محي الدين الجبة.. بعلبك التي تركت له الشعر ليكتب عنها، والرسم ليشكلها!
بعد حرب تموز، كنت أفتش في ما تبقى من كتب ومجلات في بيتنا، فوقعت عيناي على مجلة لم يكن قد بقي منها سوى بضع صفحات ممزقة من قصيدة تقول:
على أسوارها زمني يموت
وتنحني الساعات فوق خرابها
ورماد أحلامي على أسوارها
تنهدّ أشرعتي وتجلدني الرياح الهوج
تنثر عريّ أيامي
علقت كلمات هذا الشّاعر المجهول في رأسي، عندما أدركت أنه يتحدث عن بعلبك بعد كل الدمار الذي حلّ بالمدينة حينها. لاحقًا عرفت أنّ صاحب هذه الكلمات هو الشاعر والفنان التشكيلي محي الدين الجبة، إبن بعلبك التي سرقت المدينة اسمه وأحلامه ومستقبله لكنه ظل يقع في شبّاك حبها.
منذ عمر التاسعة، كان يجول شوارع بعلبك مفتونًا بجمالها وبساطتها، ودائمًا ما يحمل معه دفتر وقلم، فما إن يرى حائطَ طين يرسمه، وما إن يتذكّر صديقته يكتب لها. لهذا كان لقبه “صاحب الأصابع الذهبية”، لأنّ تلك اليد المُبدعة كانت قادرة على فعل أي شيء، حتى الخياطة وأعمال الديكور.
ولد محي الدين الجبة في بعلبك عام 1948، ونشأ وتعلم في مدارسها. درَس اللغة العربية في الجامعة اللبنانية، ومارس مهنة التعليم في مادتي اللغة العربية والرسم حتّى تقاعد عام 2012. أقام وشارك في العديد من المعارض والأمسيات والمهرجانات الشعرية على صعيد لبنان والعالم العربي. آخرها كان مهرجان “نادي الدرّة” في الإسكندرية وفعالية “الأيام الشعرية-محجوب العيّاري” في بنابل-تونس عام 2018. أما في الرسم، فله الكثير من اللوحات يحتفظ بها في بيته في بعلبك، يجمع فيها كل ذكرياته وتخيلاته من درب بيته الصغير باتّجاه المدينة الكبيرة.
بداية الشّعر
عاش صاحب مطوّلة “بيروت”، في بيت غني بالفن والثقافة، فأخوه كان شاعرًا وصاحب مكتبة إبن خلدون الشهيرة في بعلبك، والآخر كان رسّامًا، وأخته كانت تحب الغناء. وجد نفسه محاطًا بالفنً من كل جوانبه، فبدأ بالرسم في المرحلة الابتدائية حيث رسم وجوه أصدقائه في المدرسة وكتب رسائل عتابيّة لزميلته التي لم يبح لها بحبه.
ومثل أي طفل راحت تستدعي انتباهه الأماكن، وتدهشه الحجارة والهياكل والبساتين والطواحين وبيوت الطين. فقد كانت الطبيعة البعلبكية تُوحي له بالكثير، بعكس ما هي عليه اليوم. كان في صغره يهرب الى “مغر الطحين” الذي يجمع مغاور وكهوف عدة، حيث يلعب ويغني ويرقص ويرسم ويكتب.
أما فترة المراهقة في حياة الشاعر، فكانت متزامنة للعصر الذهبي في الستينيات، حيث قضى الجبة مراهقته غارقًا في أفلام عبد الحليم العاطفية، ومسرحيات الرحابنة وأغاني أم كلثوم وفيروز وغيرهم من عمالقة الفن. ولا شكّ أنّ بعلبك كانت حاضنة آنذاك لكل ما ذكر، إذ كانت تعجّ بالفنّ والأنشطة من خلال وجود السينما والمسارح والمهرجانات. بدأ الشاعر الكتابة عام 1967 تزامنًا مع الهزيمة العربية، حيث فاض وجدانه، وانفجرت قصائد الحزن والغضب والحب في آن، فقال:
تَعالوا وأحْرِقوا مُدُني
ومنْ كنتمْ فَكونوا
برابرةً وغَربيَّينَ شَرْقِيِّينَ قُطْبيِّينَ !؟
مَنْ كُنْتُمْ فَكونوا تَعالوا وأحْرِقوا مُدُني
فهذا الشَّرْقُ تاريخٌ مِنَ المِحَنِ
وهذا الشَّرْقُ مزروعٌ بلا زَمَنِ
ونحنُ لِأَجْلِكُمْ كُنَّا ومازِلنا
ونحنُ نُحِبُّ ضُيوفَنا..
