أزمة تعويضات في الضاحية: خسارات تتجاوز المبالغ المدفوعة
وسط أحياء الضاحية الجنوبيّة، حيث لم تجفّ الدموع ولا دماء الشهداء بعد، تتبدّى ملامح أزمةٍ جديدة تُثقل كاهل العائدين من شتات الحرب وآلامها. فبعد مرور شهر ونصف الشهر على وقف إطلاق النار الذي لم يمنع المسيّرات من التجوال في سماء الضاحية، لا يزال العائدون يعيشون كابوس تَحوُّلِ منازلهم إلى أنقاض ذكريات، وأحلامهم إلى رمادٍ متناثر، فانتظروا تَحقُّق وعود التعويضات، كطوق نجاةٍ يحميهم من شبح التشرّد. لكن الواقع كان صادمًا، حين اكتشفوا أنّ هذه المبالغ لا تكفي حتّى لإيجار مأوى موقّت، خصوصًا في ظلّ ارتفاعٍ جنونيّ في أسعار الإيجارات.
لكنّ الخسارات والتعويضات لم تقف عند ارتفاع الإيجارات ودمار المنازل، بل تعدّتها إلى الأثاث حيث تُقدّره مؤسّسة “جهاد البناء” بمعدّل وسطيّ يبلغ 8000 دولار، وهو ما أثار أيضًا اعتراضات المتضرّرين، إذ يعتبره البعض لا يتلاءم مع الخسارات في أثاث منازلهم، وهي تتعدّى ذلك بأضعاف مضاعفة.
كيف تُحدّد قيمة التعويضات؟
داخل مبنى المركز الصحّيّ التابع لبلديّة الغبيري، يعمل مهندسو وموظّفو “جهاد البناء” في تدقيق المسوحات التي تُرسل إليهم من مختلف المناطق في الضاحية الجنوبيّة. هنا، تُحدّد قيمة التعويضات بحسب الرمز الذي يضعه المهندس الميدانيّ، وبذلك تُحوّل الكشوفات إلى تدقيقها مرّاتٍ عدّة قبل إدخالها إلى نظام الكمبيوتر. ووفق إحصاءات “جهاد البناء”، فقد جرى مسح 83,973 وحدة سكنيّة متضرّرة في الضاحية الجنوبيّة، موزعة على 93 منطقة، وذلك حتّى كتابة هذه السطور. وقد بلغ عدد الاستمارات التي تلقّتها المؤسّسة على مستوى لبنان 179449 استمارة.
وفي إطار تنفيذ هذه العمليّة، أنشأت المؤسّسة خمسة مراكز للمهندسين، ومركزًا واحدًا لجمع المعلومات. أمّا عن مراحل وآليّة العمل، فيقول المهندس حسين خيرالدين المشرف على “مشروع إعادة الترميم والإعمار 2024” لـ “مناطق نت”، إنّهم “في مرحلةٍ متقدّمة من مسح ومعاينة الأضرار في مختلف المناطق اللبنانيّة. وقد تحقّق 80 في المئة منها حتّى اليوم، بينما يسير دفع التعويضات على قدمٍ وساق”.
ونفى خيرالدين “وجود عجزٍ ماليّ في دفع التعويضات”، بل أعاد سبب التأخير إلى “إجراء المسوحات في وقتٍ قصير، وارتفاع أعداد المتضرّرين، فيما يتطلّب هذا الأمر وقتًا وجهدًا”.
وعن التفاوت في تلقّي التعويضات، يؤكّد خيرالدين “عدم وجود أيّ تفرقة في توزيع التعويضات بين المناطق”. وذكر أنّ الأموال “دُفعت إلى المتضرّرين في شمال لبنان بشكلٍ كامل، وفي بيروت وجبل لبنان بنسبة 90 في المئة”.
تعويضات سريعة للأضرار البسيطة
عن الأضرار البسيطة يشير خيرالدين إلى أنّ “أصحاب البيوت المتضرّرة بشكلٍ بسيط يتلقّون التعويضات بشكلٍ أسرع من أصحاب البيوت المتضرّرة بالكامل، بسبب معاودة إجراء المسوحات والتدقيق، عدا عن بعض الطلبات التي تنقصها بعض المعلومات اللازمة”. وتشمل المسوحات التي يُنفّذها مهندسو “جهاد البناء”، المحلّات التجاريّة والأراضي الزراعيّة، بالإضافة إلى السيّارات المتضرّرة.
خيرالدين: إنّنا في مرحلةٍ متقدّمة من مسح ومعاينة الأضرار في مختلف المناطق اللبنانيّة. وقد تحقّق 80 في المئة منها حتّى اليوم، بينما يسير دفع التعويضات على قدمٍ وساق
ولكن بحسب خيرالدين، فإّن “هذه المسوحات لا تهدف إلى دفع تعويضاتٍ لأصحابها، لأنّه لا يوجد أيّ قرار في ذلك، بل يقتصر الأمر على تعويضات إيواء من تضرّرت منازلهم، وإعادة البناء”.
مأساة ما بعد الحرب
في خضّم سعي ياسمين عواضة إلى تأمين مأوى لها بسعرٍ معقول بعد أن دُمّر منزلها بشكلٍ كامل في محلّة “بئر العبد”، وجدت نفسها أمام معضلة الارتفاع الجنونيّ في أسعار الإيجارات. تقول ياسمين لـ “مناطق نت”: “فور توقّف الحرب باشرت جهاد البناء في إجراء المسوحات، ودفعوا لنا تعويضًا وتلقّيت مبلغ 6000 دولار، لكنّني صُدمت بارتفاع أسعار الشقق إلى درجةٍ تُجبرني على دفع مبالغ إضافيّة من جيبي الخاص”.
تلفت ياسمين إلى أنّها تلقّت هي وجيرانها في المبنى المهدّم وعودًا من مهندسي “جهاد البناء”، ببدء عمليّات رفع الأنقاض فور الانتهاء من هدنة الـ 60 يومًا، “على أن تبدأ بعدها خطّة إعادة الإعمار التي ستستغرق خمسة أشهر”. حسبما تنقل ياسمين عن لسان المهندسين.
تعويضات الأثاث غير منصفة
عن تعويضات أثاث المنازل التي حدّدت بـ 8000 دولار لمرّة واحدة، يعتبر البعض أنّها لا تساوي القيمة الحقيقيّة للأغراض الخاصّة بأصحاب المنازل التي تحوّلت إلى رماد. تجد ياسمين صعوبة في تقبّل الأمر، وتقول إنّ خسارتها المعنويّة “كبيرة بعد وفاة أهلي الذين اختاروا بأنفسهم تلك المقتنيات”. وتضيف: “خسرت الذكريات الجميلة التي قضيتها مع أهلي وإخوتي في هذا المنزل”.
من جهته ينتظر محمّد فنيش موعد تسديد مبالغ التعويضات التي دفعها من جيبه الخاص لإصلاح الأضرار التي لحقت بمنزله. يوضح فنيش لـ “مناطق نت” أنّه سمع “أنّ بعض الجيران حصل على تعويض، لكنّني لم أتلقَّ شيئًا بعد، على الرغم من أنّني اضطررت إلى استدانة مبلغ 1600 دولار كي لا أبقى مهجّرًا”.
لا تقتصر الأضرار المادّيّة بالنسبة إلى فنيش على التصليحات التي أجراها في البيت الذي يسكنه، بل خسر وبشكلٍ كاملٍ منزلًا آخر يملكه في بئر العبد قرب “أفران سندريلّا”، وكان يعيش من إيجاره. لكنّه يؤكّد أنّه لم يقبض “أيّ تعويض كبدل إيواء، بل ذهب التعويض للمستأجر، عدا عن خسارتي ألواح الطاقة الشمسيّة والمكيّفات التي كانت ضمن الشقة”. وعلى رغم تلك الخسارات يرى فنيش أنّ وضعه لا يزال أفضل من غيره، إذ يقول: “إنّ بعض التجّار خسروا بضائعهم وتجارتهم، ولن يُعوّض لهم بشيء”.
تعويضات كافية وأكثر
من جهتها، تعتبر الحاجّة زينب إبراهيم “أم حسن” أنّ التعويضات التي تلقّتها بعد تضرّر واجهة الألومينيوم والأبواب والزجاج في منزلها الواقع في حيّ الجامعة جيّدة. ولفتت إبراهيم في حديثها إلى “مناطق نت” إلى أنّ “مسح الأضرار أُجريَ مباشرةً بعد توقّف الحرب، وبعد شهر تواصلوا معنا كي نحصل على مبلغ التعويض الذي كان يُتوقّع أن يكون 2000 دولار، لأُفاجأ بأنّه 5000 دولار”. تتابع الحاجّة زينب أنّ “معظم سكّان المبنى الذي تسكنه، لم يُسجّلوا اعتراضات على التعويضات”.
عن تعويضات أثاث المنازل التي حدّدت بـ 8000 دولار لمرّة واحدة، يعتبر البعض أنّها لا تساوي القيمة الحقيقيّة للأغراض الخاصّة بأصحاب المنازل التي تحوّلت إلى رماد
جنون الإيجارات
يواجه المتضرّرون اليوم تحدّيًا كبيرًا في العثور على منازل تستوفي الحدّ الأدنى من متطلّبات ما كانوا يعيشونه سابقًا، كما هو حال المحال التجاريّة التي تضاعف بدل إيجارها.
يقول أحد التجّار ممّن تضرّرت محالهم جرّاء القصف في محلّة “الجاموس” لـ “مناطق نت”: “اضطررت إلى البحث عن مكانٍ أستودع فيه ما تبقّى من بضائعي، بعد أن دُمّر متجري، لكنّ جشع التجّار في رفع الأسعار شكّل لي أزمةً جديدة”.
ويضيف: “عرض أحد أقربائي محلًّا يملكه للإيجار قبل الحرب بمبلغ 800 دولار، وحين طلبت منه استئجاره الآن، طلب منّي الانتظار شهرًا حتّى ترتفع الأسعار أكثر، لعلّه يحظى بمستأجر يدفع له أكثر منّي. وفي النهاية، اضطررت إلى استئجار المحلّ نفسه مقابل 1500 دولار”.
تظهر بعض الشيكات على مواقع التواصل الاجتماعيّ على حسابات المعترضين على المبالغ المرصودة لهم كتعويضات. ويشير معظمهم إلى أنّ المبالغ التي تلقّوها أقلّ بكثير من خساراتهم الحقيقيّة.
وبينما تلقّى بعض أصحاب المنازل التعويضات دون المستأجرين، دُفعت التعويضات في مناطق أخرى إلى المستأجرين.