محارق الموت في الكفور.. الأهالي يصارعون والأثر السلبي متوقّع لأجيال
“نهار الخميس، فقنا ع بيوتنا شحبار أسود.. في ناس كبّت المونة ومزروعات تلفت. أطفال اختنقت ومرضى سرطان فلّوا من بيوتهن.. ما عم فيهن يلقطوا نفس”، هذا ما سمعناه من أحد سكّان بلدة الكفور.
لم يكن صباح 24 آب (2023) كغيره من الصباحات. لم يجلس أهالي الكفور والقرى المجاورة على شرفات منازلهم لاحتساء القهوة على مهل، بل تنشقوا “الكربون” الأسود بينما غطّى “الشحتار” (غبار أسود مشتق من المشاحر) بيوتهم وأرزاقهم، وكلّ ما قدّر له أن يكون على تلك المساحة الجغرافيّة من وادي الكفور جارة النبطية، والذي يقع بين تجمّع بلدات، بين النبطية والكفور وحبّوش ودير الزهراني وتول وصولاً إلى النميريّة. كلّ ذلك حدث بفعل مخلّفات المعامل المخصّصة لحرق الإطارات المطاطيّة المستعملة واستخراج الموادّ البتروليّة والكيميائيّة والأسلاك المعدنيّة، والتي لا تحترم أدنى الشروط البيئيّة والصحّيّة.
منذ بداية التسعينيّات، تتوالد أزمات وادي الكفور البيئيّة، من دون معالجة جذريّة أو جزئيّة، من الكسّارات والمقالع، إلى مكبّات النفايات العشوائّية حيث تُرمى نفايات بلدات عدة، إلى بؤر حرق آلاف الإطارات. وهذا لا يعني أنّ الأهالي لا يتنشقون هذه المادة أو غيرها من مختلف الغازات الأخرى يوميّاً، إلا أنّ الهواء الذي أتى بآثار الجريمة وأدخلها إلى بيوتهم، كان جرس إنذار أخير.
هي قصّة ليست بجديدة، ولا حتّى من نسج الخيال. إلّا أنّ قدرة التحمّل التي بلغت حدّها الأقصى لدى أهالي الكفور والقرى المجاورة دفعت بهم لإطلاق صرخة ألم ووجع منذ أيّام، بل منذ أسابيع، متجاوزين كلّ الخطوط، غير آبهين بشيء أمام صحّتهم وصحّة أطفالهم الذين يتجرّعون السمّ كلّ يوم قبل النوم، وكأنّهم ضحايا إحدى القصص المرعبة.
معامل الموت
بدأت قصّة معامل الإطارات في الكفور منذ العام 2012، وبدلاً من أن تنحسر، تمدّدت وتوسّعت حتّى غدت معاناة سكّان البلدة والجوار من ثلاثة معامل، بقي منها معملان هما: معمل الخنسا الذي باشر بالعمل في العام 2019، وطهماز الذي بدأ في العام 2020، بعد توقّف معمل تاج الدين. تشتغل هذه المعامل على حرق الإطارات المطّاطيّة التي يتمّ تجميعها من المناطق اللبنانيّة كافة، حيث يتمّ استخراج موادّ منها بعد الحرق تُستخدَم في تشغيل الموّلدات الكهربائيّة ومعامل الإسمنت، وكذلك استخراج الأسلاك المعدنيّة، من دون الإلتزام بأدنى شروط السلامة العامّة، ولا حتّى الإلتزام بالقوانين والأنظمة. وقد اتّخذت هذه المعامل من وادي الكفور الذي أصبح منذ سنين طويلة بؤرة للتلوّث، مكاناً مثاليّاً لها ولمفاعيلها.
يعكس حرق الإطارات في الهواء الطلق ضرراً كبيراً على صحّة الإنسان والبيئة. حيث تمتلئ الأبخرة المنبعثة بالعديد من المواد الكيميائيّة السامّة التي تحتوي عليها الإطارات (بما في ذلك المركّبات العضويّة المتطايرة، مثل البنزين والمعادن والرصاص والهيدروكربونات العطريّة). بالإضافة إلى ذلك، يؤدّي محتوى الكلور في الإطارات إلى تكوين الديوكسينات والفيورانات (وهي موادّ كيميائيّة شديدة السمّيّة).
بدأت قصّة معامل الإطارات في الكفور منذ العام 2012، وبدلاً من أن تنحسر، تمدّدت وتوسّعت حتّى غدت معاناة سكّان البلدة والجوار من ثلاثة معامل، بقي منها معملان
يتحدّث أحد أهالي الكفور عن أنّ كثراً من سكّان المنطقة لا يستطيعون الجلوس في بيوتهم، ينزحون في معظم الليالي بعدما يعجزون عن التنفّس في ظلّ الروائح والإنبعاثات التي تأتي من الوادي. أهالي البلدات المجاورة يختنقون، ويعانون يوميّاً، وكلّ هذا لم يحرّك ساكناً عند الجهات السياسيّة المسيطرة في المنطقة.
نسبة السرطان مخيفة.. والنفَس ممنوع!
في أثناء تحرّك أهالي الكفور يوم الخميس الفائت (31 آب)، تحدّثوا عن “تقرير صادر عن إحدى أكبر وأهمّ المستشفيات في بيروت، الذي يصنّف مناطق دير الزهراني، الكفور، تول، حبوش ومدينة النبطية من أكثر البؤر السكنيّة المصابة بأمراض سرطانيّة جراء هذا التلوّث الخطير في المنطقة”. في حين تلقّى نحو 500 مصاب بالسرطان العلاج في مستشفى النبطيّة الحكوميّ منذ بداية العام الجاري حتّى شهر أيار الفائت. كلّ هذه الأرقام والتقارير ليست نهائيّة، فما خفي كان أعظم.
ليس غريباً أن تسجّل تلك المنطقة أعلى نسبة إصابات بالسرطان بالإضافة إلى مئات الإصابات بالربو وغيرها من الأمراض التنفّسيّة. يستخدم المعملان تقنيّة التفكّك الحراريّ في حرق الإطارات لإنتاج الوقود من أجل الإستخدام الذاتيّ أو بيعه. وينتج الحرق مادّة الكربون الأسود بكمّيّات كبيرة، يمكن استخدام جزء قليل منه من خلال بيعه إلى شركات الإسمنت. وما يتبقّى من الكمّيّات المكدّسة، تتناقل عبر الهواء وتضرب جهاز التنفّس.
في كلّ عام، هناك تقريباً 4 ملايين حالة وفاة في العالم ترتبط بالتعرّض الطويل الأمد للجسيمات الدقيقة. وقد تمّ ربط تلوّث الهواء بعدد من الآثار الصحّيّة بما في ذلك الوفاة المبكرة لدى البالغين المصابين بأمراض القلب والرئة، والسكتات الدماغيّة والنوبات القلبيّة، وأمراض الجهاز التنفسّيّ المزمنة مثل التهاب الشعب الهوائيّة والربو المتفاقم وأعراض الجهاز التنفّسي، بحسب ائتلاف المناخ والهواء النظيف التابع للأمم المتحدة. إضافة إلى أنّ تلوث الهواء مسؤول عن الوفيّات المبكرة للأطفال بسبب التهابات الجهاز التنفّسيّ السفليّ الحادّة مثل الإلتهاب الرئوي. وقد تمّ العثور على هذه الجزيئات في الرئتين والكبد وأدمغة الأطفال الذين لم يولدوا بعد.
