أعنّة الخيل في بعلبك.. تراث الأهل وإرثهم
البحث والكتابة في التراث الشعبيّ العربيّ لا يكتملان من دون تخصيص مساحة واسعة للخيل في وجدان العرب وعاداتهم. عشرات الأبطال والشعراء وساكني ذاكرة التاريخ ترتبط أسماؤهم بأسماء خيولهم، من بطولات عنترة بن شداد المقرونة بحصانه “الأبجر”، وفروسيّة ابن عباد متلازمة مع فرسه “النعامة”، إلى انتقام الزير سالم المترافق مع حصانه “المشهر”، والمتنبي المتآلف مع شعره وأكرم الخيل التي تعرفه، كما أنّ النبيّ محمّد أوصى أصحابه بأن يعلّموا أبناءهم ركوب الخيل.
مدينة الشمس بعلبك، حفظت جدران قلعتها وأعمدتها مسار علاقتها التاريخيّة مع الخيل، في الأفراح والأتراح، المناسبات العامّة والنجاحات الخاصّة، وعند كلّ حدث يحضر الخيالة ممتطين صهوات جيادهم بكلّ فخر وشموخ.
إرث الجدود وعادات متأصّلة
درب معرفة روحانيّة هذه العلاقة وسرّها العتيق تقودنا حتمًا إلى دارة شاعر التراث فارس الخيل علي حليحل “أبو أسعد” الذي فتح لـ”مناطق نت” بنك معلوماته، فكان اللقاء به شيّقًا رقيقًا سبر في خلاله أغوار الذاكرة بلكنته البعلبكيّة الجميلة قائلًا: “الخيل مربى العزّ والشهامة، علاقة متوارثة من الأجداد والآباء، أنا ورثتها عن أجدادي لأمّي خصوصًا خالي حسين مرسل الملقّب بـ”البرغل” رمح البقاع المشهور بفروسيّته وقوّة الشخصيّة”.
يتابع أبو أسعد: “هي علاقة خاصّة، عاطفيّة عائليّة تجري في الوريد، حتّى تكاد ترى في عيون الخيل لمعة أصالة الفارس. في بعلبك يعود تاريخ الخيل إلى أمراء آل الحرفوش، اشتهروا بفروسيّتهم وبراعتهم بالسيوف والرماح، فكانوا مضرب المثل في الفروسيّة والسيطرة على نواصي الخيل وأعنّتها في الميدان، وقد ربطوا أنبل الخيول وأشرفها رسنًا (يعني بالرسن: سلالة الخيل) وتحديدًا معانق السبيلي ومعانق الدولمان”.
يواصل أبو أسعد سرده الجميل، فيضيف: “الخيل كانت للحروب وليست للأعراس، لكن منذ زمن طويل باتت تحضر في كلّ المناسبات وفق أصول وضوابط وقواعد راسخة ممنوع تجاوزها. لقد شهدت المنطقة قديمًا مشاكل وخضّات نتيجة مخالفة هذه الأصول كادت تصل إلى الدم، ففي الأتراح مثلًا لها ثلاث “هدّات” ولباس خاصّ بالفرس والفارس احترامًا للحزن والفقيد، بينما الأفراح لها “هدّة” واحدة مع لباس وزينة خاصّة بالفرح”.
خيول ومرابط
أما المرابط (المربط حيث تربط الخيل، وهنا، هو اسطبل الخيل المعروفة كسلالة) فقد عرفت بعلبك العديد منها: “مربط آل مرتضى، مربط آل الرفاعي معانق وحمدانيّات (عبد الرحيم الرفاعي أكثر من اشتهر بأناقة الفرس والفارس)، مربط آل حميّة، مربط آل حمادة (معانق وحمدانيات) مربط آل عراجي وشيخهم تركي عراجي “أبو قاسم”، مربط آل كسر، مربط آل الزين، مربط أبو مشهور صلح، مربط عثمان الشمالي “أبو علي”، وقد اشتهر الكثير من الخيّالة والفرسان أتذكّر من أسمائهم مهدي إبراهيم مهدي، عوض المقداد، أبو نوّاف زعيتر، أبو عقيد الطقش، حسن مهدي الزين، أبو علي حميّة وأعتذر عمّن خانتني الذاكرة عن أسمائهم”.
أما المرابط فقد عرفت بعلبك العديد منها: مربط آل مرتضى، مربط آل الرفاعي، مربط آل حميّة، مربط آل حمادة، مربط آل عراجي وشيخهم تركي عراجي “أبو قاسم”، مربط آل كسر، مربط آل الزين، مربط أبو مشهور صلح، مربط عثمان الشمالي “أبو علي”، وقد اشتهر الكثير من الخيّالة والفرسان.
عن واقع الخيل اليوم في بعلبك يقول حليحل: “اليوم بتنا نلمح زيادة في عدد المهتمّين بالخيل وربطها، وهو أمر مطمئنٌ للحفاظ على هذا التراث العريق، أشدّ على أياديهم وأبارك جهودهم وأدعوهم للاضطلاع بكلّ ما له علاقة بالخيول وتربيتها وأصالتها، كما أدعوهم لتعلّم لعبة الرمح والجريد (يشبه الرمح لكنّه أقصر منه ويتمّ رميه باليد عن ظهر الخيل للدلالة على قوّة زند الفارس)”.
من المهتمّين حاليًّا في بعلبك الشيخ محمد جعفر فراس الشمالي كذلك “أخونا أبو علي ياسر الشمالي، الناشط في مجال الحفاظ على التراث البعلبكيّ ومنه الخيل والدبكة، وكثيرون أخرون” يضيف حليحل.
ويختم أبو أسعد حليحل حديثه لـ”مناطق نت” حول التعامل الرسميّ مع تربية الخيل وتدريبها واقتنائها، فيقول: “لبنان بلد مفلس نخره الفساد، الحفاظ على التاريخ والإرث الثقافيّ يحتاج لدول مزدهرة، للأسف هي غائبة عندنا، لكن أتمنّى عليهم العمل على إنشاء مشفى للخيول أسوة بكلّ الدول العربيّة، وتأمين الأدوية الضروريّة خصوصًا الطُعوم، لأنّ غيابها يتسبب بنفوق بعض رؤوس الخيل كما حصل السنة الماضية، فقد أحضرت الطعم من الكويت لتطعيم خيولي الثلاث: بداوة وهدلة وسلامة”.
حياة الخيل وميزاتها
الخيول العربيّة إضافة لجمال مظهرها وشكلها تمتاز بخصائص عديدة، فهي ذكيّة سريعة التعلّم، لطيفة في ردّة فعلها، لكنّها قد تتحوّل إلى عدوانيّة في حال تعرّضت لمعاملة سيّئة، كما أنّها تمتاز بالوفاء لفارسها وصاحبها.
في لقاء لـ”مناطق نت” مع ياسر الشمالي الملقّب بـ”شيخ خيالة بعلبك”، وهو وريث المرحوم عثمان الشمالي في حبّ الخيل وربطها، يقول: “أنا نشأت وترعرت على حّب الخيل وربطه، ورثت ذلك عن المرحوم والدي صاحب الباع الطويل في مجال الخيل العربيّ الأصيل وعائلاته وسلالاته، تابعت المسيرة بشغف وحبّ كبيرين، فالخيل جزء من حياتي لا أتصوّر نفسي بدون مربط الخيل وامتطائها يوميًّا، كما في المناسبات السعيدة منها والحزينة، أغلب أوقاتنا موضوعاتها شبه الحصريّة هي الخيل، حتّى بات اسمي مقترنًا باسمها”.
حول أعمار الخيل يقول أبو علي الشمالي: “بعيدًا عن المرض والعدوى هي روح قد تموت في أيّ سن، أمّا معدل سنها فيصل إلى ثلاثين عامًا تقريبًا. عندنا فرس عاشت 34 سنة، ومنها ما يصل إلى50 سنة. مدّة حملها11 شهرًا قد تزيد عدّة أيام أو تنقص، متوسّط ارتفاعها 152 سنتيمترًا، يتراوح وزنها بين 360 و 450كيلوغرامًا، تنام ساعتين فقط في خلال اليوم لذلك لا يجب مكوثها طويلًا في داخل الاسطبل”.
تتغذّى الخيل على الحبوب المختلفة والتبن والعشب مع ضرورة ضبطه وإعطائها ما تحتاجه من البروتينات والمعادن، أمّا التكبيس والترويض فيبدأ بعمر السنتين ونصف السنة.
أسعار “فلكيّة”
حول سعرها يردّ الشمالي: “سعر الخيل مرهون بأمور عدّة، سلالة الفرس، أصالتها، شكلها، جمالها، طلّتها، كذلك برغبة الشاري. هناك خيل لبنانيّ محلّيّ معروف باسم “الألف” تتراوح أسعاره بين ثلاثين وأربعين ألف دولار أمريكي. أمّا الخيول العربيّة الأصيلة المعروفة باسم “الواهو” فتبدأ أسعارها بعشرين ألف دولار، ويتجاوز بعضها مليون دولار في أحيان كثيرة، بينما يبدأ سعر حصان التلقيح “الفحل” بمئة ألف دولار ويصل إلى أرقام فلكيّة”.
عن طريقة حمل الخيل (عشارها) يقول الشمالي: “هناك طريقتان متعارف عليهما، الحمل الطبيعيّ بين حصان وفرس أو التلقيح الطبّيّ عبر زرع البويضة (سعر البويضة الواحدة 7000 يورو) ويمكن معرفة ثبوت الحمل من عدمه بعد17 يومًا حتّى ثلاثة أسابيع. أمّا أيّهما أفضل، فهو الطبيعيّ بالتأكيد، لكن لا بدّ من حصول ذلك بإشراف طبّيّ”.
ياسر الشمالي: سعر الخيل مرهون بأمور عدّة، سلالة الفرس، أصالتها، شكلها، جمالها، طلّتها، كذلك برغبة الشاري. هناك خيل لبنانيّ محلّيّ معروف باسم “الألف” تتراوح أسعاره بين ثلاثين وأربعين ألف دولار أمريكي. أمّا الخيول العربيّة الأصيلة المعروفة باسم “الواهو” فتبدأ أسعارها بعشرين ألف دولار.
ويضيف الشمالي: “عندي حصان اسمه “بروسيوس الجمال” لا أستطيع مزاوجته مع أيّة فرس لا تحمل إفادة طبّيّة بالطُعم والخُلوّ من أيّ مرض معدٍ قد يعرّض حياته للخطر، ولا أتقاضى أيّ بدل مادّيّ مقابل ذلك باستثناء ضمانة سلامته”.
حول تعاون وزارة الزراعة مع مربّي الخيول، يؤكّد الشمالي أنّها “شبه معدومة، وإن حصلت تبقى شكليّة في إطار الدعاية، أمّا المعاناة الأكبر فتبقى في غياب الطبيب البيطريّ المتخصّص بالخيول، مثل باقي الدول، لأنّنا نضطّر للاستعانة بأطبّاء الخيل من سوريّا وأحيانا يتعذّر علينا ذلك”.
عراضة الخيل بين العرس والحلاقة
من لزوميّات العرس البعلبكيّ إلى جانب الدبكة والحنّة واللبس العربيّ القديم، عراضة الخيل، ولا يكتمل العرس من دونها، بل تصبح كإشارة نقص في صفحة العرس وخانة العريس.
يقول الأستاذ هيثم الدبس، أحد وجهاء بعلبك الناشطين في حفظ التراث لـ”مناطق نت”: “نعمل جاهدين لإبقاء العرس البعلبكيّ محافظًا على أصالة وتراث وفولكلور بعلبك، من الزيّ العربيّ التقليديّ (عباءة وشماخ الرأس) والقهوة المرّة، الحنّة، الدبكة الثقيلة– وليس ما نراه أحيانًا من حركات لا علاقة لها بالدبكة- إلى عراضة الخيل، هي ركن أساس لا سيّما إذا كان العريس من الخيّالة”.
وكيف تتمّ عراضة الحلاقة المعروفة في بعلبك؟ يجيب الدبس: “يحضر زملاؤه الخيّالة على جيادهم قبل ظهيرة اليوم الثاني للعرس (الردّة) لإقامة “عراضة حلاقة العريس”، ترقص الخيّالة والخيل وينثر الورد والأرز والزغاريد والسيوف والرماح، بعدها يتمّ قصّ شعر ولحية العريس وسط جمع الأهل والأصحاب و”المعازيم” مع أغاني تراثيّة خاصّة تمجّد الكرم والجود والشهامة والرجولة، وتجعل العريس، “سبع الغاب” ضاحكًا”.
يختم الدبس حديثه قائلًا: “الخيل قصّة عز وفخر ورثناها عن كبارنا ونعمل على توريثها لأبنائنا”.
بالرغم من كلّ ما يعانيه البلد من مشاكل اقتصاديّة، وفراغ سياسيّ دستوريّ وشلل مؤسّساتيّ كامل، يبقى الأمل أن تبادر الدولة يومًا ما عبر إداراتها، في وزارتي الزراعة والثقافة، إلى مساعدة هذا القطاع ودعم تطويره لما يشكّله من موارد اقتصاديّة هامّة، إن كان عبر رياضة سباقات الخيل، أو تجاريًّا عبر عمليّات بيع الخيول ولوازمها كافّة. أمّا وزارة الثقافة فعليها أرشفة وتوثيق تاريخ تربية الخيول في بعلبك، قصصها نوادرها وفرسانها، لما تشكّله من إرث إنسانيّ عظيم لا يستطيع الأفراد وحدهم حفظه برغم جهودهم الحثيثة.