مشروع ريّ الليطاني في الزراريّة العام 1943… قناطر تحكي ومياه تروي
لكلّ حجر من قناطر حمّالة المياه عند أسفل نهر الليطاني في محلة الزرارية، حكاية يحفظها الأجداد والآباء وأيضًا الأحفاد، ممّن توارثوا قصص آبائهم وأمهاتهم، الذين عملوا وساهموا بقوّة أبدانهم في إنشاء واحد من أهمّ قنوات المياه المحفورة في باطن الجبال، وتمتدّ عشرات الكيلومترات، ترفد حياة البشر والشجر والأراضي، بعدما كان قسم منها مستنقعات آسنة وأخرى جافّة، فتحوّلت مع هذا المشروع (جرّ مياه الليطاني) إلى واحة خضراء عامرة بشجر وثمر، قلّ نظيرهما، في سهول تحاكي أمواج البحر من صيدا إلى المنصوري، مرورًا بالزهرانيّ والقاسميّة وصور ورأس العين.
لهذا المشروع، الذي بدأت مداميكه في عهد الانتداب الفرنسي العام 1943، طعم خاص في بلدة الزرارية الواقعة على الكتف الشماليّ لنهر الليطانيّ، على مقربة من مصبّه عند جسر القاسميّة، إلى الشمال من مدينة صور.
كثيرون من أبناء البلدة، تمتلئ ذاكرتهم المتوارثة، بحقبة مرويّة من ماء النهر الأطول والأغزر في لبنان (170 كيلومتراً) والعرق والتعب، اللذين كانا يصطحبان أفرادًا عديدين من أبناء الزرارية من الشبّان والشابّات، في أثناء عملهم في رفع الحجارة على رؤوسهم وتقصيبها كأسنان المشط، حتى تصبح متوائمة ومنسّقة رائعة المظهر والمضمون؛ وقيام آخرين بنقل الحجارة على ظهور الجمال، التي استقدم بعضها من أقاصي البقاع اللبنانيّ.
مصاهرة زرارية روسية
إلى جانب حفظ سرديّات، ينقلها جيل بعد جيل، عن المساهمين من أبناء الزراريّة في هذا الإنجاز التاريخيّ، تختزن ذاكرة الأبناء، حكاية اقتران إحدى صبايا الزراريّة من آل رسلان بمهندس روسيّ، كان واحد من ثلاثة مهندسين من أصول روسيّة، يشرفون على أعمال تشييد القناطر والأنفاق والقنوات المائيّة، وتكلّلت هذه المصاهرة (الزواج) النادر في حينه، بمولود ذكر، يقال في البلدة إنّه أُطلق عليه اسم (رسلانوف) وهو مشتقّ من عائلتي إبنة الزرارية رسلان وعائلة المهندس الروسيّ باتشيكوف، الذي مدّد مهامه سنة إضافية في المنطقة ارتباطا بهذا النسب.
تختزن ذاكرة الأبناء، حكاية اقتران إحدى صبايا الزراريّة من آل رسلان بمهندس روسيّ، كان واحد من ثلاثة مهندسين من أصول روسيّة، يشرفون على أعمال تشييد القناطر والأنفاق والقنوات المائيّة
المهندس الروسي عاد وسافر مع مولوده، فيما بقيت من آثار هؤلاء المهندسين، حيث يروى عن تعاطيهم الانسانيّ مع العمّال، غرفة صغيرة مبنيّة من حجارة القناطر ذاتها، معلّقة على تلّ صخريّ، تُشرف على قناة المياه، من نافذة مشرّعة على حقبة، كانت وما زالت، تشكّل عصب حياة سهول الجنوب.
عمل محمد مروّة، في مشروع قنوات ريّ الليطاني، لا سيّما في فترة إنشاء القناطر التي اخترقت عقارات عدد من أبناء البلدة ومنهم آل مروّة وآل الأخضر، وذلك في الربع الأوّل من أربعينيّات القرن الماضي. يقول نجله قاسم مروّة (80 عامًا)، إنّ والده المرحوم محمد كان يقتني جملًا، واستخدمه بنقل الحجارة والترابة والبحص والرمل في المنطقة الممتدّة من الزراريّة حتى عين ابو عبدالله قرب القاسميّة. ويضيف لـ “مناطق نت” إنّ والده المتزوج من آل ياسين من بلدة مجدل عنجر في البقاع، استقدم عددًا من الجمّالين من قرية زوجته، فعملوا سويّة في المشروع لأشهر طويلة، ببدل يوميّ لا يزيد على ليرة واحدة. وقال: “بحسب ما كنت أسمع من والدي، فإنّ هؤلاء المهندسين الروس كانت أسماؤهم باتشيكوف وآزروف وأبلف”.
لا يزال عدنان ضاهر، يحفظ عن والدته الراحلة قبل أكثر من ثلاثة عقود، حكايا الشقاء والتعب، ومنها عملها في مشروع بناء القناطر في بلدتها الزرارية. ويقول “كان عمرها يقلّ عن خمسة عشر عامًا، وكانت كصبايا جيلها، تحمل الحجارة على رأسها مسافات طويلة، إلى جانب مهمة (سقاية) العمّال والمعلمين والمشرفين على الأشغال”.
ويذكر ضاهر نقلًا عن والدته أن من بين من عملن من النساء في تلك الفترة العائدة إلى نحو ثمانين عامًا الراحلات منيفة مروّة وزينب علي مروّة وفاطمة قاسم مروّة وأخريات، وكنّ يتقاضين ثمانين قرشًا بدل تعب يوم عمل واحد، لا يفي العناء والصعوبات في حرّ الشمس.
إنشاء القناطر
لا يوجد الكثير من الدلائل الموثقة عن بدء الأعمال في “مشروع ري الليطاني”، الذي تأسّست المصلحة التي تحمل اسمه (مصلحة مياه الليطاني) في العام 1956، لكنّ عددًا من الدراسات المستندة إلى خرائط هذه المصلحة، ومنها دراسة أوّلية لوليد هاشم، تفيد بأنّ إنشاء جسر القناطر في منطقة القاسمية- الزرارية تمّ في العام 1945، في حين أنّ فوّهة النفق من الناحية الغربية، تحمل الرقم 1943 وهو محفور من مشتقات الصخور، ومذيّل بأحرف من اللغة الفرنسية S.A.E.C وإلى جانبها رسم لآلة حفر (كمبراسور) على الأرجح كانت تستخدم في أعمال حفر النفق إلى جانب “التينولات”، وإلى يمين الرسم من الجهة الأخرى S.A.C .
ويشير هاشم في دراسته الأوّليّة المقدّمة إلى مصلحة الليطاني أنّ طول جسر القناطر في محلّة الزرارية- القاسمية يبلغ 78 مترًا ونصف المتر، محمولاً على ست ركائز، اثنتان منها رئيسيّة وأربعة وسطيّة وعلى سطحه ممرّ للمياه (قناة لجرّ المياه) بعرض أكثر من مترين.
نهر الليطاني: عصب لبنان الاقتصادي والزراعي
يقول المهندس زياد خليل الحجار في كتابه (المياه اللبنانية والسلام في الشرق الاوسط) الصادر في العام 1997 عن دار العلم للملايين: “الليطاني، هو أكبر الأنهار اللبنانيّة، وفي طليعة المصادر المائية الجارية، وقد تقدّم العديد بمشاريع ذات نفع لاستغلال هذا النهر، ويأتي في طليعتهم الأب (فرديناد بروست) الذي دعا في كتابه (لبنان هبة الليطاني) إلى استغلال هذه الهبة الإلهيّة، كما حذر من المطامع (اليهوديّة) بمياه الليطاني، وقد أتى المهندس اللبناني إبراهيم عبد العال لينقل دعوة الأب فردينان بروست لاستثمار مياه النهر من الدعوة الكلامية والأدبية إلى الدعوة الفعلية العلمية والعملية”.
يضيف الحجار: “يمتاز نهر الليطاني بأهميّة قصوى بالنسبة للبنان، حيث يؤدّي ثلاثة أهداف:
– تأمين المياه لقسم كبير من اللبنانيين.
– إنتاج كهربائيّ يبلغ 700 مليون كيلو وات ساعة كمتوسط سنويّ مع قدرة تجهيز 188 ميغاوات.
– تأمين مياه الري للجنوب والبقاع.
ويلفت المهندس الحجار في متن الكتاب إلى “أنّ مفوضيّة فرنسا الحرّة في الشرق الأوسط قد انجزت ابتداء من العام 1943 مشروع ريّ سهل صور- صيدا من مياه الليطانيّ في منطقة القاسميّة وينابيع رأس العين، كما أنّ فترة أوائل الخمسينيّات، تميّزت بدراسات عديدة تمحور معظمها حول استغلال مصادر المياه وبالأخص الليطاني، ومنها تقرير تقنيّ كانت قد قامت به مؤسّسة السيد ألكسندر حبيب وشركاه في شباط 1949، لم تاخذه الحكومة اللبنانيّة بعين الاعتبار. وأيضًا دراسة بوردانوف في العام 1950 حول تجهيز الليطاني في مجراه الأوسط بمحطات كهربائية مائية عُرفت بمحطات برغز ويحمر ودمشقية والطيبة”.
مفوضيّة فرنسا الحرّة في الشرق الأوسط قد انجزت ابتداء من العام 1943 مشروع ريّ سهل صور- صيدا من مياه الليطانيّ في منطقة القاسميّة وينابيع رأس العين
مصلحة الليطاني
تؤكّد مصلحة مياه الليطانيّ، التي تأسّست العام 1956 ويترأسها حاليًا الدكتور سامي علويّه، أنّ مشروعيّ ريّ القاسميّة ورأس العين يحتلان المرتبة الأولى بين المشروعات التنمويّة التي نفذتها الإدارة الزراعيّة خلال السنوات الخمسين الأخيرة التي أعقبت الاستقلال.
وتزداد أهمّية المشروع عندما نأخذ بعين الإعتبار أنّه يروي الجزء الأكبر من السهل الساحليّ الجنوبيّ بحيث تشكّل الأراضي المستفيدة من مياهه مع الأراضي الواقعة في محيطه نحو 10 بالمئة من مجموع المساحات المرويّة في لبنان. كما أنّ مياهه تستغلّ بالدرجة الأولى في ريّ الزراعات الغنيّة ذات المردود العالي، حيث يمثل إنتاج الحمضيّات “الجنوبيّة” حوالي 70% من حمضيات لبنان ونحو 75 % من إنتاج الموز.
ويؤمّن المشروع حوالي 5300 فرصة عمل مأجور Emplois Agricole بالإضافة إلى تشغيل حوالي 1800 شخص يقيمون في الحيازات العائليّة الصغيرة المنتشرة على تخوم القرى الساحلية بين مدخل صيدا الجنوبيّ وبلدة المنصوري قرب الحدود الجنوبية (27 قرية ومزرعة) والأراضي المحيطة ببرك رأس العين (الجفتلك) حيث تُعتمد زراعة الخضار المكثفة.
طول قناة الري
يبلغ طول قناة الريّ حوالي 59 كلم، تمتدّ من منطقة الغازية (قرب صيدا) الى منطقة المنصوري في أقصى الجنوب حيث تأخذ القناة أشكالًا متعدّدة (U&V Shape) وتختلف مقاسات القناة وانحدارها بين منطقة وأخرى.
كما وتقسم القناة الى خمسة أقسام رئيسيّة:
– القناة الجبليّة: 8.6 كلم.
– قناة القاسميّة الشماليّة: 29 كلم.
– قناة القاسميّة الجنوبيّة: 9 كلم.
– قناة رأس العين الشماليّ: 4.5 كلم.
– قناة رأس العين الجنوبي: 7 كلم.
وفي حين تستمد قناة رأس العين المياه من الينابيع المغذّية لبرك رأس العين، فإنّ القنوات الأخرى تستمدّ مياهها من نهر الليطاني عبر سدّ الزراريّة التحويلي وعند الحاجة من خزان التحويل عبر محطّة الضخ.
رئيس مصلحة الليطاني سامي علويه
يشدّد رئيس مصلحة الليطاني الدكتور سامي علويه على استراتيجيّة مشروع ريّ القاسميّة ورأس العين ويقول لـ”مناطق نت”: “إنّ هذا المشروع من أكبر مشاريع الريّ في لبنان والمنطقة، ويبلغ طول الأنفاق والقنوات 55 كيلومتراً، ويروي خمسة آلاف هكتار بالمياه الصالحة على الساحل الجنوبي”. ويضيف: “إنّ المصلحة أزالت في الآونة الأخيرة تعدّيات بلغت 300 ألف متر مربّع من الاسمنت، وحرّرت حوالي مليون متر مربّع من حرم القنوات وأزالت 25 مخيّمًا للنازحين من حرم قناة النهر”.
يتابع علوية “إننا نعتاد مع المزارعين على ممارسات ريّ سليمة، تخفّف من هدر المياه. كما أننا تمكنّا من استثمار 13 كيلومتراً إضافية، تمثلت بوصل نفق الغازيّة الذي يوصل المياه من الزهراني إلى سينيق، ويروي أجزاء من أحواض الأوّليّ والزهرانيّ والليطانيّ، بمياه ريّ نظيفة، بكلفة متدنيّة للمزارعين، وذلك من أجل تنوّع الإنتاج والقطاعات الزراعيّة”.
ويختم علوية: “إن دعم مشروع الريّ من قبلنا وقبل الحكومة، من شأنه الحفاظ على القطاع الزراعيّ والأمن الغذائيّ والسيادة الغذائيّة، ونسعى إلى تطويره من خلال التحوّل من الأقنية إلى شبكات مضغوطة توفّر كميّات المياه من 30 إلى 15 مليون متر مكعب”. مؤكّدًا تعاون المصلحة مع الوكالة الاميركية للتنمية، لناحية تشغيل محطّات الضخّ على الطاقة الشمسية لتخفيف الأكلاف.