أبو محسن شاعر «أنصار» المشطوب من سجلات الزجل
كمال الحاف
هناك على حفافي أجران الضيعة، حيث صخور الصوان تفترش كتف التل الموغل قِدماً وتلتحف صدر السماء الرحب، اتصل حبل الوريد بين جبران النبي ورشيد نخلة. هناك على تلك الصخور جدّد أبو محسن بيوت النشيد وحفر إسمه عميقاً بإزميل الشعر على صخور الكلمة.
محمود محسن الحاف «الشاعر المنسي» المعروف بـ «أبو محسن» ابن بلدة أنصار الجنوبية، خبأ بين أوتار حنجرته قوافي المعنى وأوزان القصيد، ووقع دواوين شعره على إيقاع المآسي بحضور قائمة طويلة من السنين المثخنة بجراحات الفقر والحرمان.
أبو محسن الشاعر الزجلي أكبر من المقال الذي «يكتبه» وأصغر من الوطن الذي كتبه. يتّمته الأيام وهو في الرابعة عشرة من عمره ورماه الفقر على باب قصر البيك آنذاك. البيك الذي أوصد بابه بإحكام بوجه أبو محسن، عاد أبو محسن وخلع ذلك الباب بقصيدة “جنوبي ” وهو في ريعان الشباب حيث قال فيها:
أنا إبنك يا منطقتي الحزينة جنوبي والجنوب أصول ديني
عشت فيكي بظلم الجهل مدة جبرني الفقر إنزح عالمدينة
قلت وين ما رحت بحصد مودة المدينة والجبل أرضي وعريني
ثم عاد أبو محسن يخاطب قريته الجنوبية بالقول:
اسأليني شو شفت بؤس وتردي أكيد بتخجلي لا لا لا تسأليني
اسأليني التفرقة شو مستبدة كأنو الكعك مش من هالعجينة
اسأليني ولو سألتك بس ردي حسبيني عبد بيو مشتريني
وإذا بدي ع بيت البيك عدي بعد شهر، الرد حتى يجيني
وان قصدتو واجبات الشكر أدي وعرفني إبن الجنوب بيزدريني
وكل ما عالهوية بمد يدي كأني مش ابن لبنان… صيني
ويختم ..
إذا ما فيك عالمجلس تودي طموحك قول يا أرض بلعيني
وخلي الحاكم بجدك وجدي يفرح كل ما بيتك تهدم….. وبدم ولادنا يعبوا الخزينة
كمياوم في مصلحة الهاتف في بيروت داوم ابو محسن على ربط أسلاك التلفون بشبكة أحاسيسه ومد خطوط موهبته بنغمات التواصل، ورنة قصائده لحن غزل للعاشقين، وسمفونية حزن للمرثيين، ونشيد وطني للمقاومين.
في العام 1964 التحق أبو محسن بالمظاهرات الشبابية. وقف على المنابر وأشعل حماس المتظاهرين ضد ملوك الطوائف وغنى:
حكموا فينا يا عشاق الكراسي بإسم الطائفية حكم قاسي
خنقوا حرية الشعب المفدى بقانون الطوارى والشراسي
الكرامة والعدالة هيك بدا الطاهرة تدنسوها بالنجاسة
مسيرة شعب قمتوا ضدها وقلتو بالوطن فيها مساسي
صدرتوا أمر حتى الأمر أدى بسفك دم المروي والحماسة
الشعب قوة بنادقكم تحدى وزرع في مهجته رصاص المآسي
أخي يللي نضالك ما تعدى الحدود وشددوا عليك الحراسة
أخي رأيك صريح وما تصدى القيادة والحكومة وراسي
أخي غاصب على أرضك تعدى وعلى حريتك جنوا رجال السياسة
أخي بارودتك عالخصم ردها وخلي خيك الجندي بصدرك…. يجي يحط القواصة على القواصة
على وقع كلمات القصيدة اندلعت أعمال الشغب والاعتقالات وفر أبو محسن من قبضة الأجهزة الأمنية وتوارى عن الأنظار قرابة العام. خسر أبو محسن وظيفته وتفرغ للزجل. ترأس جوقة الفنون الشعبية التي ضمت عدداً من الشعراء الكبار، وتنقل بين المنابر في المناطق اللبنانية وذاع سيطه بين شعراء الزجل حتى خاطبه زين شعيب في لقاء في سينما بيروت «تعى يا محمود غني معانا ليش مضيع حالك مع غيرنا» فأجابه أسعد سعيد «تركوا عليي يا زين بكرا منعملوا زيارة بأنصار».
اندلعت الحرب الأهلية في لبنان وخفت صوت الشعر أمام صوت الرصاص، وكان لأبو محسن حصة كبير من رصاص الفتنة التي أصابت قلب اثنين من أبنائه في أقل من شهر واحد فسال دم الفراق من قلمه فقال:
لما نكبني الدهر سيفين بيدي ناديت يا دنيا الفلى حاجي هموم… اديش صرلك على شقانا بتسعدي
عاد أبو محسن إلى بلدته أنصار يعاتب الأيام وخط ديوان شعر بعنوان أبن الخطيئة قال فيها:
انا ابن الخطيئة والرذيلة انا بالشر قابلت الفضيلة
انا سالك نهج بيي وإمي بعشق تفاحة الجنة الجميلة
انا كافر بكاهن فوق قمة وبعابد متخد دينو وسيلة
انا ثدي الخطيئة ذاق تمي لبن حوا ونعم هاك السليلة
ولوما تكون بالدنيا المذمة منين بتعرف النفس الأصيلة
إبان الإجتياح الإسرائيلي للجنوب وقبل أن يصل ديوانه إلى دار النشر، صادرته قوات الاحتلال التي تمركزت في أنصار بمؤازة عملاء ذلك الزمن وأحرقته مع مئات القصائد وتناثر رماد الورق في زاروب الحي القديم فارتجل ابو محسن قصيدته الشهيرة أمام جنود العدو قائلاً:
جنوبي أنا ويا صرخة جنوبي حكاية شعب بالدم مكتوبة
حكاية أرض بالإسم من لبنان ومن خارطة لبنان مشطوبة
حكاية جبل من عهد ماضي كان صورة جميلة كتير محبوبة
حكاية شعب عايش بالحرمان لا كهربا ولا مي مشروبة
حكاية ضمير العدل والوجدان ع خشبة التقسيم مصلوبة
حكاية يتيم مشرد وعريان حنت عليه بيوت منكوبة
حكاية شعب بمجلس العربان عملوا شرف هالأرض ألعوبة
نحن شعب أكبر من التيجان وأكبر من اللي عم يصنعو حروبي
بالرغم عن شامير عن ريغان بدنا نرد حقوق مسلوبة
اللي بدو يحج القدس للغفران يقصد على البقاع وعصيدا وصور… ويحج بيت الله بجنوبي
لم يتحمل عملاء العدو قساوة كلمات أبو محسن فاعتقلوه بضعة أشهر ومن ثم أطلق سراحه.
في ظلال غابة الملول التي تروي عطشها من ندى الفجر مالت شمس أبو محسن نحو الغروب، ولم يعد قلبه المذبوح يساعده على اعتلاء درج المنابر، نكث قلمه في تشارين عمره ودندن:
تشرن ربيعي وهرت اوراقي وغير الحطب بالكرم مش باقي
وع غصن عمري ما بقي عنقود لتفتشي حبة ما بتلاقي
غبتي وقت ما كان عندي جود أعصر وفرق حب اشواقي
وجيتي بعد ما جف دمع العود وودع خوابي الحب ترياقي
ويستكمل مخاطباً حبيبته الغائبة قائلاً:
جايي بلهفي تعاتبي محمود ومن بعد غيبة عمر تشتاقي
عودي رجعي باب الأمل موصود بمفتاح يأسي وضيقة خلاقي
لا تسألي عن حلمك المنشود ودعت بالستين عشاقي
وصفيت عحيط العمر مسنود وما ضل عندي رفاق غير اتنين
عكازتي ونظارتي هنّي رفاقي
بين زواريب الحي القديم، وعلى دروب الشقاء والتعب، حط أبو محسن رحاله واتكىء على حائط الزمن. غفت عيونه على مسند الأيام تاركاً للصبا حكايا وتذكار. عن قنديل الزيت وداخون التراب المجبول بالوفاء، وحزمة حطب من غابة الملول ورغيف خبز مقمر فوق خد النار.
محمود محسن الحاف الذي أُحرقت معظم قصائده بنار الاحتلال الإسرائيلي، عادت وأُحرقت مرّة أخرى من قبل شعراء الصالونات الجدد الذين سرقوها ولم يبالوا.
رثى أبو محسن نفسه قبل أن يرثيه أحد، وزرع قصائده عميقاً في وجدان الناس لتبقى ذاكرة حية، تشهد عليها شاهدة قبره حيث نُقش على رخام مرقده.
أنا لو مت ما بيموت حلمي لأنو الشعر عندي بحث علمي
وع قبري حبة ترابي بتخلق ألف حرف وألف كلمي