يقول البروفيسور في العلوم الجرثوميّة في جامعة جورجيا الأميركيّة عصمت قاسم لـ “مناطق نت”: “إنّ أهمّ المشاكل الصحّيّة ناجمة عن السخام وأسوَد الكربون. حيث يتمثّل الخطر الأوّل بالسرطان الذي يحدث بسبب تكسّر خيوط الحمض النووي، أو طفرة في الجينات. والثاني هو سميّة الجهاز التنفسي الناجمة عن الاستجابة المناعيّة المختلّة، بينما الثالث هو أمراض القلب والأوعية الدمويّة التي تشمل أيضًا أمراض القلب التاجيّة”. ويضيف مشيراً إلى أنّه بصرف النظر عن ذلك، “فإنّ السخام يسبّب أيضًا ضررًا لأعضاء الجسم المختلفة، بما في ذلك الكبد والكلى”.
جريمة موصوفة بحق العاملين!
يشير عباس صفا، وهو أحد أهالي بلدة الكفور وأوّل الذين رفعوا الصوت ونقلوا الكارثة بالصوت والصورة، لـ “مناطق نت”، إلى “أنّ الإنسان السليم لا يستطيع التواجد في الجوار لأكثر من خمس دقائق”. إن هذا الكلام يفتح الباب أمام كارثة أكبر، إذًا، ما هو حال العاملين في تلك المعامل وما مصيرهم؟!
منذ بداية التسعينيّات، تتوالد أزمات وادي الكفور البيئيّة، من دون معالجة جذريّة أو جزئيّة، من الكسّارات والمقالع، إلى مكبّات النفايات العشوائّية حيث تُرمى نفايات بلدات عدة، إلى بؤر حرق آلاف الإطارات
يتنشّق هؤلاء العمّال ويتنفسون مباشرةً معظم السموم والإنبعاثات التي تنتج من عمليّة الحرق وعمليّة إعادة التدوير، فإذا كان الذين يبعدون عن المعامل بقرية أو عدّة قرى، يتعرّضون للإختناق، فكيف بمن هم على خطّ التماس المباشر؟ وإذا فكّرنا مليّاً بالسبب الذي قد يدفع هؤلاء إلى العمل، فربّما نعلم جميعنا، أنّه واحد لا غيره، الوضع الاقتصاديّ. فلو كان السبب قلّة الوعي بالمخاطر، فالإختناق لا يحتاج لأيّ علمٍ أو منطق. وبحسب معلومات “مناطق نت” فإنّ معظم العاملين في تلك المحارق هم ليسوا لبنانيّين، بل من التابعيّة السوريّة.
الأثر السلبي متوقّع لأجيال!
يشير البروفيسور قاسم إلى “أنّ ما يحصل في الكفور هو قتل بطيء للبشر والحجر، وجريمة لا شبهة فيها”. ويتابع: “حتّى لو توقّفت عمليّات الحرق اليوم، فالأثر سيظهر في الناس ويُتوقّع أن يستمرّ لأجيال عدّة”.
يُعدّ وادي الكفور منطقة غنيّة بالمياه الجوفيّة، وهو قريب من “آبار فخر الدين” التي تغذّي أكثر من 25 قرية وبلدة في محيط النبطية، ما يجعل الخطر أكبر على امتصاص التربة للكربون وباقي المواد، وتلوّث المياه الجوفيّة في ما بعد. عدا عن امتصاص الكربون الأسود لحرارة الشمس، ما سيزيد من درجة حرارة التربة بشكل كبير.
وفي حين عمد أصحاب هذه المعامل بعد إقفالها بالشمع الأحمر، وفي محاولة لإخفاء جريمتهم، إلى ردم بؤر الكربون الأسود، تصدّى لهم أهالي الكفور وأوقفوهم بالجرم المشهود، مّا أدّى إلى حصول إشكال كبير وترهيب من قبل أصحاب المعامل. وكذلك يشكّ أهالي الكفور بأنّ هناك خطّة منظّمة لتهجير الأهالي وتحويل المنطقة إلى صناعيّة، بحكم ازدياد وتيرة المشاريع الصناعيّة “الملوّثة” بشكل مفاجئ وسريع. في حين يقول أحد المواطنين، مناشداً: “أعترف أنّنا نستحقّ عقاباً على سوء اختيارنا، ولكن ليس بهذه القساوة والإجرام. لمن نشتكي؟ بمن نستعين؟ هل من مُنقذٍ ينقذنا؟”.
