آثار بعلبك التي لم تحمها “خرزة” الدروع الدولية الزرقاء

لم تعد آلة الحرب الهمجيّة الإسرائيليّة، التي نشهد جرائمها اليوم، توفّر بشرًا أو حجرًا. تتعرّض الآثار المؤسِّسة لهويّة لبنان الثقافيّة والحضاريّة إلى جميع أنواع العدوان البشع في جميع المناطق اللبنانيّة. هذا العدوان صار يهّدد مدينة بعلبك، التي يعود تاريخها إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وكانت قد أُدرجت في لائحة التراث العالمي لمنظّمة “اليونيسكو” العام 1984. وقد ذكرت المنظّمة الأمميّة في إعلانها أنّ “بعلبك، بهياكلها الجبّارة، هي من أعظم نماذج هندسة الإمبراطوريّة الرومانيّة في ذروة حضارتها”.

وإذ شئنا الحديث، بداية، عمّا أصاب بعلبك تاريخيًّا من خراب جرّاء العوامل الطبيعيّة، فقد تعرّضت المدينة إلى زلزالين تركا آثارًا واضحة في بنيانها. حدث أحد هذين الزلزالين في الـ 31 من تشرين الأوّل (أكتوبر) العام 1202، أمّا الزلزال الآخر فقد وقع في الـ 31 تشرين الأوّل العام 1759، وضرب مناطق الساحل الشرقيّ للبحر المتوسّط، ممّا أدّى إلى دمار في مدينة بيروت، بالإضافة إلى عديد من المدن الأخرى، وكان أن أوقع ثلاثة أعمدة من أصل تسعة، ممّا بقي من أعمدة معبد جوبّيتير في بعلبك، ليصير عددها ستّة منذ ذاك الحين. هذا، إضافة إلى الدمار الذي ألحقه الزلزال في عديد من عناصر معابد بعلبك الأساسيّة، ومنها بعض أعمدة باخوس، وأجزاء كبيرة من سور المدينة.

زلازل إسرائيليّة تستهدف الآثار

أمّا “الزلازل الإسرائيليّة” التي طالت بعضًا من آثار المدينة وتراثها، بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد تعرّض السور الأثريّ الذي يقع إلى الناحية الغربية من “ثكنة غورو” لضرر بالغ، بعدما استُهدف أحد أجزاء الثكنة الذي يقطن فيه حاليًّا نازحون لبنانيّون. وللمناسبة، فإنّ هذه الثكنة، التي كان بناها الفرنسيّون إبّان الإنتداب، هُجّرت خلال الحرب الأهليّة، وتدهورت أحوالها، لتتحوّل ملجأً للنازحين، على الرغم من ظروف المبنى وحاله المعماريّة.

تتعرّض الآثار المؤسِّسة لهويّة لبنان الثقافيّة والحضاريّة إلى جميع أنواع العدوان البشع في جميع المناطق اللبنانيّة. هذا العدوان صار يهّدد مدينة بعلبك، التي يعود تاريخها إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام

المعلم الأثريّ الثاني، الذي تعرّض بدوره إلى الضرر، ولو بشكل غير مباشر، كانت قبّة دورس. هذه القبّة يعود تاريخ تشييدها إلى القرن الثالث عشر، وتتألّف من ثمانية أعمدة مع تاج حجريّ يلتف دائريًّا فوق الأعمدة، قليلة الإرتفاع، إذا ما قيست بأحجام أعمدة هياكل بعلبك المعروفة. تحولت القبّة منذ ذاك الحين إلى معلم أثريّ، يزوره السائحون لدى تجوالهم في المدينة. تنبغي الإشارة إلى أنّ أعمدة القبّة، المنحوتة من حجر الغرانيت، كانت قد أخذت من المجمع الأثريّ الذي يضمّ المعابد المعروفة: جوبّيتير وباخوس.

تدمير المنشيّة

“الضحيّة” الأخيرة للعدوان، التي لم يمضِ عليها سوى أيّام قليلة، كانت “المنشيّة”. اختلفت هذه الغارة عن سواها لكونها استهدفت المبنى مباشرة. يعود تاريخ بناء المنشيّة، التي هي أشبه بمنزل فسيح، إلى العام 1928، وقد تنوّعت وظائف البناء بين مقهى وملهى إبان الإنتداب الفرنسيّ، كان يقصده الضبّاط الفرنسيّون، ثمّ مشغلًا للأخشاب، وأخيرًا أصبحت صالة لعرض وبيع الملابس التراثية، قبل أن تُقفل نهائيًّا منذ أكثر من عقد.

