متحف آثار صُوْر معلّق على دولار الـ 1500.. والإيطاليّون يفاخرون بأجدادهم الرومان
يتباهى الجنود الدوليّون لحفظ السلام في جنوب لبنان (الإيطاليّون) بتاريخ أجدادهم الرومان، الموغل حتى العظم في مدينة صور. بدءًا من اسم القارّة الأوروبّيّة التي اشتقّ منها، حيث كان لملكها أجنور، أميرة ابنة كانت تدعى (أوربا).
ويتغنّى الزوّار من الجنود الإيطاليّين، خلال مهامهم العسكريّة والخدماتيّة، المتمثّلة بهبات مشاريع تأهيل وصيانة الآثار، في موقعي آثار البصّ والآثار البحريّة، بإنجازات وأعمال تمجّد تلك الحقبة، العائدة إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولمّا تزل متربّعة على عرش المواقع الأثريّة في العالم، خصوصًا قوس النصر والمدرّجات والملعب الرومانيّ الكبير (الميدان) وحمّالات جرّ المياه، والمسلّات الجنائزيّة ومئات النواويس الحجريّة والرخاميّة المزخرفة بالرسوم المتنوّعة، وهي كانت مخصّصة مدافن لكبار ملوكهم الذين تعاقبوا على حكم المدينة في فترات متلاحقة.
يُولي الإيطاليّون الرومان، هذا الموقع، المعروف بموقع آثار البصّ المنتشر على مساحة أكثر من ثلاث مائة ألف متر مربّع، اهتمامًا خاصًّا، انطلاقًا من الروابط التاريخيّة، التي تجمعهم مع أبناء صور القدماء، وتجديد هذه التفاعلات في المرحلة الحاليّة، حيث أقام الإيطاليّون المنضوون في قوّات حفظ السلام، بعد حرب تمّوز 2006 للمرّة الأولى، عروضهم العسكريّة الاحتفاليّة في باحة الملعب الرومانيّ وعلى أحد المدرّجات الجنوبيّة تحديدًا، وهو واحد من ثلاثة مدرّجات، حيث يُقام عند أسفل إحداها مسرح وعروض غنائيّة راقصة وأمسياتٌ من الشعر، ضمن فعاليات مهرجانات صور والجنوب الدوليّة، التي توقّفت منذ جائحة كورونا.
هذه المدرجات، هي من ضمن ميدان العربات، سبق وأن تعرّضت قبل قرون عدّة لهدم أجزاء منها بفعل الزلازل المتعاقبة على صور، وقد نقلت أجزاء من حجارتها العملاقة إلى مدن ساحليّة عالميّة عديدة، ومنها مدينة عكّا في فلسطين.
ويشكلّ موقع آثار البصّ، إلى جانب موقع الآثار البحريّة وغيرهما من المواقع، رافدًا سياحيًّا كبيرًا في المدينة، ويتوافد إلى زيارتها سنويًّا الآلاف من الزوّار، لا سيّما السيّاح الاوربّيّون، وفي طليعتهم الألمان والفرنسيّون والأسبان والإيطاليّون وغيرهم، إلاّ أن عقد هذا الموقع، وتحديدًا البصّ، لم يكتمل بسبب عدم تجهيز متحف الآثار، الذي جرى تأهيله وترميمه وتدشينه في العام 2014، في إطار مشروع الإرث الثقافيّ، المموّل من البنك الدوليّ، جرّاء توقّف المتعهّد عن العمل.
يشكلّ موقع آثار البصّ، إلى جانب موقع الآثار البحريّة وغيرهما من المواقع، رافدًا سياحيًّا كبيرًا في المدينة، ويتوافد إلى زيارتها سنويًّا الآلاف من الزوّار، لا سيّما السيّاح الاوربّيّون، وفي طليعتهم الألمان والفرنسيّون والأسبان والإيطاليّون وغيرهم
المتحف بلا مقتنياته
أنشئ متحف آثار صور، في مطلع سبعينيّات القرن الماضي، وتعرّض للقصف الاسرائيليّ، في إبّان اجتياح العام 1982، ثمّ أُعيد ترميمه في العام 1987.
وخضع مبنى المتحف المؤلّف من طبقتين اثنتين، الواقع في وسط موقع آثار البصّ، خلال الفترة الماضية (2012- 2014) إلى عمليّة تأهيل شاملة، إلى جانب إنشاء مخزنين للقطع الأثريّة، وبوّابة دخول، ودشّنه في تموز العام 2014 وزير الثقافة في حينه روني عريجي، على أن يلي التدشين، مرحلة ثانية، تشمل تنظيم القطع الأثريّة التاريخيّة العائدة إلى مختلف المراحل التاريخّية، ابتداءً من العصر الحجريّ، مرورًا بالحقبات الفينيقيّة والرومانيّة والصليبيّة والإسلاميّة وغيرها، ومن بينها عدد من النواويس المميّزة في موقع آثار البصّ.
