ميثولوجيا لبنان.. التاريخ بروايات طوائفه المُتخيَّلة
لعبَ المتخيّل الماضويّ، دورًا في بناءِ الحقائق الاجتماعيّة المتنوّعة، والمختلفة بين طائفة وأخرى في لبنان. ودورًا في إنتاج الأزمات المتتالية والمُعاد انتاجها بشكلٍ دوريّ، كما كانَ للمتخيّل دور مهم في حَبْك روايات وأساطير عزّزت الانقسامات الداخليّة، نشبَ عنها الحرب الأهليّة اللبنانيّة المعروفة، وحروب صغيرة تتجسّد في الحاضر، على شاكلة خطابات كراهيّة، عزل اجتماعيّ وثقافيّ وفشل سياسيّ.
ميثولوجيا الهويّة: كيفَ بنتْ الطائفيّة تاريخ لبنان
يقول المؤرّخ الراحل كمال الصليبيّ في كتابه “بيت بمنازل كثيرة” إنَّ “النزعة الفينيقيّة في الأوساط اللبنانيّة المسيحيّة عقيدة أكثر منها نظريّة سياسيّة عقلانيّة”. فعلى الرغم من عدم التأكّد من وجود مدوّنات، وسجلّات مكتوبة عن حقبة فينيقيا القديمة، ما يوافق عليه، الباحث يوسف الحورانيّ أيضًا: “لم يصل أيّ أثر مكتوب كامل متخصّص بالفينيقيّين كنعانيّي لبنان”. إلّا أنَّ فينيقيا المُتخيّلة، وجدتْ لها فضاء بين فنّانين وأدباء وشعراء كسعيد عقل، وبعض أدباء المهجر، نذكر النادي الفينيقيّ الذي تأسّس بمبادرة من الأديب عقل الجرّ والقائمة تطول.
ويرى الصليبيّ، أنَّ أساطير صاحبتْ نشأة لبنان، فالمسلمون السّنّة تبنّوا خطاب القوميّة العربيّة، فيما اتّخذت الطائفة المارونيّة لبنان كوريث للحضارة الفينيقيّة، لاستحضار “لبنان الكبير” في أذهان اللبنانيّين واقناعهم به، ولتفادي أيّ ارتباط بسوريّة أو بالعروبة عامّة. وقد وجدَ الموارنة اسم فينيقيا المُستخدم لدى الإغريق سابقًا كدلالة على امتدادهم في الساحل السوريّ من اللاذقيّة إلى عكّا، حجّة لإقناع المسلمين والمعارضين بوجود لبنان الكبير المستقلّ.
هذه المقولة “أنَّ لبنان فينيقيّ”، كانت مسوّغًا تاريخيًّا وسياسيًّا للموارنة لمواجهة المسلمين. وعلى رغم أنّه على امتداد ساحل خريطة لبنان الكبير، وُجدَت الدويلات الفينيقيّة الأكثر قدمًا كصور وجبيل وصيدا، يوضح الصليبيّ أنّ هذه المدن جرى استعرابها في القرن السابع عشر، إلّا أنَّ الموارنة المؤمنين بالنظريّة الفينيقيّة، قالوا بأنَّها لم تفقد خصوصيّتها الفينيقيّة المبكرة، وظلّت إلى أن اتّخذت صيغة سياسيّة ممثّلة بلبنان الكبير، وأخيرًا بالجمهوريّة اللبنانيّة. ودعمت حركات متعدّدة ومثقّفين مسيحيّين لبنانيّين ميثولوجيا “فينيقيا، ناهيك عن الاستكشافات الأثريّة من قبل الانتداب الفرنسيّ، واللبنانيّين المسيحيّين. كلّها جرى ربطها بقول إنّ لبنان الجديد ما هو إلّا انبعاث لفينيقيا القديمة.
كما شاعت أسطورة مسيحيّة أخرى، تفيد بأنَّ الفينيقيّين ما كانوا إلّا لبنانيّين قدامى، وأنّهم أجداد اللبنانيّين الآن، ولا صلة لهم من قريب أو بعيد بالعروبة، وورثوا عن أسلافهم ذكاءهم في التعامل التجاريّ ورفعتهم الثقافيّة التي تميّزوا بها.
ورأى أخرون، أنَّ جذور لبنان، تعود إلى الأب المؤسّس فخر الدين المعنيّ الكبير. مع العلم أنَّ الوثائق التاريخيّة والأيكولوجيّة تفيد بأنَّ لبنان تأسّس على يد الجنرال الفرنسي هنري غورو العام 1920.
لغز “الكيان اللبنانيّ”: هل كان الحلّ في الأبطال والسلاطين؟
في كتابه صناعة الأسطورة، يذكر المؤرّخ اللبنانيّ الراحل عبد الرحيم أبو حسين، أنّه في الوقت الذي شعر الموارنة فيه، أنّهم بحاجة لوجود قانونيّ مستقلّ في نظام الملل العثمانيّ، أسطروا “الأمير فخر الدين” لأهدافهم الطائفيّة.
واللافت قوله، بأنَّ حقيقة تسمية فخر الدين بسلطان البرّ ما هي إلّا قصّة مفبركة، وإنَّ أوّل من أشار إلى هذا اللقب كان المؤرّخ حيدر الشهابيّ في القرن التاسع عشر بطريقة غير جازمة، “ولم يدّعِ أنَّ هذا اللقب كان وقفًا على فخر الدين، بل كان لقبًا يشترك فيه كلّ حكّام المناطق بدليل قول الشهابيّ: وكان كلّ من تولّى في ذلك الوقت على ولاية، يدعى سلطان”.
ويفيد الصليبيّ في بحثه “سرّ البيت المعني”، بأنَّ “ما إن ظهر الكيان اللبنانيّ بوضوح في العهد العثمانيّ حتّى أخذ اللبنانيّون يبحثون عن تفسير تاريخيّ لهذا الكيان، فبرزت أسطورة فخر الدين، الأمير الدرزيّ الذي تربّى في بلاد الموارنة وقضى حياته في السعي البطوليّ الواعي إلى خلق وحدة لبنانيّة. وقد ابتدأت الأسطورة صغيرة أوّل الأمر، ثمّ نمت مع نمو لبنان حتّى أصبح فخر الدين في نظر اللبنانيّين اليوم الرائد في الاستقلال اللبنانيّ ورمز الوحدة”.
أساطير اللجوء: لماذا لكلّ طائفة جبلها؟
سنة 1920، هيّأ الفرنسيّون والبريطانيّون المنطقة بما يتقاطع مع سياسة مصالحهم، ودعّموا وجودهم السياسيّ بسرديّة ” لبنان كملجأ”. ومن الذين أولوا أهمّيّة فائقة لهُ، الأب اليسوعيّ البلجيكيّ/الفرنسيّ، “هنري لامنس” في كتابه المعروف: سوريّا موجز في التاريخ.
وفي السياق، يؤكدّ أستاذ التّاريخ شارل الحايك، أنَّ سرديّة لجوء الطائفة المسيحيّة إلى جبل لبنان، ظهرت في القرن الثامن عشر، عبر مستشرقين أجانب، روّجوا لفكرة الصراع الدائم الذي خاضه المسلمون بوجه المسيحيّين، وأنَّ الأخيرين لجأوا إلى الجبل لحماية ذاتهم وللسعي نحو تأسيس دولتهم التي توسّعت وصارت لبنان، البلد الذي شمل جميع الأقلّيّات المضطهدة.
والسرديّة التي تفيد بأنَّ الشوف، المنطقة التي يسكنها الدروز اليوم، كانت خالية ثمَّ أتت إليها الطائفة في القرن الحادي عشر، هي سرديّة مزيّفة. ويقول شارل الحايك: “إنَّ وثائق أواخر الفترة الفاطميّة، تبيّن سكانًّا محليين كانوا يسكنون في المنطقة، واعتنقوا عقيدة الدروز بتأثير من المبشّرين بها”. والشيء ذاته بالنسبة للسرديّة الشيعيّة، فالتشيّع ظهر منذُ القرن السابع، وفكرة اللجوء بسبب الاضطهاد هي فكرة زائفة أيضًا.
شارل الحايك: السرديّة التي تفيد بأنَّ الشوف، المنطقة التي يسكنها الدروز اليوم، كانت خالية ثمَّ أتت إليها الطائفة في القرن الحادي عشر، هي سرديّة مزيّفة. والشيء ذاته بالنسبة للسرديّة الشيعيّة، فالتشيّع ظهر منذُ القرن السابع، وفكرة اللجوء بسبب الاضطهاد هي فكرة زائفة أيضًا.
وعليه، يقول شارل الحايك: “إنَّ مساوئ هذه السرديّة أنّها تضعك في حالة نزاع دائم مع المحيط، واستطرادًا مع الداخل”.
“الهلع الهويّاتي”: هل يستمر لبنان بدون مصدر خطر؟
في كتابه الشياطين الشعبيّة والفكر الأخلاقيّ، يقدّم عالم الاجتماع البريطانيّ ستانلي كوهينStanley Cohen، مصطلح الذعر الأخلاقيّ، وقد صاغه بملاحظته لردّة فعل الشعب في انجلترا إبّان انتشار ثقافة الروك في ستينيّات وسبعينيّات القرن المنصرم. وحدّد على إثره، خمس مراحل يجدر معاينتها للوصول إلى شكل الذعر المطلوب تتشارك خمس جهات في تأجيجه وصناعته.
ففي البداية يُنظر إلى “المجهول الجديد” كأنّه تهديد للأعراف الاجتماعيّة والعادات السائدة، ثمَّ يتصاعد هذا التهديد مع تلميح السلطات الرسميّة وغير الرسميّة، إضافة للوسائل الإعلاميّة لهُ، ليصبح “ترند”، يصاحبه لهجة معادية كبيرة، من قبل المتلقّين. وتوصّل العالم البريطاني، إلى أنَّ هذا الذعر الأخلاقي المُنتج يصاحبه تصاعد وتيرة الاضطرابات والمشاحنات الداخلية. وشبّه كوهين الجهات المشاركة في افتعال وتأجيج الغضب بأنها شياطين شعبية.
طوّر كلّ من ريجي ميريان ولورنس دو كوك Laurence de Cock et Régis Meyran، الباحثين الفرنسيّين، استنادًا على النظرية أعلاه، ما يُعرف بمفهوم الـpanique identitaire “الهلع الهويّاتيّ”. ويعني، الخطر الكبير التي تشعر به الجماعة حيال هويّتها المتخيّلة، تكون نتيجتها كارثيّة كما الحال في لبنان. فهي تؤصّل البُعبُع من الآخر- الذي من المفترض أن يكون في الحالة الطبيعيّة شريكًا في الهوية الوطنية- وتصبح كلّ جماعة مختلفة (طائفة أخرى، مذهب آخر.. الخ.. في لبنان مثلًا)، مصدر خطر على الجماعة الأخرى، والمجتمع ككلّ، يجب التعامل معه ومراقبته للتخلّص منه. وهذا ما أسماه الباحثان بالـ onologue identitaire.
تستعمل كلّ جماعة الماضي من أجل إثبات وجودها وإحياء أساطيرها وأبطالها ومنتصريها. كلّ “جماعة طائفيّة في لبنان”، تستدعي ما حدث على قاعدة نحنُ مقابل هُم. وتستثمر الماضي لفرض السرديّة التي تتناسب وخطاب القوّة لتواجه فيه “جماعة طائفيّة أخرى”، ولتصنع رموزًا تتماشى والحاضر المُتخيّل. كذلك، تستخدم النسيان كسياسة لإسكات أحداث وانتقاء أخرى. وهي إحدى الأدوات المُستعملة في خطابات ممثّلي الطوائف اللبنانيّة، وتكون النتيجة، خداع عقول المنتميين للطائفة، في تاريخهم وهويّتهم وماضيهم.