“هبّة” الإعمار في الجنوب.. إلى العقار بعد الإنهيار!
من يقصد الجنوب مؤخراً، يتنبه وبشدة الى ورش البناء الجديدة، المنتشرة في قراه الممتدة من الزهراني الى الحدود مع فلسطين المحتلة، حيث شيّدت منازل بإمكانات متواضعة وأخرى على الطراز الحديث والفاخر، فيما تظهر، في بعض الأماكن، مبانٍ ذات طبقات متعددة شُيّدت لأغراض تجارية بهدف تأجيرها أو بيعها.
وتنشط ورش البناء في قرى الجنوب في مرحلة تلاحقت فيها الأحداث الإقتصادية والنقدية في البلاد التي تتلقى الصفعات، الواحدة تلو الأخرى، ومن دون توقف، منذ أواخر العام 2019، ولا تزال.
إلّا أن الحركة هذه، لم تتزامن مع سنوات الأزمة الثلاث، وإنما تبلورت في العام الأخير، بعدما تلقف أهالي القرى هناك، صدمة الإنهيار النقدي والإقتصادي وحجز أموال الناس وتقييد سحوباتهم في المصارف وإنهيار العملة الوطنية، حسبما يقول المهندس المدني وليد عبد الغني لـ “مناطق نت”.
ويزدهر البناء في الجنوب، كما يؤكد عبد الغني، أكثر مما هو في المناطق الأخرى، وحتى أن الحركة في صيدا باتت شبه معدومة، رغم أنها بوابة الجنوب وجسر عبور الجنوبيين من وإلى العاصمة بيروت. وكذلك باقي المناطق في الشمال والبقاع وبيروت.
لا ننهار في الجنوب!
تعكس هذه الأبنية على ما يبدو عزل الجنوبيون أنفسهم عن الأزمة العامة في البلاد، ليس على قاعدة أنهم “لا ينهارون” وبأنهم منفصلون عن الواقع، بل لأن الظروف العامة طوال العقود الماضية، هيأت لهم هذا التفرد عن باقي المناطق في لبنان.
وهذه الصورة هي نتيجة تعدد هجرة الجنوبيّين وكثرتها، وتعلق أبناء الجنوب بأرضهم وقراهم. يقول عبد الغني: “ينشط البناء الخاص وليس التجاري راهناً. بعض المغتربين لا سيّما في دول إفريقية يعمدون الى شراء عقارات وأراضٍ، ولا يمكن إغفال، أن الجنوبي تربطه علاقة حب وانتماء لأرضه، إذ إنه تغرّب ليعود ويستقر في لبنان”.
ولطالما كان لأهل القرى، في الجنوب، علاقة معمّقة مع العائلة والأرض والعادات والقرية بشكل عام، والدليل على ذلك، بدء عودة الجنوبيين إلى قراهم في اللحظة نفسها التي تمّ الإعلان فيها عن انتهاء الحرب في العام 2006، وفق ما يقول عبد الغني.
وفي مرات سابقة كثيرة، إعتاد الجنوبيون إعادة إعمار جنوبهم، وتصحيح الحالة التي كانت قائمة قبل الدمار، وذلك بعد الحرب الأهلية والحروب الإسرائيلية التي عصفت بالجنوب، ولو أن المشهد مختلف هذه المرة.
الليرة في أكياس تغليف الخبز
بالمبدأ، باتت الفرصة مناسبة لبناء منزلي الخاص، يقول عباس هاني (27 عاماً) الّذي قرر تشيّيد منزله فوق منزل أخيه المغترب منذ سنوات، في بلدته الجنوبية، كفرا (قضاء بنت جبيل).
وقد أتى هذا القرار، بعدما باع أبيه قطعة أرض وقسّم ثمنها بين أولاده، ليتسنى لهم تخليص أمورهم الضرورية. فاختار هاني بناء أساسيات المنزل ومن ثمّ إدخار الأموال من أجل إنجاز البناء وتجهيزه. هو الّذي يعاون والده في الأعمال الزراعية ويعمل في البناء، بين وقت وآخر.
يقول هاني “تشجعت إبني بيتي. بعدما أنهينا بناء منزل أخي وتجهيزه” ويضيف “كان يرسل لي أموالاً على دفعات، تمكنت من شراء كل ما يحتاجه، وبات جاهزاً لأن يسكن فيه متى عاد الى لبنان” ويختم “كنا نضع أموالنا في المصارف، اليوم بتنا نستثمرها كي لا تضيع قيمتها أو نخسرها بطريقة أو بأخرى”.
وفي هذا السياق، يستذكر هاني يوم وصل إلى شركة بيع الحديد في صديقين (قضاء صور)، قبل شهرين، حاملاً أكياس النيلون المخصصة لتغليف الخبز، وفيها 300 مليون ليرة، أيّ ما يعادل 3750 دولار على دولار 80 ألف، لشراء 5 أطنان حديد ثمنها 5070 دولار. أما باقي المبلغ من الدولارات فقد حمله في محفظته كونه يحتاج الى مساحة صغيرة.
يستذكر هاني يوم وصل إلى شركة بيع الحديد في صديقين (قضاء صور)، قبل شهرين، حاملاً أكياس النيلون المخصصة لتغليف الخبز، وفيها 300 مليون ليرة
“يومها ضحكت الموظفة، فأخبرتُها أن هذا المبلغ كان يعادل 200 ألف دولار”، لتجيب “الله يرحم هيديك الأيام” يقول هاني، ويردف، “قبل عام تقريباً، شاهدت رجلاً في المكان نفسه يتعبط كيساً أسود حمل فيه أمواله بالليرة اللبنانية، واليوم أنا أيضاً فعلت ذلك”، وهكذا تفعل غالبية الناس، تسدد ثمن مشترياتها بالعملة اللبنانية قبل أن تنخفض قيمتها أكثر، مع استمرار انهيار العملة الوطنية.
ومع انهيار العملة أكثر أمام الدولار، يبدو لافتاً أن كثير من الناس بات يحمل أمواله بأكياس أو بحقيبة كبيرة من أجل دفع فاتورة أو شراء سلعة معينة. لاسيّما بعدما هجرت الناس المصارف، وباتت الغالبية تحتفظ بأموالها في المنازل أو تستخدمها في شراء عقارات وأراض.
حركة مقبولة في الجنوب
وهكذا يتفق الجميع، ممن ينشطون في هذا المجال، على أن الحركة مقبولة في الجنوب عند مقارنتها بباقي المناطق، ولكن هذا لا يعني أنها جيدة وكثيفة كما إعتادوا عليها سابقاً قبل أزمة 2019. فيما يلفت البعض إلى ضرورة عدم الخلط بين المناطق أو التعميم، إذ يمكن أن تنشط حركة البناء في قرية دون أخرى، وكذلك بيع وشراء العقارات.
الحركة مقبولة في الجنوب عند مقارنتها بباقي المناطق، ولكن هذا لا يعني أنها جيدة وكثيفة كما إعتادوا عليها سابقاً قبل أزمة 2019.
فما هي حال تجار مواد البناء مثلاً؟ هل أثر عليهم انتعاش تشيّيد الأبنية الخاصة؟ لا يبدو الأمر كما يظنه البعض، إذ إن حركة البيع لا ترتفع جرّاء تشيّيد الأبنية الخاصة الصغيرة أو الكبيرة منها. فهي كانت تنتعش سابقاً نتيجة تنفيذ مشاريع كبرى مثل تأهيل الطرقات وبناء الجسور وتنفيذ المشاريع السكنية وقد قلّت الأخيرة كثيراً في الآونة الماضية، حسبما يؤكد مدير شركة “ليميكو” صلاح قبرصلي لـ “مناطق.نت”، وهي أكبر مصدّر لمواد البناء على مستوى الجنوب.
وأكثر من ذلك، يقول قبرصلي، إن حركة بيع مواد البناء، طبيعية، إذا ما قورنت بأعوام الأزمة الثلاث ببعضها البعض، باستثناء إختلاف العام الأول قليلاً. إذ تميّز العام المذكور بحركة ولو محدودة، نتيجة وضوح رؤية المغترب آنذاك، الّذي رأى وتعلم من تجارب وأزمات الخارج، كالأزمة في فنزويلا مثلاً، لاسيّما في الفترة التي تراوح فيها الدولار بين 1500 و20 ألف ليرة أو أكثر بقليل. فيما لا وجه للمقارنة بين حركة البيع راهناً وما قبل حدوث الأزمة في لبنان، والتي تمثل اليوم حوالي 25 في المئة منها فقط.
الإدخار في العقار
على مقلب آخر، الحال ليس أفضل بالنسبة إلى قطاع العقارات، والذي يشهد حركة متفاوتة على مستوى الجنوب نفسه. إذ يفند أحد المستشارين العقاريين، وهو متخصص في مجال العقارات الخاصة في المنطقة، حال الجنوب، ويقسمه إلى ثلاث مناطق.
الأولى، وهي قرى الجنوب حيث المغتربين في إفريقيا والخليج وأميركا، وفيها تنشط أعمال البناء، فيما تتراوح حركة بيع وشراء العقارات بين 5 و7 في المئة ليس أكثر، كنتيجة لعدم رغبة الأهالي هناك في إبقاء أموالهم في المنازل وكونهم يمتلكون في الأصل عقارات خاصة، أما من يبيع أرضه مثلاً، وأحياناً بأقل من قيمته الفعلية، يكون بهدف تأمين سيولة بين يديه.
أما الثانية، فهي على خط طريق صيدا – جزين – جدرا، حيث يشتري المغترب الفلسطيني، وغالبيتهم في الدانمارك وفنلندا، عقارات تسجل بأسماء لبنانية، كونها أضمن له من الإستثمار.
والثالثة، على الحدود اللبنانية الفلسطينية، حيث يعمد متمولين كبار إلى شراء أراضٍ شاسعة بدلاً من إستثمار أموالهم في مشاريع قد تكون خاسرة، أو ربما خسارتها في المصارف، إذ يبقى “حقها فيها” على حد تعبير المستشار نفسه.
وعلى مستوى أعوام الأزمة، يقول المستشار، إن بيع العقارات نشط بين 15 و20 في المئة هذا العام، مقارنة بالعام الأول من الأزمة أيّ في العام 2020. ولكن هذا الحال قابل للتبدل والجمود في أيّ لحظة تسوء فيها الأحوال أو تتوقف فيها تحويلات المغتربين.
على خط مواز، كثر الحديث في الآونة الماضية، حول فوضى البناء العشوائي في مناطق كثيرة في الجنوب، ومنها، منطقة الزهراني، حيث تنشط ورش البناء في الأملاك الخاصة والعامة، ومن دون تراخيص، مقابل إرتباك القوى الأمنية في التعامل مع مثل هذه الظاهرة التي كشفت آخر فصول إنهيار الدولة على حد تعبير كثر، فهل سنكون أمام تعديات ومخالفات قانونية منتشرة في المنطقة ككل في وقت قريب؟