“أخد معه كلّ شي” لـ علي إتّحاد مسرح ضد الموت (ڤيديو)

يتساءل المرء عمّا يدفع الممثل اللبنانيّ علي إتّحاد إلى هذا القدر من استثمار الجهد في المسرح، ليقدّم عرضًا مسرحيًّا يمتدّ لأسبوعين، ويتطلّب كلّ هذا التعب والوقت، بينما يمكنه، وبكلّ بساطة، أن يرفع مقطعًا كوميديًّا على “تيك توك” ويحصد مليون مشاهدة في ساعات. الجواب ليس لغزًا، ببساطة، إنّه جوهر ما يجعل المسرح فنًّا عنيدًا لا يموت: روح الفنّان وشغف الفنّ.

ولست هنا في موقع المجاملة، بل في موقع الملاحظة الدقيقة: علي إتّحاد على وسائل التواصل يشبه الوجبة السريعة، نكتة سهلة وخاطفة تشبه زمنها. أمّا على الخشبة فهو شخص آخر بالكامل؛ صاحب قضيّة لا صاحب نكتة سهلة، حامِل معنى لا جامع إعجابات. عرضه المسرحيّ على خشبة مسرح دوّار الشمس في بيروت بعنوان “أخد معه كلّ شي” يشي، من لحظته الأولى، بأنّ الممثّل اختار موقعه الحقيقيّ: مسرح ضدّ الموت، لا محتوى ضدّ الملل.

وعلى الرغم من اجتياح الـ “سوشيال ميديا” لحياة الناس، وتفشّي ثقافة “النقرة والسكرول” كنمط جديد للترفيه، يختار علي إتّحاد أن يغامر بعرض مسرحيّ لا يشاهده سوى مئات من الأشخاص. هذه ليست مجازفة تقنيّة عابرة، بل موقف جماليّ وأخلاقيّ في زمن يُقاس فيه الفنّ بكمّيّة المشاهدات لا بنوعيّة التلقّي.

علي إتّحاد على وسائل التواصل يشبه الوجبة السريعة، نكتة سهلة وخاطفة تشبه زمنها. أمّا على الخشبة فهو شخص آخر بالكامل

المسرح كمساحة إنسانيّة

من هنا، فإنّ ما يفعله علي وفريقه المسرحيّ لا يمكن أن يصدر من فراغ، بل من التزام داخليّ بالمسرح كمساحة إنسانيّة لا كوسيلة استهلاك. وهذا بالضبط ما يشكّل “روح الفنّان” لديه: تلك الرغبة في مواجهة الزمن السائل بعمل حيّ، مباشر، يطالب المشاهد بأن يجلس ويُصغي ويتورّط. وللأسف، غالبيّة من عرفوا علي عبر “تيك توك” رأوه في صورته الأكثر تسطيحًا، ولم يروا جوهره المسرحيّ على الخشبة، حيث ينكشف الإنسان قبل الممثّل، والصدق قبل الضحكة. وهنا أدعو المشاهدين ولا سيّما الجيل الجديد إلى اكتشاف “الوجه الآخر” غير المرئيّ على الشاشة والمكثّف على الخشبة.

مهارة امتلاك الأدوات المسرحيّة

العمل من كتابة وإخراج وتمثيل علي إتّحاد وزميله علي بليبل، الذي لا يقلّ مهارة عن إتّحاد في أدائه، وقد وظّف الممثّلان أداءً مسرحيًّا حركيًّا وصوتيًّا لافتًا، وتنقّلا بين شخصيّات متعدّدة. وما يميّز إتّحاد هو خفّة دمه وثراء كتابته، التي تتحوّل على الخشبة إلى جماليّة تحمل في طيّاتها مغزىً عميقًا، على عكس السوشيال ميديا، إذ ربّما تتحوّل النكتة أحيانًا إلى حالة سمجة، وتصبح الشخصيّة سطحيّة بفعل كثرة الإنتاج والسرعة والهرولة وراء المشاهدات. بينما على خشبة المسرح، الأمر مختلف: هناك طرح يجب أن يصل إلى نهايته، إلى ذروته وخواتيمه، وهو ما نجح فيه إتّحاد. صحيح أنّ النصّ احتوى على بعض الجمل التي يمكن اعتبارها كليشّيهات، ومع ذلك، لم تمنع الجمهور من الضحك والتفاعل الحقيقيّ.

قالب قصصيّ مترابط

أمّا السرد في مسرح علي إتّحاد يكاد يكون طاقة لا تُستنزف. قصص تتوالد من قصص، وطفولة معجونة بالحكايات يحوّلها مع زميله الآخر إلى مشهديّات مسرحيّة تُبنى على أحداث واضحة وشخصيّات مرسومة بوعي. نرى خالته نيبال، ونرى أبو علي زعيتر صاحب خطّ الإنترنت، ونرى كريستال حبيبته الأولى، ونرى والدته كما يستحضرها في ذاكرته، وهناك الميكانيكيّ وأزعر الحيّ… كل ذلك يأتي في تناغم لافت بين العليّين، بليبل وإتّحاد، حيث يشكّلان ثنائيًّا قادرًا على بلورة هذا الإرث القصصيّ وتحويله إلى حضور حيّ يُبثّ أمامنا. مع العلم أنّ العرض كان بالإمكان “تعميقه” أكثر، فلسفيًّا أو سياسيًّا. لكن، لربّما كان من شأن ذلك أن يجعل العرض “أكثر قساوة” وأقلّ جماهيريّة!

اللامعنى الذي يحمله فعل القتل

كان يمكن للعرض أن يستمرّ ساعات ونحن لا نشعر بثقل الزمن. لكنّ علي يُتقن اقتصاد السرد، يعرف اللحظة التي يجب أن يتوقّف فيها، لا لأنّ القصص انتهت، بل لأنّ السرد ليس الغاية بل المدخل إلى الرسالة. رسالة يصرّ على وصفها بـ “الصغيرة”، لكنّها في حقيقتها عميقة وموجعة: كلّ إنسان يحمل تاريخًا وطفولة وعلاقات، وأمكنة، وماضيًا منسيًّا، ومشاعر، وكلّ هذه الحمولات تُهمَّش وتُهمَل في عالم يعوزه العدل والعدالة… الإنسان عبارة عن كمّيّة هائلة من التفاصيل، وفجأة، يبتلعها الموت. هذا الحسّ الإنسانيّ يجعل السرد ليس متعة فقط، بل فعل مقاومة ضدّ الموت/القتل العمد الذي يفصل بينه وبين الحياة “لحظة” في الوجود، أو “قرار” كان بإمكانه تغليب الحياة على الموت.

وبطبيعة الحال، يلجأ علي إتّحاد في عرضه إلى المواربة بداية، من شاب توفّي نتيجة اختناقه أثناء أكله ورق الملفوف المحشيّ، ليصل بالمشاهد في النهاية إلى أنّ الموت إنّما نتيجة “لحظة وقرار”، وعبر هذا المدخل يتبلور الموقف السياسيّ الرافض للقتل بمجمله في كلّ الأمكنة والأزمنة. فالبطل الميّت بالصدفة ليس إلّا واحدًا من ملايين آخرين يقتلون بقرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى