أسواق طرابلس “الجوّانية” وذاكرتي المركونة هناك
![](https://manateq.net/wp-content/uploads/2025/02/tripoli.jpg)
ثمّة أماكن هي بالعمق أكبر من أيّ حكاية يمكن للمرء أن يقصّها. المكان في هذا الصدد هو واقعة مجرّدة من الكلمات، ذلك أنّ الحواس، كلّ الحواس، تجهد لاستدراك كنهه والكلمات في هذا السياق مجرّد محاولات لتلمّس الطريق.
أوّل مكوث لي في مدينة طرابلس يعود إلى تسعينيّات القرن المنصرم حيث عايشت تفاصيل المدينة كشرطيّ ما يقرب السنة ونصف السنة، ومع كلّ عودة لي إلى تلك المدينة أراني متجذّرًا بشدّة في ذكريات غير واضحة المعالم والقسمات.
فطرابلس، كلّ طرابلس، هي مدينة صمتي وعيوني الجاحظة في كلّ اتّجاه، بيد أنّ أسواق طرابلس القديمة هي خريطة ذكريات لا تني تتحرّك داخل دهاليز ذهني تمامًا كأفعوان حنون.
معالم مدينة ونبضها
من التلّ إلى البازركان والملّاحة مرورًا بشارع الراهبات والسوق العريض فالعطّارين والصابون وشارع النحّاسين، ومن هناك إلى شارع الكنائس وغيرها كثير من الأزقّة الفسيحة الأرجاء، الفسيحة الحواس وبشكل خاصّ الفسيحة الحميميّة وفلتات الخطوات.
![](https://manateq.net/wp-content/uploads/2025/02/خان-الخياطين-1-scaled.jpg)
أحبّ الأماكن التي تتصيّد هفوات المارّين بها ويزداد هذا الحبّ عمقًا لدى احتضان هذه الأماكن، ليس فقط لأجساد هؤلاء المارّين، إنّما أيضًا لأرواحهم الشريدة. على الرغم من صراحة الأسواق القديمة في طرابلس، ورحابة صدرها لكلّ عابر سبيل، فضلًا عن تلك الابتسامة المنطوية على خجل هائل، فإنّ تلك الأسواق تجهد لأن تبقى مصانة عن عيون المتلصّصين. إنّما، أنا المتلصّص الشغوف لطالما جاريت رغبتي مع كلّ زيارة لي إلى طرابلس لأن أتزوّد بعدد كبير من العيون علّي أخرق كلّ التفاصيل.
تحتّم شوشرات الجدران المتداخلة وتلك الأسقف التي تناطح بعضها بعضًا في تلك الأسواق القديمة على المرء أن يعود إلى ما يختزن بداخله من ركام قديم… ركام حميم غير منضبط تمامًا مثل سوق طرابلس.
الذاكرة المركونة هناك
لطالما كنت مصرًّا على أنّ المكان ليس محض واقعة برّانيّة على الإطلاق، بل هو ذلك الجوّانيّ الذي يختزن المسكوت عنه والصريح ويختزن أيضًا الهائم والمقيّد، وأكثر ما يختزن تيقّظ الحواس واسترخائها في آن. إنّها أسواق طرابلس الجوّانيّة، تلك الطرق المبعثرة المترامية الكتومة الصريحة والتي تستدعي استنفار الحواس وتدعو الذهن بنفس الوقت إلى الراحة والاسترخاء.
يقال إنّ الذاكرة تسعى لأن تعقلن الأشياء، إنّما أشياء سوق طرابلس تسعى لأن ترمي بذاكرة تسعيناتي في غياهب السذاجة الرائعة والجنون الذي يجيد التعامل مع نفسه إلى أقصى الحدود. نظنّ لوهلة أنّ ملامح المكان هي مجرّد غبش طارئ فوق متاهات الأرواح وداخل عتق العيون، إنّما الحقيقة عكس ذلك على الإطلاق. ملامح المكان تشكّلنا، ترسم حدود علاقتنا مع أنفسنا ومع الأخرين، وثمّة أمكنة مثل سوق طرابلس القديمة تكثّف الملامح وتركّزها بلا نقاط ارتكاز.
تحتّم شوشرات الجدران المتداخلة وتلك الأسقف التي تناطح بعضها بعضًا في تلك الأسواق القديمة على المرء أن يعود إلى ما يختزن بداخله من ركام قديم… ركام حميم غير منضبط تمامًا مثل سوق طرابلس.
ثمّة أمكنة في هذا العالم توقظ داخل الوعي تلك الترسّبات البدائيّة التي تأبى الانزياح كاعتبار العالم على سبيل المثال معبدًا لا متناهي الأطراف. أماكن تسيّر بداخلنا قوافل المنسيّ والمكبوت والذي نظنّ به الزوال. ثمّة ما يشبه الطواف الدينيّ تراه متشبّثًا بي لدى خوضي بعض التجارب المكانيّة كسراديب القاهرة مثلًا أو بعض أزقّة مدينة عمّان أو متاهات القيروان أو غيرها، وعلى رأس كلّ هؤلاء أسواق طرابلس الداخليّة.
رائحة البخّور
كثيرة جدًّا عناوين الكتب التي تناولت وجاهة المكان، لكنّني على يقين مطلق أنّ المكان هو الكتاب الأكبر… إنّ المكان – إذا أردنا أن نستعير الشاعر الفرنسيّ مالارميه – هو الكتاب الذي لا يبدأ ولا ينتهي بيوم ولا يتعلّق الأمر هنا بالحدود الجغرافيّة على الإطلاق، إنّما يتعلّق بالوجدان، بالتاريخ وأكثر ما يتعلّق بالخيال.
كنّا في شارع العطّارين لمّا سألتني فاطمة “بشو شارد؟”. حاولتُ ترتيب الجواب بذهني لكنّني فشلتُ، ذلك أنّ رائحة البخّور التي داخلت كياني حذفتْ راهنيّة المكان، فإذا بي بسبب ذلك البخّور العتيق في غياهب أمكنة أخرى تزاحم بعتقها الإله.
العالم معبد… إنّ العالم معبد فخم وليس علينا كبشر أبديّين إلّا تلمّس قداسته بتواضع وبصمت.
![](https://manateq.net/wp-content/uploads/2025/02/FB_IMG_1739279154801.jpg)
تعاويذ ضدّ النسيان
لست أدري إذا ما كنت أغالي في هذا السياق، إنّما الموضوع شخصيّ جدًّا والشخصيّ هو مأربي الدائم في كلّ ذهاب بخيالي وإيّاب. ليس العالم وجهة نظر، إنّه نحن، شئنا هذا الأمر أم أبيناه. إنّ تلك الأمكنة التي نزورها وتقذف بنا إلى ما يتجاوز التوقّعات هي نذور أو تعاويذ ضدّ النسيان، نسيان أنّنا نحن العالم بكلّ شجره وطيره وحيوانه والتراب… إنّنا تلك الحصى التي تتحرّك بوعي وذلك الربّ الذي يشتاق إلى نفسه بسبب شيوع الخراب… بسبب شيوع النسيان.
لا يلتئم جرح المكان إلّا عبر الحنين. مدن العالم، وطرابلس ضمنًا، هي جروح تنزف، أحجار هائلة نست موطنها الأصليّ وتاهت عن عتباتها الأولى حيث قداسة الحجر والتراب. ترانا ننزوي خلف سيرنا فوق الدروب؛ ولكن للسير، لكلّ سير، أسبابه الغامضة… أسباب تستبطن طيّ المسافة بين الماضي والآن.
“طرابلسيّيّ… طرابلسيّيّ”. كان الرجل الستّينيّ ينادي على كعكه مُوزّعًا نظراته على جملة المارّين بقربه. رحتُ أنتش ذاك الكعك وأنا بعد هناك في أروقة معبد قديم، معبد منقرض منذ آلاف السنين يختلس منّي طعم ذلك الكعك كقربان مقدّس…