باردو” سهرته الأخيرة ليل الأحد في الواحد والثلاثين من تشرين الأول الماضي، مغلقاً أبوابه بعد ١٥ عاماً لينضم أيضاً إلى قافلة الأماكن التي أٌغلقت بوجهنا. ”باردو” كلمة من أصل تيبيتيّ، وتعني “حالة انتقالية”، وهو شيء جميل جداً، إذ نقل “باردو” شارع المكسيك الذي كان فيه إلى ملتقى ثقافي آمن لمجتمع “الميم عين”. ”باردو” لم يكن مجرد مكان يرتاده الشباب، بل حالة فريدة من نوعها بمواجهة التوحش، مساحة للتعبير عن النفس ومكاناً يمكن أن يتقبل جميع الاختلافات. فضاء غني شكّل حالة انتقالية حقيقية من مجتمع لم يتقبل أي تنوع، إلى مكان يحوي الجميع.
ما ميز “باردو” إضافة لمشروب الـ “جن” الشهير الذي يقدمه ومطبخه اللذيذ المتنوع، كان استضافته لحفلات “الجر”، أو “الدراغ”، وهي حفلات لمجتمع “الميم عين”، و”الدراغ” هو شكل من أشكال الترفيه يقوم به فنانو “الجر” وينتحلون صفة الرجال أو النساء.
مساحة آمنة وعروض مميزة
يتضمن العرض عادةً فقرات فنية متنوعة يقدمها فنانون وهي عبارة عن أغاني أو عروض راقصة أو أداء إيمائي غالباً ما يتم التحضير لهم مسبقاً، وقد يتخلله بعض السكتشات الكوميدية أو المسرحيات القصيرة، والتي يؤدي عرضها وتقديمها إلى تفاعل الجمهور مع تلك العروض. بدأ “باردو” باقامة هذه الحفلات منذ أربع سنوات تقريباً وكان ينظم حفلة واحدة كل أسبوعين.
شهدت تلك الحفلات إقبالاً كبيراً، إذ سرعان ما كان المكان يمتلئ بالكثير من الأشخاص الذين يهوون هذا الفن. إضافة إلى إقامته الحفلات والسهرات المميزة أسبوعياً، حيث كان متنفساً لكثير من الأشخاص، خاصة من الفئات المهمشة، ليعبروا عن أنفسهم في هذه المساحة الآمنة.
منذ أسبوعين وأكثر أغلق “باردو” أبوابه بعدما كانت مشرّعة على مدى ١٥ عاماً. لم تكن الأزمة الاقتصادية السبب في ذلك، إذ استطاعت الإدارة التشبث بالحياة والتكيّف مع الظروف وفي أصعبها. ما أغلق “باردو” هو الجشع الذي تمثل بشخص استأجر كامل المبنى الذي يقع فيه “باردو”. ولم يكتفِ بهذا القدر، بل أراد استئجار المكان الخاص بباردو أيضاً.
مسلسل المضايقات
هنا بدأ مسلسل المضايقات التي تضمنّت قطعًا مفاجئًا ومستمرًا للكهرباء، وأحيانًا أثناء السهرات وأوقات الذروة. الأمر الذي حذا بالإدارة إلى إغلاق المطبخ حتى لا يفسد الطعام بداية وهذه شكّلت انتكاسة للمقهى . استمر التضييق من قبل المستأجر الجديد الذي طالب بما يقارب الأربعة آلاف دولار شهرياً مقابل بدلات الإيجار، ومع قرب انتهاء عقد الإيجار، اشترط المالك مبلغاً مماثلاً أو إخلاء المكان.
لم تتوقف العوائق التي واجهت “باردو” عند بدلات الإيجار بل تعدتها إلى صاحب مولد الكهرباء الذي طالب بملغ ألفي دولار كبدل للإشتراك الشهري، ما رفع قيمة المستحقات إلى الستة آلاف دولار، أي ما يعادل المئة وعشرون مليون ليرة شهرياً على سعر صرف العشرين الف مقابل الدولار، وهو مبلغ لا يمكن لباردو حتى تخيله.
حاولت إدارة “باردو” من خلال تواصلها مع مالك المبنى الوصول إلى تسوية ما، إلا أن الأخير تذرّع بأنه يبحث منذ فترة طويلة عن مبنى أثري كهذا، يهدف من خلاله المحافظة على التراث. لكن المفارقة الغريبة قضت باستبدال “المحافظة على تراث المبنى”، بمحو جزء جميل من هوية بيروت الثقافية وتعدديتها، وهدد أحد أكبر مساحات الأمان فيها.
غاب صوت الموسيقى وانطفأت الأضواء
لا أحد يعلم ماذا يريد هذا المستثمر فعله بالمبنى، إذ استأجر كامل طوابقه الثلاثة، ثم السطح الذي كان يقطن في الغرفة المشيدة عليه ناطور المبنى الذي أجبره المستثمر الجديد على الرحيل، والآن الطابق الأرضي. كل هذه التطورات أفقدت “باردو” القدرة على الاستمرار والحياة. غاب صوت الموسيقى وانطفأت الأضواء ليعم صمت وظلام رهيبين. كل ذلك يدل على شيء واحد هو أن بيروت المدينة التي كانت مفعمة بالحياة لم تعد تصلح سوى للحزن والموت.
ماذا سيحصل بباردو الآن؟ لا أحد يعلم. المشكلة الرئيسية هي مشكلة المكان، إذ من الممكن أن يُعاد الافتتاح في مكان آخر إن وجدت الادارة ما يلائمها في ذلك، لكن حتى ذلك الحين، سيتعامل الفريق الذي كان يعمل في “باردو” كأن الاغلاق هو نهائي، وسيحاولون العمل في مكان آخر. لكن المشكلة في إغلاق “باردو” لم تعد مشكلة إغلاق محل، بل في تشتت عائلة، تنتظر بفارغ الصبر أن تجتمع مجدداً.
رحلة البحث عن “باردو” آخر هي رحلة صعبة وشاقة، هي رحلة البحث عن مكان يشبهنا ويعطينا الأمان، في بلد يحاول بكل إصرار أن يلفظ أبنائه وتنوعهم. بلد لم يعد يتسع إلا لمن يملك المال والنفوذ. وكأن قدر المهمشين الدائم هو معاقبتهم على صمودهم وتمردهم ورفضهم للظلم. يتجلى ذلك عقاباً يفصح عن نفسه في كل مناسبة، ويحتل تفاصيل حياتهم ومساحاتهم الآمنة، حتى أحلامهم، ليقضي على كل ما يجعلهم يتشبثون بالحياة، ويتركهم جسداً بلا روح، يبحثون عن طريقة للرحيل.
وداعاً “باردو”.. فلتبقَ دائماً مكان أماننا.. لن نتعب في التفتيش عنك.. لعلنا نراك قريباً