الدمار جرّاء الغارات الاسرائيلية الوحشية قرب آثار بعلبك

ما من شكّ في أنّ المبنى هو من العمارات التي التصق تاريخها بتاريخ المدينة، إضافة إلى طابعه التراثيّ، وتدميره بالكامل يُعتبر خسارة كبيرة. أضف إلى ذلك، فإنّ عصف الإنفجار أدّى إلى إحداث ضرر كبير في “أوتيل بالميرا”، إذ تحطّم كثير من أبوابه ونوافذه، وبعضًا من الأثات القديم الموزّع في غرف الفندق وصالاته. وبعض هذا الأثاث سيكون من الصعب ترميمه، لأنّ ذلك يتطلّب خبرة واحترافًا، لا ندري إن كانا متوافرين في بلدنا.

حذر من الضرر

يتفق الخبراء والعاملون في مجال الآثار على أنّ مدينة بعلبك سوف يلحقها ضرر كبير في حال استمرار العدوان عليها. ولسوف  تسبّب الغارات الإسرائيليّة وأينما وقعت على المدينة التاريخيّة، في ضرب المخزون الأثريّ الذي يتجاوز المنطقة الأثريّة المعروفة باسم “القلعة” ليمتدّ إلى محيطها كلّه. فالحفريات التي جرت على امتداد سنوات أو عقود ماضية لم تتجاوز الـ ٢٠ في المئة من التربة، في حين أنّ المدينة الأثريّة الرومانيّة، التي يقوم عليها جزء من المدينة، هي أكثر عمقًا، وقد ساهمت في طمرها العوامل الطبيعيّة وسواها.

إضافة إلى المعابد المعروفة، يمتدّ محيط مدينة بعلبك التاريخيّة من بلدة دورس جنوبًا حيث توجد قبّة دورس، إلى حيّ الشراونة، في الطرف الشماليّ من المدينة، حيث جرى العثور على مقابر أثريّة، ومغاور حفرها الإنسان في خلال عصور مختلفة. ومن ثمّ إلى حيّ الصُلح فالطريق الرومانيّ عند منطقة رأس العين، هناك يوجد معبد نبتون، المحاط بمياه البيّاضة. هذا، اضافةً إلى مجموعة من القبب العائدة إلى الفترة الأيّوبيّة كقبّة الأمجد عند طريق الشيخ العبدالله، وقبّة السعيدين مقابل الباب الرومانيّ. إلى ذلك، فقد أثبتت الحفريّات الأثريّة وجود مقابر للفينيقيّين والكنعانيّين وسواهم، ناهيك بالآثار العربيّة الأخرى من أمكنة عبادة وأضرحة.

بعلبك (أرشيف باسم الزين)
أين اتّفاقيّات حماية الآثار؟

أمّا الإتّفاقيّات الدوليّة المتعلّقة بحماية الآثار الموقّع عليها لبنان، فلم تحمِ مدينة بعلبك أو سواها. ومن أهمّ الاتّفاقيّات الدولّية المعنيّة بحماية التراث الثقافيّ، نذكر اتّفاقيّة لاهاي الموقّعة العام 1954 الخاصّة بحماية الممتلكات الثقافيّة وقت النزاعات المسلّحة والحروب، واتّفاقيّة “اليونيسكو” 1970 الخاصّة بالتدابير اللازمة لحظر تداول ونقل ملكيّة الممتلكات الثقافيّة بطريقة غير مشروعة، واتّفاقيّة “اليونيسكو” 1972 المعنيّة بتسجيل مواقع التراث العالميّ، وكذلك اتّفاقيّة توحيد القانون الخاصّ (اليونيدروا 1995)، واتّفاقيّة “اليونيسكو” الخاصّة بحماية التراث المغمور تحت المياه.

وتعليقًا على ضرورة وضع الدروع أو الأعلام الزرقاء على المواقع الأثريّة، يقول العاملون في مديريّة الآثار أنّه، وبغضّ النظر عن قرار وزير الثقافة في العام الماضي، الذي طلب إزالة الدرع الأزرق الكبير، إلّا أنّ الدروع الصغيرة لا تزال موجودة على الآثار داخل القلعة. وآثار بعلبك محميّة ومدرجة ضمن لائحة التراث العالميّ أو الـ World Heritage Sites. لكن أثبتت مجريات العدوان المستمرّ منذ أكثر من سنة وشهر إلى أنّ إسرائيل لا تحترم أيًّا من القرارات والمواثيق الدوليّة، وهي تستهدف المواقع الأثريّة سواء كان مشارٌ إليها بالدروع الزرقاء أم لا، وهذا ما حدث في أكثر من موقع أثريّ خلال الحروب في لبنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى