أبو علي زين شعيب، الجنوب في قصيدة زجل
في قرية الشرقيّة في قضاء النبطية، حيث تمتدّ التلال كأطراف كائن غافٍ لا يصحو إلّا على وقع النداءات البعيدة، ولد الشاعر الزجليّ الكبير أبو علي زين شعيب العام 1924، وكأّن الجنوب ذاته اختار أن يتجسّد فيه. لم تكن ملامحه السمراء سوى انعكاسٍ للأرض التي تشبّعت بشمسها، ولا صوته العميق سوى صدى لتلك الأصوات التي تردّدها الأودية حين يسمو الزجل في الليالي الطويلة. كان حضوره يشبه نشيدًا ناهضًا من جوف التربة، “كاريزماه” مُحكمة كقدرٍ محتوم، ونبرته صادحة بالدهشة، كما لو أنّ الكلمات لا تجد طريقها إلى العالم إلّا عبره.
أبًّا عن جِدّ
نشأ زين شعيب في كنف عائلة لم يكن الشعر فيها ترفًا أو زينة، بل كان كالهواء، يتخلّل الأنفاس ويملأ الفراغات بين الكلمات. كان بيته الأوّل حديقةً من الأوزان والقوافي، وساحته ميدانًا يتبارز فيه المعنّى مع اللحن، حيث تردّد صدى أبيات الجدّ والوالد، الوجيه عيسى شعيب، كأنّها تعاويذ قديمة تحفظها الجبال وتهمس بها الوديان.
منذ نعومة أظفاره، بدا طفلًا مسكونًا بشيء أكبر منه، تتّقد عيناه ببريق المعرفة وكأنّ في داخله سرًّا يسابق الزمن. كان شغفه بالكلمة يتشكّل مثلما يتشكّل النور في الفجر، حتميًّا، لا يحتاج إلى تفسير.
في السابعة من عمره، وقف بين الرجال، من دون أن يتلعثم، بدا حكيمًا عائدًا من سفر بعيد، يلقي الشعر كما لو كان يسترجع سيرة عاشها في زمن آخر. كأنّما ولد وفي روحه صدى السهرات التي كان يصطحبه إليها والده، حيث أدرك باكرًا أنّ الشعر شراعٌ في مهبّ الحياة، وصوتٌ يعبر المسافات ليعانق الأفق.
جوقة “الجنوب العامليّ”
في خمسينيّات القرن الماضي، اندفع زين شعيب إلى عالم الزجل كما يندفع الموج نحو الشاطئ، بقوّة لا تعرف التراجع. كانت خطوته الأولى جريئة، أشبه بإعلان ولادة جديدة لصوت الجنوب، حينما أسّس جوقة “الجنوب العاملي” برفقة الشاعرين خليل روكز وعبد الجليل وهبي. ولم يكتفِ بذلك، بل حمل موهبته إلى بيروت، المدينة التي لا تفتح ذراعيها إلّا للأصوات القادرة على أن تخلخل سكونها. هناك، التقى الشاعر جوزيف الهاشم، المعروف بـ “زغلول الدامور”، ومعًا أسّسا جوقةً نقشت اسمه في ذاكرة الزجل اللبنانيّ، حيث صار صوته جزءًا من نسيجها، لا يُمّحى ولا يخبو.
المدينة الرياضيّة
كان زين شعيب فارسًا من فرسان الكلمة، يجوب الساحات بقدرة ارتجاليّة قلّ نظيرها، يتلاعب بالقوافي مثلما يتلاعب النسيم بأغصان السنديان، فتتمايل الجماهير طربًا مبهورة ببلاغته. هكذا حتّى لم تعد الأماكن تتّسع لجمهوره، لتكون المدينة الرياضيّة خير مكان لاحتضان الآلاف من الذوّاقة الذين يستنفرون ويهيّصون ويسلطنون مع كلّ رد، وقفلة، و”ضربة”، لتكون ساحة الزجل، حلبة التحدّي بالأبيات اللامعة التي سوف يحفظها الجمهور، ويتردّد صداها لسنوات طويلة.
لم تكن كلماته مجرّد سطورٍ موزونة، بل كانت شعلاتٍ توقد الروح، فتارة تغنّي حبّ الوطن، وتارة تروي آمال الشعب وآلامه، وأخرى تسكب عطر الغزل في قصائده كأنّها جدائل امرأة من زمن الأساطير.
دواوينه وأوسمته
أصدر زين شعيب دواوين تحمل بين دفّتيها عبق الجنوب وصدق الكلمة ومن أبرزها “الشجرة الطيّبة” و”المرج الأخضر” و”مع المغتربين” و”بين القلوب” و”بين الأرواح” و”أفكار” و”حلم سجين”.
لم يكن وحده على هذا الدرب فقد ورث أبناؤه موهبته الشعريّة وكأنّها ميراث مقدّس وساروا على خطاه ليكونوا امتدادًا لصوته الذي لم يخفت على رغم مرور الزمن، برز منهم علي شعيب ونديم شعيب الذي كان أحد أعمدة “جوقه الربيع” وعماد شعيب الذي كان ركنًا أساسًا في “جوقة زغلول الدامور”.
مع كلّ بيت نظمه ومن على كلّ منبر اعتلاه حصد زين شعيب تكريمًا يعكس ما قدّمه للزجل اللبنانيّ ومن بينها “وسام الأرز الوطنيّ من رتبة فارس في عهد الرئيس الياس الهراوي العام 1997″ و”وسام تقدير من وزارة الثقافة العام 1995″ و”وسام شرف وتقدير من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي العام 1995″ و”تكريم من الحركة الثقافيّة في لبنان برعاية رئيس مجلس النوّاب نبيه بري العام 1996″ و”درع تكريم عمالقة الشرق من لجنة تخليد عمالقة الشرق برعاية الرئيس الشهيد رفيق الحريري العام 2002″ و”تكريم من مركز كامل يوسف جابر الثقافي العام 2001″ و”تكريم من مجلة شؤون جنوبيّة في قصر الأونيسكو العام 2004”.
نحّات يهذّب الصخر
زين شعيب كان معماريًّا في بناء المعنى، نحّاتًا يهذّب الصخر إلى جوهره الأصفى. كلماته لم تكن نثرًا يبتلعه النسيان، ولا قوافٍ تُلقى كيفما اتفق، بل كانت فراسة تنبض بالحياة، تنمو بين السطور كما تنبت الأشجار في شقوق الأرض العطشى. لم يتّكئ على ميراث من سبقوه، بل خاض في اللغة كمن ينحت ضوءًا من العتمة، يستخرج منها جواهرها الدفينة، يكسوها بصوت لا يخبو، ونبض لا يكفّ عن المضيّ.
زين شعيب كان معماريًّا في بناء المعنى، نحّاتًا يهذّب الصخر إلى جوهره الأصفى. كلماته لم تكن نثرًا يبتلعه النسيان، ولا قوافٍ تُلقى كيفما اتفق، بل كانت فراسة تنبض بالحياة، تنمو بين السطور كما تنبت الأشجار في شقوق الأرض العطشى.
لم يكن زين شعيب زجّالًا يتوسّد صدى الآخرين، بل كان حداثيًّا بروح قديمة، ممسكًا بزمام اللغة كما يمسك البحّار دفّة مركبه وسط العاصفة. أعاد للزجل فتنة الكلمة الأولى، نقّاها من عوالق الزمن، صاغها من جديد بوهج يجعلها مألوفة كأنّها وُلدت الآن، ومتجذّرة كأنّها لم تغب يومًا عن الأذهان. وحين واجه خصومه في ساحات الزجل، لم يكن مجرّد مبارز بالكلمات، بل فارسًا يمتطي الصورة، يطوّع الإيقاع، يراوغ المعاني، حتّى تغدو قوافيه أشبه برياح تقتلع الساكن من مكانه.
أمّا من رآه مغالٍ في سبكه، فهو من لم يدرك أنّ الإبداع ليس ترفًا، بل معركة صامتة يخوضها الشاعر ليجعل من اللغة حياةً أخرى، ومن البيت الشعريّ بيتًا يأوي إليه المعنى هاربًا من عاديات الزمن. كان زين شعيب يعرف أين يزرع كلّ كلمة، كيف يحفر مجرى لكلّ معنى، وكيف يخلق في جسد القصيدة نبضًا لا تهدأ دقّاته. لم يكن يعيد إنتاج الواقع فحسب، بل كان يخلقه من جديد، كأنّ الحياة لا تكتمل إلّا حين ينطقها بشعره.
طاقة إبداع مغناطيسيّة
كان أبو علي أشبه ما يكون بصانع ظلال ماهر، يلتقط الضوء المتناثر في زوايا الحياة ويعيد تشكيله في كلمات تنبض بالحركة. لم يكن يكتب الشعر، بل كان يستخرجه من الهواء، من صوت المطر وهو يسقط فوق الأسطح المعدنيّة، من وقع الخطى على الطرقات القديمة، ومن همسات المقاهي التي يختلط فيها الدخان بالحكايات. كانت كلماته أشبه بباب سرّيّ، يدفعك إلى العبور لعالم موازٍ حيث يتحوّل اليوميّ إلى أسطورة، والعاديّ إلى لغز لا ينفكّ يتكشّف.
في حضوره، لم يكن الزجل مجرّد فن، بل كان طقسًا، طاقة مغناطيسيّة تشدّ المستمعين نحو مدارها. كلماته لم تتطاير في الهواء عبثًا، بل كانت تلتصق بالجدران، تتسرّب إلى المسامات، وتستقرّ في الأذهان كذكرى يصعب محوها. لم يكن زين شعيب مجرّد اسم ضمن لائحة شعراء الزجل، بل كان صرحًا متحرّكًا، معمارًا شيِّد على إيقاع القوافي التي لا تهدأ، ونداءً مبحوحًا يمتدّ بين الماضي والحاضر، كحبلٍ مشدود فوق هاوية النسيان.
في صوته، كان الزمن يختلط بالمكان، يتلاشى الفارق بين الأزمنة، بين عنترة وهو يخوض معاركه، وبين طاولات الزهر التي تملأ المقاهي صخبًا. في عالمه، لم تكن القصيدة مجرّد وزن وقافية، بل كائنًا حيًّا يمشي بين الناس، يجلس معهم على أرصفة المدن، يشاركهم قهوتهم الصباحيّة، ويضحك معهم حين تتساقط الأوراق من شجرة الحياة. كان صوته يحمل حنينًا غامضًا، وكأنّه قادم من مكان لا يعرفه أحد، لكنّه مألوف بطريقة لا يمكن تفسيرها.
غيابه نذير أفول الزجل
ليس سهلًا أن تُعرّف زين شعيب. يمكنك أن تقول إنّه شاعر، زجّال، صوت من الماضي يمتدّ كخيط ضوء نحو المستقبل، لكنّه في الحقيقة أكثر من ذلك. إنّه موسيقى تختبئ في الهواء، رجل يحمل في جبهته خريطة من الأزمان، وفي صوته ارتعاشة السيوف وهي تلتقي، ودفء المواويل التي تتردّد في الحقول عند الغروب. لم يكن مجرد شخص، بل فكرة، صورة في مرآة الزمن، حلمًا لم ينتهِ بعد.
لعقود عاش صوت زين شعيب في أشرطة الكاسيت وها هو اليوم يحضر صوتًا وصورة عبر الـ “يوتيوب” والـ “تيك توك” لحفلات بعضها معروف ومؤرَّخ وبعضها الآخر مجهول الزمان والمكان.
رحل زين شعيب في الـ 10 من نيسان (أبريل) 2005، عن عمر ناهز 81 عامًا، وكأنّ الجسد الذي احتمل صخب الكلمات وضجيج المسارح قد تعب أخيرًا من حمل كلّ هذا المجد.