كيف تغيّر الحرب خريطتنا النفسية.. بين الصدمة والتكيّف
ما نشهده في لحظات الحرب هو انهيار دراماتيكيّ للهرم الطبيعيّ للحاجات الإنسانيّة بحسب “هرم ماسلو” (نظرية سيكولوجيّة أعدّها إبراهام ماسلو وانتشرت لأوّل مرّة سنة 1943 بعنوان “نظريّة تحفيز الإنسان” أو “نظرية الدوافع الإنسانيّة”). في هذه اللحظات العنيفة، يجد الإنسان نفسه مدفوعًا فجأة إلى قاعدة الهرم، حيث تطغى الحاجات الفيزيولوجيّة الأساسيّة والحاجة إلى الأمان على كلّ ما عداها من حاجات.
إنّ النظام الاجتماعي المعتاد، الذي يسمح للفرد في التحرّك بمرونة بين مستويات مختلفة من الضرورات، ينهار فجأة. فالإنسان الذي كان بالأمس يسعى إلى تحقيق ذاته من خلال الإبداع أو العمل، يجد نفسه اليوم منشغلًا بتأمين المأوى الآمن والطعام والماء. هذا الانحدار المفاجئ في سلّم الحاجات يولّد اضطرابًا نسبيًّا في الكيان النفسيّ الفرديّ والعام.
الأمر المثير للاهتمام هو أنّ بعض الأشخاص، حتّى في خضمّ هذا الانهيار، يتعملقون، مظهرين قدرة استثنائيّة للحفاظ على حاجات المستوى الأعلى، كي يثبتوا أنّ الدافع نحو النموّ والتطوّر يمكن أن يستمرّ حتّى في ظلّ الظروف القاسية. لكنّ الظروف القاهرة لا تولّد تغييرًا بين الحالة النفسيّة الجيّدة نحو الأسوأ فحسب، بل هناك كثير من الانفعالات والأحاسيس الأخرى التي تتضرّر مثل تلك المتقاطعة مع العزلة والأرق.
من الصدمة إلى التكيّف القسريّ
“لم أعد أعرف ما ينتابني بشكل دقيق. مشكلتي أنّني اعتدت بحيث استطعت التكيّف مع الروتين القهريّ الذي كان من المستحيل أن أتخيّله في حياتي السابقة. الإنسان كائن جبّار، تظهر بداخله قوّة لم يكن ليتصوّر وجودها” تقول إسراء ف. لـ “مناطق نت”، هي النازحة في مركز إيواء في برج أبي حيدر.
بعض الأشخاص، حتّى في خضمّ هذا الانهيار، يتعملقون، مظهرين قدرة استثنائيّة للحفاظ على حاجات المستوى الأعلى، كي يثبتوا أنّ الدافع نحو النموّ والتطوّر يمكن أن يستمرّ حتّى في ظلّ الظروف القاسية
في هذه الشهادة نرى نموذجًا واضحًا لما يسمّى “العصاب الخلّاق” حيث يطوّر الفرد آليات تكّيف غير اعتياديّة استجابة لظروف قاهرة. قول إسراء “لم أعد أعرف ما ينتابني بشكل دقيق” يكشف حالًا من الاغتراب عن الذات، لكنّه اغتراب وظيفي يهدف إلى البقاء النفسيّ.
عندما تقول “اعتدت”، فهي تصف عمليّة معقّدة من إعادة تشكيل الشخصيّة استجابة للقلق الأساس. هذا التكيّف ليس تكيّفًا صحّيًّا بالضرورة، لكنّه يمثّل محاولة الذات لخلق توازن جديد في ظروف غير طبيعيّة. ما تصفه كـ”روتين قهريّ” هو في الواقع آليّة دفاعيّة تهدف إلى خلق إحساس بالتحكّم في بيئة فوضويّة ومهدّدة.
عبارة “كان من المستحيل أن أتخيّله في حياتي السابقة” تكشف عن الفجوة العميقة بين الذات السابقة والذات الحاليّة. هذا الانقطاع في استمراريّة الذات هو استجابة طبيعيّة للصدمة، لكنّه أيضًا يشير إلى قدرة النفس البشريّة على إعادة تشكيل نفسها في مواجهة الظروف القاسية.
تحليل لغة الفقد والتكيّف
على رصيف شارع المقدسي في منطقة الحمرا، فتاتان من برج البراجنة ترسمان على دفتريهما غير عابئات بالمارّة. الأولى فلسطينيّة، وهي نادين التي أخبرتنا أنّها تشعر بسعادة في هذا المكان الجديد: “هون المطرح جديد عليّي. أوّل مرة بلعب بالمدرسة من دون ما تعيّط علينا الناظرة” لتردف رفيقتها، وهي من آل العنّان: “أنا بزعل على غراضي وألعابي اللّي بقيو بالبيت. هون مبسوطة شويّ، وهونيك ببيتنا كنت مبسوطة أكتر”.
وفي مكان آخر تقول جود، ذات السنوات الستّ: “راحو كلّ تيابي بالبيت. صارو تحت الحجارة”. فمنزل العائلة في منطقة المريجة سقط من ضمن المبنى الفَارِه بعد ثلاثة أسابيع من بداية الحرب. تأثّرت جود حتّى بكت، بينما سارعت عمّتها لمواساتها قائلة: “هودي التياب اشترولك ياهن أهلك من دون ما ياخدو رأيك. بكرا بتجيبي تياب على ذوقك”.
في هذا المشهد البسيط عند ذاك الرصيف، نرى تجلّيات مختلفة في كيفيّة تعامل الأطفال مع الصدمة. كلّ طفلة تقدّم نموذجًا فريدًا في التعامل مع الفقد والتكيّف مع الواقع الجديد، مظهرة القدرات الاستثنائيّة للنفس البشريّة في مرحلة الطفولة. نادين، في تعليقها عن المدرسة والناظرة، تكشف عن قدرة الطفل على إيجاد مساحات للفرح حتّى في خضمّ المأساة. عبارتها “هون المطرح جديد عليّي” تعكس ما نسمّيه “التعويض الإيجابي” حيث يجد الطفل في الظروف القاسية فرصًا جديدة للتحرّر من قيود سابقة. الغياب المفاجئ للسلطة التقليديّة (الناظرة) يخلق مساحة نفسيّة للتنفيس والتعبير الحرّ.
في المقابل، تظهر رفيقتها من آل العنّان نموذجًا مختلفًا في التعامل مع الفقد. تعبيرها عن الحزن على “غراضي وألعابي” يكشف عن الدور المحوريّ للأشياء المادّيّة في بناء عالم الطفل النفسيّ. هذه الأشياء ليست مجرّد ممتلكات، بل هي علامات تؤسّس لاستمراريّة الذات وتماسكها. مقارنتها بين “هون” و”هونيك” تعكس صراعًا داخليًّا للحفاظ على الاتّصال بالماضي مع محاولة التكيّف مع الحاضر.
أمّا جود، الطفلة ذات السنوات الستّ، فتقدّم لنا نموذجًا عن الصدمة المباشرة. عبارتها “راحو كلّ تيابي بالبيت. صارو تحت الحجارة”. الثياب هنا ليست مجرّد ملابس، بل هي امتداد لهويّة الطفلة وإحساسها بالأمان.
فهم ديناميكيّة التكيّف
الإنسان كائن قادر على التكيّف حتّى في أصعب الظروف. وبينما تفرض الحرب علينا العودة إلى المستويات الأساسيّة من الحاجات، تظلّ القدرة على النموّ والتطوّر كامنة، تنتظر الظروف المناسبة للتجلّي من جديد.
الحرب تكشف لنا أنّ هرم الحاجات ليس بناءً جامدًا، بل هو نظام ديناميكيّ قابل للتكيّف مع الظروف المتغيّرة. وفهم هذه الديناميكيّة أساس لمساعدة الأفراد على التعامل مع صدمة الحرب والحفاظ على إمكانيّة النموّ حتّى في أحلك الظروف.
الإنسان كائن قادر على التكيّف حتّى في أصعب الظروف. وبينما تفرض الحرب علينا العودة إلى المستويات الأساسيّة من الحاجات، تظلّ القدرة على النموّ والتطوّر كامنة، تنتظر الظروف المناسبة للتجلّي من جديد.
جغرافيا القلق وانكشاف الذات
في مراكز النزوح، حيث تتحطّم كلّ الحدود بين “الأنا” و”الآخر”، نشهد سقوط “المرآة” التي تشكّل صورتنا عن ذواتنا. الجسد المنهك، المحروم من خصوصيّته، يجد نفسه عاريًا من كّل الدلالات الرمزيّة التي كانت تمنحه هويّته. هنا يظهر ما يسمّيه لاكان* “الجسد المقطّع” ذلك الإحساس البدائيّ بالتشتّت الذي نحاول طوال حياتنا إخفاءه.
المؤمن الذي يفقد قدرته على إخفاء رعبه يواجه انهيار “الدال الرئيسيّ” الذي كان ينظّم عالمه الرمزيّ. إيمانه، الذي كان يمثّل نقطة ثبات في عالمه النفسيّ، يتحوّل إلى مجرد علامة فارغة في مواجهة “الواقع” الصادم للحرب. في المقابل، قد تظهر الشجاعة عند شخص اللاديني إذ إنّ الأسس النفسيّة تنغرس في ذات الإنسان في مراحل ما قبل الإدراك العقائديّ.
انفجار اللاوعي
في السهرات الطويلة، حيث يتدفّق البوح في ساعات الفراغ اللامتناهية، نشهد ما يمكن تسميته “انفجار اللاوعي”. الكلمات التي تنطلق في هذه اللحظات ليست مجرّد اعترافات، بل هي تصدّعات في “الجدار الرمزيّ” الذي يحمينا عادة من مواجهة حقيقة رغباتنا ومخاوفنا.
الأخبار العاجلة، بتواترها المحموم، تمثّل اقتحامًا متكرّرًا لما يسمّيه لاكان “النظام الخيالي” تلك الصورة المتماسكة التي نبنيها عن العالم. كلّ خبر جديد يمثّل صدمة تزعزع هذا النظام، مولّدة توتّرًا عصبيًّا يكشف هشاشة بنيتنا النفسيّة.
البكاء المكتوم واللامبالاة يمثلان وجهين لعملة واحدة، محاولة يائسة للتعامل مع ما يسمّيه لاكان “الصدمة”. البكاء هو محاولة للتفريغ، واللامبالاة هي آليّة دفاع ضد الفيض العاطفيّ الذي يهدّد بإغراق الذات.
الحرب كلحظة انكشاف عنيفة
في هذا المشهد المأسويّ، تتكشّف الذات على حقيقتها، كيانًا مشروخًا، يحاول دائمًا سدّ الفجوة بين “الأنا” و”الآخر”، بين “الواقع” و”الرمزيّ”. الحرب، ليست سوى لحظة انكشاف حادّة لهذا الشرخ الأساس في وجودنا.
نحن إذاً أمام لحظة تعرية شاملة، إذ تسقط كلّ الأقنعة التي نرتديها في حياتنا العاديّة. لكنّ هذه اللحظة، بكلّ ما فيها من رعب، هي أيضًا لحظة حقيقة، – لحظة نواجه فيها ذواتنا عارية من كلّ الأوهام التي نحيط بها أنفسنا عادةت لهذا نستطيع تخيّل الحرب كمرآة ضخمة لهوّياتنا المكنونة تحت جلودنا، لكنّها لم تبقَ كذلك حين دخل الجميع في الحيّز المشترَك.
\*(جاك لاكان 1901-1981 محلّل نفسي فرنسيّ ولد في بّاريس وتوفّي بها. اشتهر بقراءته التفسيريّة لسيغموند فرويد ومساهمته في التعريف بالتحليل النفسيّ الفرويديّ في فرنسا).