وكان من المقرّر بحسب مسؤول المواقع الاثريّة في الجنوب الدكتور علي بدوي أنّ يضمّ المتحف كذلك معلومات تاريخيّة عن صور، ومركزاً تثقيفيًّا ومعلوماتيًّا بالتعاون مع “الأونيسكو”، وسيستفيد من ذلك الطلاب والتلامذة في أبحاثهم ودراساتهم في شأن الآثار والمراحل التاريخيّة وسواها.
ويضيف بدوي لـ”مناطق نتّ” إنّ “القطع الأثريّة الموجودة كافية لملء الطبقتين، وسيكون بينها القطع الأثريّة التي عثر عليها في المقبرة الفينيقيّة في منطقة البصّ وناووس راقصات باخوس.
وحول سبب توقّف العمل في المرحلة الثانية كي يكون المتحف جاهزًا لاستقبال الزوّار، توضح مصادر في المديريّة العامّة للآثار لـ”مناطق نت” أنّ العمل توقّف بدايةً في العام 2019 بسبب الظروف التي مرّ بها لبنان، ثم الظروف العامّة لانتشار وباء “كوفيد 19” وقد غادر المقاول الإيطالي لبنان في هذه الفترة. وتوقّف العمل لاحقًا نتيجة بعض التفاصيل المالية العالقة والمرتبطة بتحويلات اعترض عليها المقاول بسبب قيمة الدولار. وقد عاد المقاول من جديد على أمل الوصول إلى تسويات ما، والانطلاق في هذا المشروع من جديد.
الملعب الروماني الكبير
يحتلّ الملعب الرومانيّ، الذي يعود تاريخ نشوئه إلى القرن الثاني الميلاديّ، مرتبة ثاني أكبر ملعب من نوعه مسجّل في العالم، كما يعتبر أكبر ملعب محفوظ في العالم، ويبلغ طوله الذي يتوسّط المدرّجات الثلاثة، نحو 480 مترًا، وعرضه 120 مترًا، أيّ ما يقارب ستين ألف متر مربّع، وهو يتّسع لأكثر من ثلاثين ألف متفرّج. وكانت ألعاب الرياضة الرئيسة، التي يحتضنها الملعب، رياضة سباق العربات، وهي واحدة من أكثر الألعاب الرياضيّة الشعبية رواجاً في العالم آنذاك.
ويتوسّط الملعب حاجزٌ مغطّى بالموزاييك، وفي داخله مجموعة من نوافير المياه. وفي أسفل المدرّج تمّ استغلال الفراغ الأرضيّ ليكون سوقاً تجاريّة. ويلاحظ في محاذاة كلّ محلّ تجاري وجود ثقب في الجدار المقابل، بغية ربط الخيول التي كانت تعتبر وسائل النقل المعتمدة حينذاك.
يحتلّ الملعب الرومانيّ، الذي يعود تاريخ نشوئه إلى القرن الثاني الميلاديّ، مرتبة ثاني أكبر ملعب من نوعه مسجّل في العالم، كما يعتبر أكبر ملعب محفوظ في العالم، ويبلغ طوله نحو 480 مترًا، وعرضه 120 مترًا، وهو يتّسع لأكثر من ثلاثين ألف متفرّج.
ثمّة مجموعة مداخل رئيسة لهذا الملعب، أبرزها المدخل الجنوبي، الذي تعلوه القناطر الحجريّة. وكانت المداخل في تلك الفترة، تقسم حسب الطبقات الاجتماعيّة، أيّ أنّ لكلّ طبقة اجتماعية مدخلاً خاصًّا بها، وعلى جانبي الملعب توجد أبنية مخصّصة للفرق الرياضيّة. كما أنّ الألعاب الدوريّة كانت تقام في صور كلّ خمس سنوات، خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد.
قوس النصر- بوابّة المدينة
يعتبر قوس النصر “لؤلؤة” موقع آثار البصّ، نظرًا إلى فرادته وجماليّته وشموخه، حيث يُشاهد من كلّ الجهات، ويعدّ رمزًا أساسيًّا وعنوانًا بريديًّا، يُحاكي المدينة.
خضع هذا القوس للترميم، في ستينيّات القرن الماضي، وكذلك في العام 2014، ضمن مشروع الإرث الثقافي، إذ أعيد ترميمه وتصليبه وتقويته مرّة ثانية، بطريقة احترافية، بحيث ارتفعت السقالات الخشبيّة على ارتفاعه الشاهق، وذلك بعد إجراء تقييم للمشاكل الإنشائيّة والبنيويّة للقوس البالغ ارتفاعه 21 مترًا، وقد شيّد قوس النصر “البوابة” في أوائل القرن الثالث الميلاديّ، أيّ في عهد أباطرة أسرة “سفيروس” ممّن حكموا المدينة بين عامي 193 و253 م. وهو مسجّل على لائحة التراث العالميّ، وأهمّ المعالم الاثريّة في لبنان.
يقول بدوي: “إنّ قوس النصر بناه أبناء مدينة صور في القرن الثانيّ على شرف الإمبراطور الرومانيّ أدريان، الذي كانت تربطه علاقات جيّدة بالمدينة، وقد جعلها عاصمة اتحاديّة لولاية الشرق. وقد تمّ بناء القوس في تلك الحقبة من الحجر الرمليّ على المدخل الرئيسيّ للمدينة من ناحية الشرق، عند أوّل الطريق الرومانيّة المرصوفة بحجارة ضخمة.
ويعتبر القوس إلى جانب كونه يرمز إلى حقبة تاريخيّة مهمّة، تحفة معماريّة وجماليّة، وتتداخل بين حجارته العملاقة أعمدة ضخمة في أعلاها رسومات منحوتة ومصقولة بعناية. كما أنّ الشكلّ الخارجيّ كان يتغيّر مع الذوق العام للمدينة ويُغطّى بالألوان أو بالرخام.
وعلى جانبي القوس، كان يرتفع برجان مستديران كبيران. وقد وُجدت آثار للفسيفساء كانت تغطّي أرض البرج من الناحية الشماليّة، في حين أنّ أرض البرج الجنوبيّ كانت مرصوفة بحجارة كلسيّة وصخريّة مربّعة الشكل. وإلى جانب هذا البرج، كشفت الحفريّات بقايا حوض كبير كان يتغذّى بمياه برك “رأس العين” التي تنقلها قناة محمولة إلى يسار طريق البلاط الملكيّ، حيث كانت تشكّل هذه المياه المصدر الرئيسي لها.
صور في عيون الشاعر نونّوس
ينشر ابن مدينة صور المؤرّخ معن عرب (توفّى 2015) في كتابه “صور، حاضرة فينقيا” الصادر في العام 1969 (هو واحد من الكتب القلائل في حينه عن صور) قولاً في متن كتابه للشاعر “نونّوس يقول فيه: “إن لم تكن صور أقدم المدن الفينيقيّة، فقد كانت في كلّ الأدوار التاريخيّة أهمّ مدن فينقيا على الاطلاق”. ويردف: “في منتصف القرن الخامس بعد الميلاد، ألّف الشاعر نونّوس ملحمة في ثمانية وأربعين كتابًا أشتهرت ببلاغتها ولهجتها الحماسيّة. وقد دُعيت “الديونيزيه” نسبة إلى بطلها الإله ديونيزوس”.
وفي الكتاب الأربعين من الملحمة “يزور ديونيزوس صور، موطن قدموس وأوربّا، فيتعرّف على معالمها ويُعجب بجمال موقعها، ثمّ يزور هيكل ملكها ملقارت، الذي يرحّب به ويستقبله، ويقصّ عليه تاريخ صور. تجوّل باخوس، وهو إله الخمر عند الإغريق القدماء في أنحاء المدينة التي لم يلتهمها البحر كلّها، بل فصّلها على شكلّ السيدة “لونا” عندما تكون في السماء مقاربة كمالها، لا ينقصها له سوى قطعة صغيرة.
وعندما وجد اليابسة موصولة بالبحر، تملّكته دهشة مزدوجة، إذ إنّ صور تقع في وسط البحر قطعة من اليابسة تلتفّ حولها المياه من جوانبها الثلاثة، تستلقي فيها كما لو كانت عذراء تسبح تاركة للمياه الرأس والعنق والصدر، ناشرة ذراعيها إلى الجانبين، بينما يضفي الزبد على جسدها بياضًا ناصعًا، وترتكز برجليها إلى الأرض، تضمّ اليمّ في معانقة متينة. ثمّ شاهد باخوس منزل أجنور وساحته، وبيت قدموس والغرفة التي قضت فيها أوربّا صباها، راجعًا بافكاره إلى قصّة اختطافها، ذاكرًا الإله الثور”.
وخاطب باخوس صور، عند مغادرتها قائلاً: “أيّتها العذراء، لن أقطن السماء بعد الآن لحبّي لك”.
وقال فيها القدّيس هيرونيموس سنة 340 ميلاديّة إنّ صور أجمل وأجمل ما شاهد.
ويقول المؤرّخ عرب في ختام مقدّمة كتابه: “إنّ صور اليوم، وإن مضى على غفوتها حوالي سبعة قرون، ما زالت محافظة على أثمن تراث تركته لها صور الأمس”.