عربٌ وكوفِيَّاتُنا بيضاءْ
وكِلابُنا جُبناءْ
وقدْ نامَتْ نواطيري
وشَيْخُ قَبيلةِ العميانِ منهمكٌ بقهوتِهِ
بِهالِ القَهْوَةِ السَّمراءِ
بالخِصيانِ والزِّيرِ !
بين الشّعر والرّسم
كتب محي الدين الجبة الشعر العامودي لكنه انحاز الى شعر التفعيلة، فهو يرى أن الثقافة اليوم أوسع بكثير من ثقافة الانسان الجاهلي، لذلك تحتاج إلى هندسة تحتويها. فوصف شعر التفعيلة بالجوقة الموسيقية على عكس الشعر الكلاسيكي الذي يُعزف على آلة واحدة. لكنه ظلّ مؤمنًا بالقصيدة مهما كان نوعها، فبالنسبة له على القصيدة أن تختار قالبها دون أن يكون شكلها عائقًا أو همًًّا، طالما وجدت عواملها من لغة عالية ووجدان عميق وثقافة وأداء.
وراح يعرّف الشعر على أنّه طائر خرافيّ، ينزل إلى الواقع فيرى ما يرى فيه من فرح وحزن ومآسٍ وحرائق وجماليات. ثم يرتفع إلى عالمه فيصيغ كل انطباعاته عن تلك التجربة. والشاعر يكون هنا أكثر الناس واقعية فهو الانسان في أعمق تجاربه. لذلك كتب محي الدين الجبة عن الوطن والحرب والحب والمرأة وكتب في الفلسفة التأملية، ولم تعد قصيدته تصب في موضوع واحد بل اختلطت بكل ما رآه ذلك الطائر.
ولكن كيف استطاع ذلك الشاعر المشغول بالوجود أن يوازن بين الشعر والرسم؟ فالوقت الذي يعطيه لإنهاء لوحة ما، يأخذ من درب القصيدة. يجيب الجبّة عن هذا التساؤل مازجًا بين الفنّين، فاللوحة هي القصيدة بالنسبة له. وأحيانًا يهدس بالكلمات وهو في حضرة اللوحة، إذ هما حاضران في كل الأوقات معًا في وجدان الشاعر لأن المنبع والمنهل واحد، فتصبح التجربة الفنية واحدة.
الواقع الفني في بعلبك
لم يُنشر لمحي الدين الجبة سوى مطوّلتان، واحدة منهما هي جداريّة “رمل الصّحراء”، على الرّغم أنّ له دواوين عديدة يقول إنّها سوف تُنشَر قريبًا. كانت بعلبك الّتي وُلدَ وعاش فيها الشاعر تضج شعراً وأدبًا وفنًا، أما في السنوات الأخيرة، فقد افتقرت المدينة وقراها إلى كلّ معالم الفنّ بدءًا من غياب المسرح والسينما، والمهرجانات، والرعاية الثقافية. لذلك غادر بعلبك الكثيرون ممن يمتلكون مواهب لم تُطلق إلّا عندما هجروها. فظلّت بعلبك المدينة الّتي تلد الفنّانين ولكنّها لا تأخذ بيدهم وترعاهم.
بعلبك هي المدينة الأنثى في حياة هذا الشاعر. أخذت منه الكثير وتركت له الشعر فقط ليكتب عنها، والرسم ليشكلها بتضاريسها وجمالها. وكلما حاول الهرب منها يجد نفسه يعود الى أحضانها كطفل نادم على ما كان عليه أن يفعل.
هنا حيث مرّت عليك العصور
ينام على ساعديك المساء
ويرنو اليك الهلال
الذي من البدء ما زال يلقي الضياء
على كل حقل ودرب ودار
على كل منعطف باعتناء
ليرسم فوق الثرى
لوحة من النور والظل والكبرياء
هنا قالت الشمس كوني ابنتي
فكنت على الدهر شمس العطاء
هنا بين شمسين يرقص قلبي
وينصب أرجوحة من غناء