أسئلة عُلّقت على شجرة الميلاد في بعلبك
هل هناك أجواء عيد في بعلبك؟ سؤال، وبخلاف أعوام سابقة، صار يطرحه سكّان المدينة هذه الأيّام على أنفسهم وعلى آخرين في المدينة. صحيح أنّ أعياد نهاية العام ومن الناحية الدينيّة، هي في الأساس أعياد تخصّ الطائفة المسيحيّة، وحتّى الكاثوليكيّة منها، كون الطوائف الشرقيّة تعتمد روزنامة مختلفة، ولكن، جرت العادة أن تكون هذه الأعياد ملكًا للجميع من الطوائف كلّها، لما تحمله عادة من أجواء فرح، وما تؤدّي إليه، أيضًا، من لقاءات بين الأسر، وحتّى بين الأفراد.
غابت زينة الميلاد عن بعلبك هذا العام. كان التخطيط لهذه الزينة، على تواضعها قياسًا على مناطق لبنانية أخرى، يقوم على عاتق بعض الجمعيّات، في ما يشبه التنافس بين جمعيّة وأخرى من أجل تحقيق هذه المهمّة.
اعتدنا رؤية شجرة “عملاقة” نسبيًّا بساحة خليل مطران، في مكان غير بعيد من تمثاله، عند مدخل المدينة القديم، وغير بعيد أيضًا من “أوتيل بالميرا”، وهياكل بعلبك الواقعة إلى الجهة الغربيّة من الساحة، أو ربّما ينبغي القول إنّ الساحة تقع إلى الجهة الشرقيّة منها، فالهياكل أقدم من الساحة، ومن الأحياء التي لم تولد إلّا في فترات لاحقة.
شجرة وأسئلة كبرى
وإذ نقول إنّ الشجرة عملاقة “نسبيًّا”، فلأنّنا لا نستطيع أن نزيح عن ذهننا مسألة المقارنة بين الاثنين: الهياكل والشجرة، من حيث الضخامة والحجم. وفي الأحوال كلّها، غابت الشجرة التي كان من شأنها، مع الإضافات الضوئيّة والزخرفيّة الملحقة بها، المقامة على الأبنية المحيطة بالساحة، أن تضفي على المكان بهجة هو أشدّ ما يكون في حاجة إليها في الوقت الحاضر. هذا السعي إلى البهجة غاب في طيّات الواقع، الذي أنتجته الحرب، وما تركته من ذيول يبدو أنّ الخلاص منها سيتطلّب وقتًا أطول، بل كثير من الوقت، وكثير من الجهد.
غابت زينة الميلاد عن بعلبك هذا العام. كان التخطيط لهذه الزينة، على تواضعها قياسًا على مناطق لبنانية أخرى، يقوم على عاتق بعض الجمعيّات، في ما يشبه التنافس بين جمعيّة وأخرى من أجل تحقيق هذه المهمّة.
السؤال الذي طُرح في البداية طرحته كذلك على نفسي، أنا الفتاة السوريّة التي تعيش مع أهلها وأخوتها وأخواتها، كثيري العدد، إذا ما قيست عائلتنا بعائلات لا يصل عدد أفرادها إلى عدد أصابع اليد الواحدة. لقد اعتدنا، منذ إقامتنا في هذه المدينة منذ مدّة ليست بقليلة، على أن نزيّن شجرة ميلاديّة في بيتنا، شجرة متواضعة كما البيت نفسه. لكنّ حضورها في زاوية الغرفة، على الرغم من ذلك، يُبعد عنّا، لهنيهات بسيطة، الأسئلة الكبرى التي تجول في أذهاننا: ماذا سنفعل في الفترة المقبلة؟ هل سنعود إلى سوريّا، بعدما تغيّرت الأمور فيها؟ وإلى أين سنعود بعدما تحوّل بيتنا هناك إلى ركام؟ وكيف سنعمل على تحصيل لقمة العيش في وطننا؟
سؤال لا يجول في خاطرنا فحسب، بل في خواطر سوريّين كثر غابوا عن بلدهم أعوامًا طويلة، بنوا أسرًا في المنفى، وأنجبوا أطفالًا لا يعرفون شيئًا عن بلدهم الأصليّ.
لكنّنا نحاول طمس هذه الأسئلة وأن نخبئها، في الفترة الحاليّة، خلف شجرة الميلاد، التي لم نستطع أن ننصبها في بيتنا هذا العام. حالت أحوالنا المادّيّة دون ذلك، علمًا أنّ أحوالنا ليست هي السبب الأساس. كان بأمكاننا أن ننصب شجرة بسيطة ورمزيّة، غصن شجرة سرو، شريطة حمراء، ونجمة مصنوعة يدويًّا كانت تكفي، كما كان يفعل فنّانو التيّار الأقلّيّ الـ Minimal في نتاجهم، بحسب ما أوضح لي صديقي المتخصّص في تاريخ الفنّ. هذا، في حين أفضت لي إحدى صديقاتي أنّ شراء زينة لشجرة في هذه الأوقات يُعتبر ضربًا من التبذير، والأجدى صرف المال من أجل حاجات حياتيّة أخرى أكثر إلحاحًا.
فرح لا مكان له
لم نقم إذًا بهذا الفعل الميلاديّ، الذي اعتدنا أن ننفّذه خلال السنوات الماضية. وكأنّ الفرح لم يجد مكانًا رحبًا له في ديارنا. علينا أن نزيل عن أنفسنا تلك الكومة من الغمّ، التي تراكمت على كاهلنا مدّة طويلة، المعقودة على عدم اليقين، والتفكّر في المستقبل الغامض.
لا أحسد أولئك السوريّين الذين لجأوا إلى بلاد بعيدة آلاف الكيلومترات من وطنهم، وبعضهم ما زال ينتظر الآن جوابًا على طلب الهجرة، في وقت قرّرت بضع دول أوروبّيّة عدم البحث في طلبات من هذا النوع من الآن وصاعدًا، بعدما تغيّرت الأحوال في سوريّا، وانتفت الأسباب التي تدعو سكّان البلد إلى الهجرة.
سافر أحد معارفي إلى ليبيا منذ مدّة، حاملًا معه إيجار الرحلة الباهظ في مركب غير شرعيّ من شأنه أن يحمله إلى أوروبّا. عرف بالتعقيدات الحاصلة أخيرًا في موضوع الهجرة، وهو الآن يتهيّأ للعودة إلى لبنان، بحثًا عن مصير غير معروف.
فرح في شوارع بعلبك
على الرغم من كّل ذلك، سررنا يوم البارحة، بعدما شاهدنا المسيرة التي جابت شوارع بعلبك، وهي من تنظيم جمعيّة الشباب المسيحيّ في بعلبك ومجدلون. موسيقى صاخبة صخبًا مفرحًا، صبايا وفتيان بملابس عيد الميلاد التي يطغى عليها الأحمر، هتافات تهنّىء بالعيد، شيء يشبه الرقص، وتلويح بالأيدي للمارة. توقّف سكان المدينة، ممّن صودف وجودهم في المكان من أجل التقاط الصور، ولم يعترض أحد، أو يتأفّف، من الزحمة التي تسبب الموكب في خلقها خلال مروره في الأسواق.
يقول سكّان بعلبك الأصائل (أو الأصليّون)، وهذا التعبير، الأصليّون، صرت أسمعه في غير مناسبة، إنّ بعلبك كانت دائمًا مكانًا للإلفة والتعايش بين الأديان والمذاهب. يحتفل الجميع بأعياد الجميع، لا بل كانت علاقات الصداقة، في بعض الأحيان، بين أفراد من طوائف مختلفة أقوى من تلك القائمة بين أفراد من الطائفة نفسها. لم يولِ أحد هذه المسألة اهتمامًا، وربّما ما زالت آثار هذه العلاقات الودّيّة مرئيّة في الوقت الحاضر، لكنها تحتاج إلى ظروف أفضل بعد حرب قاتلة.