أصداء الحرب الإسرائيليّة الإيرانيّة في البقاع الشماليّ

في البقاع الشماليّ، حيث يلملم أبناؤه الصابرون، أشلاء موسم زراعيّ ضاع بفعل تَغَيُّرٍ مناخيٍّ قاتل، ضاعت معه أحلام عشرات آلاف العائلات بـ “رزقة الصيف”. وفي ظلّ أجواءٍ مُحمَّلة بالهموم والمشاكل، بدءًا من إهمالٍ مزمنٍ من السلطة، إلى تداعيات وأثار العدوان الإسرائيليّ على لبنان. جاءت أخبار الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة لتخترق تفاصيل الحياة اليوميّة للبقاعيّين، ليس بوصفها أزمة إقليميّة بعيدة، بل كتهديد مباشر يطرق أبواب بيوتهم، يوقظ في النفوس مخاوف قديمة، ويطرح أسئلة متجدّدة عن دورهم وموقعهم في صراعات الآخرين.

الخوف من الآتي

في مدينة الهرمل، على ضفاف العاصي المًتدَّفق بخجلٍ هذا العام، يجلس فراس علَّام، محامٍ وناشط في الحراك المدنيّ، يتابع نشرات الأخبار بنظرة واجمة. يصف بقلق لـ “مناطق نت” ما يجري قائلًا: “هذه الحرب هي الأخطر والأكثر تأثيرًا في المنطقة لأجيال قادمة، ستكون كارثيّة على لبنان، مهما كانت النتيجة. شعوب المنطقة ومنها لبنان ستدفع أثمانًا غاليةً للعدوانيّة والهمجيّة الإسرائيليّة من جهة، مثلما سيدفعون ثمن السياسات والحسابات الخاطئة لدول المنطقة من جهة أخرى، التعاطي معها لبنانيًّا يجب أن يكون بحكمةٍ وعقلٍ بارد، بعيدًا من لغة العواطف. يجب أن ينصّب تركيزنا على تدارك تداعيات هذه الحرب ونتائجها، والأفضل أن نتدارك مسبقًا، فالندم لاحقًا غير مجدٍ”.

حول الجو الشعبيّ العامّ في الهرمل وقراها وأراء الناس يرى علَّام أنّ “أبناء الهرمل بطبيعة الحال وبغضّ النظر عن موقفهم من إيران، سواء سلبًا أم إيجابًا، إلّا أنّهم إلى جانب أيِّ طرف يواجه الكيان الصهيونيّ الغاصب، كائنًا من يكون”. ويتابع علَّام شارحًا الواقع الاجتماعيّ للهرمل وقراها “القسم الأعظم منهم، منحاز دينيًّا وعاطفيًّا ونضاليًّا إلى جانب إيران، والجميع تسوده مشاعر متناقضة، يعلو الفرح والتهليل لاستهداف الكيان الغاصب، لكن في الوقت ذاته لا يخفى الخوف والقلق من المستقبل، ومن تطوّرات ومآل هذه الحرب، بخاصّةً في ظل كثافة الشائعات والأخبار المغلوطة المضخّمة، لا سيّما لجهة الموضوع النوويّ وما يثار حوله من أمنيات” .

صواريخ إيرانية تعبر فوق الأراضي اللبنانية وتعترضها صواريخ اعتراضية اسرائيلية
قلق عابر للطوائف

القلق ليس محصورًا بالطائفة ولا بقراها ومدنها، بل يشمل قرىً ذات غالبيّة مسيحيّة وسُنّيَّة، مثل القاع ورأس بعلبك والفاكهة وعرسال، حيث تتناقض الآراء داخل المجتمع الواحد. المقرّبون من الثنائيّ الشيعيّ (الشيوعيّ، البعث السوريّ، الحزب القوميّ، الناصريّ، الجماعة الإسلاميّة الأحباش، الطامحون للنيابة) يعتبرونها حربهم ويهلّلون لكلّ مُسيَّرة وصاروخ إيرانيّ يضربان إسرائيل، بينما خصوم “حزب الله” (جمهور 14 أذار، البعث العراقيّ، الشيعة المستقلّون) لا يخفون فرحتهم بنقل الحرب إلى الداخل الإيرانيّ ويرون في هذه الحرب خلاصًا للبنان والطائفة الشيعيّة تحديدًا من قبصة إيران، فيلجأون إلى طرح الأسئلة بمرارة: إلى متى نبقى حزام أمان لحروب الآخرين؟ هل نحن مجرّد خطوط تماس تُرسم فوق أجسادنا؟

“إذا اشتعلت حرب إقليميّة بين إيران وإسرائيل، نحن أوّل من سيدفع الثمن” قالها جورج م. من بلدة القاع لـ “مناطق نت”، وتابع “هون ما في ملاجئ، ما في دولة، ما في شي، نحنا بنصير بنصّ المعركة”. كلمات قليلة، لكنّها تختصر خوفًا واسعَ الانتشار في البقاع، خوفًا من أن تتحوّل المنطقة مجدّدًا إلى مسرح للحرب ونيرانها.