المعامل مستمرة تحت جنح الظلام!
قبل أيّام تحرّكت بلدية الكفور من خلال تقديم دعوى أمام المدّعي العام البيئيّ بحقّ معمل طهماز لحرق الإطارات، الذي بحسب قولها هو المعمل الذي تسبّب وحده بكلّ هذا الضّرر، إلّا أنّ القضاء قال كلمته وقضى بإقفال المعملين معاً بالشمع الأحمر. ولكنّ من لم يرفّ جفنه أمام إصابات السرطان المخيفة واختناق الأطفال هل يعيقه شيء عن استكمال مشروعه المربح و”الإستثنائي” في المنطقة؟
وفي حين تتردّد بعض المعلومات من قبَل أهالي بلدة الكفور عن أنّ تلك المعامل مستمرّة بعملها تحت جنح الظلام، يشير رئيس بلديّة الكفور الحاج خضر سعد إلى “مناطق نت”: “إنّ البلدية قامت بما يتوجّب عليها، وهي ليست بصاحبة سلطة لإقفال المعمل”. وأشار إلى “أنّ كلّ ما يُحكى عن انقسامات في داخل البلدية بموضوع إقفال المحارق ليس بدقيق، وقرار التقدّم بالدعوى القضائيّة جاء بالاجماع”.
يقول أحد المواطنين، مناشداً: “أعترف أنّنا نستحقّ عقاباً على سوء اختيارنا، ولكن ليس بهذه القساوة والإجرام. لمن نشتكي؟ بمن نستعين؟ هل من مُنقذٍ ينقذنا؟”
ويضيف مناشداً القضاء: “بعدم فتح المعامل مجدّداً، فما يحصل فعلاً مجزرة بحقّ الأهالي، حيث لم يسلم أيّ طفل أو شخص من البلدة”. وحذّر “في حال حدث وتراجع القضاء عن قراره، فإنّ ما سيحصل بين الأهالي وأصحاب المعامل لن يكون سلمّياً، وهذا ما يُتخوّف منه”.
ويؤكّد سعد “أنّنا تنبّهنا إلى أنّ أحد المعامل المقفلة سابقاً كان يقوم بإعادة تأهيل معمله منذ فترة تحضيراً لإعادة تشغيله، إلّا أنّ البلدية تواصلت معه لإيقاف نشاطاته، لأنّها لن تسمح له بذلك”. وعن آثار الكربون، يلفت إلى أنّه يجب على القضاء متابعة الموضوع، “لأنّ الشتاء على الأبواب، فإذا تسرّبت هذه الموادّ السّامة عبر المياه الجوفيّة فإنّ كارثة أكبر ستحصل”. ونفى ما يشاع عن نسبة السرطان “الخطيرة”، لافتاً إلى “أنّ الكفور حالها كحال معظم البلدات الجنوبيّة الأخرى”.
ما يحصل في وادي الكفور، جريمة أخرى تُضاف إلى سجلّ الجرائم الموصوفة في لبنان، تاركة أثرها البالغ في أجساد عائلات بأكملها. ومع الوقت، ستظهر آثار أخرى، ربّما أقسى من كلّ ما يحدث الآن. وحده القضاء يمكنه أن يترفّع عن معظم التدخّلات والمحسوبيّات، ويترك الكلمة الأولى والأخيرة لصحّة الأهالي. وإلّا فإنّ فصلاً آخر ممّا تبقّى من شكل الدولة، سيتحلّل أمام عدم مبالاة قوى الأمر الواقع.