على مسافة كيلو مترات قليلة، في بلدة الفاكهة – الجديدة، يقول معلّم مدرسة متقاعد: “نرفض أن نكون مجّرد خرائط في عقول جنرالات الحرب. نحنا ناس، إلنا كرامة، إلنا حقّ نعيش بسلام”. صوته هادئ، لكنّه يعكس صدى متزايد في البقاع الشماليّ، حيث تُطرح الأسئلة الحقيقيّة بعيدًا من الشعارات.

في قرى البقاع الفقيرة، حيث لا مستشفيات مجهّزة، ولا بنى تحتيّة قادرة على تحمّل أيّ ضربة عسكريّة، ينمو نوع آخر من الرفض. رفض لا يُرفع على لافتات، لكنّه حاضر في أحاديث الناس أو في همسهم

ولاء وهمس برغم الألم

في المقابل، يجد عدد كبير من أبناء الطائفة الشيعيّة في محافظة بعلبك الهرمل، أّن ما يجري هو “حرب مفروضة على محور المقاومة”. حسن البزّال ابن بلدة البزّاليّة، 25 عامًا، طالب جامعيّ، يرى أنّ “العدو واحد، والمعركة واحدة، تمتّد من غزّة إلى الجنوب اللبنانيّ، إلى صنعاء وبغداد، واليوم طهران. أقولها بصراحة كاملة إذا سقطت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، سقطنا كلّنا” ويؤكّد حسن أنّه بكامل الجهوزيّة والاستعداد للذهاب إلى إيران للقتال والاستشهاد إذا طُلِب إليه ذلك.

على رغم هذا الولاء العقائديّ الدينيّ الصلب، لا يمكن تجاهل الشعور العارم بالتعب والإرهاق وإن كان همسًا لاعتبارات كثيرة. يقول أحد الناشطين في بلدة اللبوة مؤثرًا عدم الكشف عن اسمه: “الناس موجوعة، عم تعيش على الفتات. مش كلّ حدا عندو نفس القدرة على التحمّل. في تعب، في ضغط، في خوف”. قبل أن يضيف: “نحنا بدنا نعيش، نطعمي ولادنا، مش نحمل سلاح نموت وتتعلّق صورنا عالعواميد”.

حدود رخوة

الهاجس الأمنيّ ما زال مرتفعًا في المناطق الحدوديّة، ويسود الخوف أن ينعكس التصعيد الإقليميّ على حركة المعابر غير الشرعيّة. يقول أحد سكّان منطقة القصر: “كلّه واقف. التهريب خفّ كتير، بس السلاح زاد. في شي عم يتحضّر، بس الناس مش عارفة شو راح يصير”.

طبعًا القلق هنا ليس فقط من إسرائيل، بل من تصفية ثارات قديمة، أو من ضربات استخباراتيّة تستهدف قيادات أو مواقع لحزب الله، تُعيد إشعال الحدود في لحظة مفصليّة خطيرة.

في قرى البقاع الفقيرة، حيث لا مستشفيات مجهّزة، ولا بنى تحتيّة قادرة على تحمّل أيّ ضربة عسكريّة، ينمو نوع آخر من الرفض. رفض لا يُرفع على لافتات، لكنّه حاضر في أحاديث الناس أو في همسهم. هذا الرفض الخافت يتشابك مع إحساس بالخذلان من الدولة الغائبة عن أبسط مقوّمات الحياة، والحاضرة فقط حين يتعلّق الأمر بالضرائب أو الملاحقة الأمنيّة.

بين الولاء الإيمانيّ العقائديّ، والوجع الاجتماعيّ، والقلق من الآتي، يقف أبناء البقاع الشماليّ على خطّ زلازل قاسية، لا يسيطرون عليها. لا يعرفون متى ستهدأ النيران، ولا إذا كانوا سيُستَدعون إلى الصفوف الأولى، أو حتّى يُتركون وحدهم في رماد المعارك. لكن ما يعرفونه جيّدًا أنّهم تعبوا.. والتعب ليس خيانة، بل صرخة في وجه حروب تُشَنّ باسمهم مندون إذن منهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى