أغاني التراث اللبناني وعبقرية الرحابنة

تحمل الأغنية التراثيّة اللبنانيّة في ثناياها روح المجتمع وتاريخه، وهي انعكاسٌ للأزمنة المتعاقبة، والتقاليد، والتحوّلات الاجتماعيّة التي مرّ بها لبنان. تشكّل هذه الأغاني جزءًا أساسيًّا من الهويّة الثقافيّة، إذ تحمل في طيّاتها سماتٍ أنثروبّولوجيّة وسيسيولوجيّة تعبّر عن بيئة الإنسان اللبنانيّ، طريقة عيشه، وأفراحه وأحزانه. كذلك يتجلّى ارتباط نمط الغناء وتون الصوت بالمضمون الذي تقدّمه الأغنية، ممّا يجعلها وسيلة تعبيريّة تحمل دلالات عميقة.

يرى بعض الباحثين أنّ الأغنية التراثيّة اللبنانيّة هي نتاج تفاعل مزيج من الحضارات والشعوب التي سكنت المنطقة، لا سيّما التأثيرات السريانيّة والبيزنطيّة التي تتجلّى في التراتيل الكنسيّة والصلوات الملحّنة، والتي جرى تناقلها عبر الأجيال حتّى أصبحت جزءًا من الثقافة الموسيقيّة الشعبيّة. ومع مرور الزمن، اندمجت هذه الألحان مع العادات والتقاليد اللبنانيّة، فتحوّلت إلى ما يُعرف باللهجة المحكيّة بـ “الرَّدّات”، وهي أغانٍ فولكلوريّة غزليّة، وطنيّة واجتماعية، تتألّف من أبيات شعريّة قليلة تعكس المشاعر الشعبيّة بأسلوب بسيط يعتمد على الحوار والتشبيه والاستعارة.

البعد الأنثروبّولوجيّ

تُعتبر الأغنية الشعبيّة جزءًا من الموروث الشفويّ الذي تناقلته الأجيال، وهي بذلك تعكس ثقافة المجتمع في مراحله المختلفة. فمن خلال تحليل النصوص والمقامات الموسيقيّة، يمكن فهم طبيعة العلاقات الاجتماعيّة، والطقوس، والأدوار الجندريّة، والرموز التي كانت سائدة.

الدبكة تراث لبناني يتنوع بين منطقة وأخرى

يمكن ملاحظة أنّ الأغاني الجبليّة تختلف في نمطها عن تلك الساحليّة أو البقاعيّة. فالأغنية الجبليّة، كالميجانا والعتابا، تتميّز بمقاماتها القويّة والعميقة التي تتناسب مع الصدى في الوديان والجبال. أمّا الأغاني الساحليّة فتميل إلى الإيقاع السريع والنغمات الخفيفة التي تتماشى مع حياة الصيّادين والتجّار.

لعبت الأغاني دورًا في توثيق معاناة الطبقات العاملة، كما في أغاني الحصاد والقطاف، التي كانت تُغنّى في الحقول لتعزيز روح الجماعة وتخفيف عناء العمل. ومن هنا، يظهر دور الموسيقى في تشكيل وعيٍ جمعيّ متماسك، حيث تصبح الأغنية أداةً للحفاظ على الترابط الاجتماعيّ.

تنقسم الأغنية التراثيّة وفق استخدامها إلى أغانٍ مرتبطة بالمناسبات (كالزفاف والحداد)، وأغانٍ تنشد في طقوس معيّنة كالمواويل التي يردّدها الرعاة في الجبال أو الأغاني المرتبطة بالأعياد الدينيّة والمواسم الزراعيّة.

المرأة والبعد الاجتماعيّ

تعكس الأغاني التراثيّة التحوّلات الاجتماعيّة التي طرأت على المجتمع اللبنانيّ، فهي بمثابة سجلّ شفهيّ يعكس العلاقات والقيم المجتمعيّة.

لعبت الأغاني دورًا في توثيق معاناة الطبقات العاملة، كما في أغاني الحصاد والقطاف، التي كانت تُغنّى في الحقول لتعزيز روح الجماعة وتخفيف عناء العمل

شكّلت المرأة موضوعًا أساسيًّا في الأغاني الشعبيّة، سواء كانت ممدوحةً في أغاني الحبّ، أو رمزًا للحنين في الأغاني التي تعكس الهجرة والبعد عن الديار. ومع ذلك، فإنّ دورها في الغناء كان تقليديًّا في بعض المجتمعات الريفيّة، حيث اقتصرت مشاركتها على أغاني المناسبات النسائيّة، مثل “الزغاريد” في الأعراس، وترداد بعض الطقاطيق، والأهازيج. ولأنّ هذا النوع من الأداء اقتصر على المجتمع النسائيّ المغلق، لم يصدر منه وعنه ما يكفي من معلومات لبناء دراسات وافية.

يذكر أنّه منذ القرن التاسع عشر، كانت الهجرة عاملًا رئيسًا في الأغنية اللبنانيّة. فتظهر أغاني الحنين للوطن كتعبير عن الاشتياق للأرض والأحبّة، ممّا يعكس طبيعة لبنان كمجتمع عرف الاغتراب القسريّ والطوعيّ عبر العقود.

علاقة نمط الغناء وتون الصوت

لا يمكن فصل الأداء الصوتيّ عن وظيفة الأغنية، إذ إن كلّ نوعٍ غنائيّ يتطلّب نبرة صوتيّة و”تكنيكًا” معيّنًا يتناسب مع مضمونه العاطفيّ والاجتماعيّ.

المواويل والميجانا: تمتاز بأسلوب غنائيّ يعتمد على الطبقات الصوتيّة القويّة والعالية، نظرًا لإلى استخدامها في المساحات المفتوحة، حيث يحتاج المغنّي إلى إيصال صوته لأبعد مدى. يتميّز هذا النوع باستخدام مقام البيات والنهاوند، ممّا يضفي عليه طابعًا شجيًّا يعبّر عن الحنين والشوق.

العتابا: يُعتقد أنّ أول من نظم العتابا هم القبائل العربيّة التي سكنت أرض العراق، ومنها انتقلت إلى بلاد الشام، أو أنّها نشأت خلال أواخر العهد العباسي، عندما بدأ اللحن يكثر في العربيّة الفصحى نتيجة اختلاط العرب بالأعاجم. وقد تغنّى بها البدو الرحّل، مصحوبة بصوت آلة الربابة الحزين، الذي يضفي على أدائها طابعًا شجيًّا يثير المشاعر العميقة.

بنية العتابا وأسلوب إنشادها: تبدأ أبيات العتابا غالبًا بكلمة “أوف”، والتي تستخدم لجذب انتباه المستمع، وهي مشتقة من “أفّ”، التي تعدّ اسم فعل أمر بمعنى “أتضجّر”. وكلما اشتدّ الألم واللوعة، زاد المغنّي في مدّ الواو، ممّا يمنح البيت طابعًا دراميًّا مؤثّرًا.

يتألّف بيت العتابا من أربعة أشطر: تنتهي الثلاثة الأولى بكلمة تعتمد على الجناس (اتّفاق اللفظ مع اختلاف المعنى)، كذلك توظّف التورية حيث يكون هناك معنى قريب ظاهر غير مقصود، ومعنى بعيد هو المراد الحقيقيّ. ينتهي الشطر الرابع بحرف الباء الساكنة مسبوقة بألف أو حرف مفتوح، وهو تقليد قديم يُعتقد أنّ له دلالة صوفيّة، حيث يشير بعض المؤرّخين إلى أنّ حرف الباء يرمز إلى الإنسان الكامل في الفلسفة الصوفيّة. ومع ذلك، فقد أصبح الاستغناء عن حرف الباء أكثر شيوعًا في المدة الأخيرة، ممّا جعل العتابا أكثر مرونة مع تبدّل الزمن.

الأغاني الراقصة والمواويل الخفيفة: مثل الدبكة التي تتطلّب إيقاعات سريعة ونبرة قويّة ولكن مرحة، إذ تركّز هذه الأغاني على الأداء الجماعيّ أكثر من الفرديّ، ممّا يجعلها وسيلة للتعبير عن الفرح والاحتفال.

الدلعونا عروس الغناء التراثيّ: تُعدّ الدلعونا من أشهر أغاني التراث اللبنانيّ، وهي نموذج على قدرة الموسيقى الشعبيّة على استيعاب مضامين مختلفة. هي أغنية مرتجلة تعتمد على الشعر الزجليّ، وتستخدم في مناسبات عديدة، سواء في الأفراح أو السهرات أو حتّى خلال العمل. تأتي الدلعونا بإيقاع سريع وقابل للتكرار، ممّا يجعلها مناسبة للرقص والدبكة، وهو ما ساهم في انتشارها على نطاق واسع.

الرحابنة وعبقرية إحياء التراث

كان للأخوين رحباني (عاصي ومنصور) دورٌ كبير في الحفاظ على هذا الإرث الفنّي، فقد استفادا من الأغنية التراثيّة اللبنانيّة بشكل خاص، وبلاد الشام بشكل عام، وأعادا تقديمها في سياقات أكثر حداثة دون المساس بجوهرها. في مسرحيّاتهما وأغانيهما مع فيروز، ظهرت الدلعونا والميجانا والعتابا والروزانا ممزوجةً بتوزيع موسيقيّ جديد، ممّا أعطاها بعدًا عالميًّا دون أن تفقد هويّتها المحلّيّة.

عاصي ومنصور الرحباني

اتّخذ عاصي ومنصور نهجًا علميًّا ومنهجيًّا في استقاء التراث الموسيقيّ، إذ كلّفا باحثين بالسفر إلى القرى والمناطق الجبليّة في لبنان وسوريّا وفلسطين والأردنّ لاستكشاف الأغاني الفلكلوريّة، والأهازيج الشعبيّة، وألحان الدبكة، وأشكال الغناء البدائيّ، ثمّ قاما بإعادة صياغتها بأسلوب حديث ضمن رؤيتهما الموسيقيّة المسرحيّة. كانت النتيجة توليفةً مدهشة جمعت بين الأصالة والابتكار.

وبينما يتميّز الغناء الشرقيّ بالارتجال والحرّيّة التعبيريّة وقلّة الاعتماد على التدوين الموسيقيّ، يعتمد الغناء الغربيّ بشكل صارم على النوتات الموسيقيّة الدقيقة. هنا، يكمن إبداع الأخوين رحباني في تحقيق توازن فريد بين هذين النقيضين، ممّا أتاح إنتاج أعمال موسيقيّة تنبض بالعفويّة الشرقيّة، لكنّها محكمة الصياغة وفق المعايير الأكّاديميّة الغربيّة.

الكنيسة وتطوير الألحان

كانت الكنيسة واحدة من أهمّ مراكز إنتاج الموسيقى، حيث طوّرت أنماطًا لحنيّة خاصّة، وكانت هذه التراتيل تؤدّى بأسلوب فرديّ أو جماعيّ، وغالبًا بدون آلات موسيقيّة، ممّا أكسبها طابعًا خالصًا من الخشوع والرهبة.

لقد تشبّع الأخوان رحباني بهذا الإرث الكنسيّ، واستفادا من التراتيل المارونيّة والبيزنطيّة، والتي تميّزت بتعدّد الأصوات (البوليفونيّة) في بعض جوانبها، وبالاعتماد على مقامات شرقيّة مثل البيات والصبا والنهاوند.

مع ذلك لم يدوّن من تلك الاغنيات التراثيّة في سجلّات رسميّة سوى قليل منها، إذ تناقلها الناس شفهيًّا عبر الأجيال، كما هو الحال مع الشعر العربيّ القديم. لم يكن لها جمعٌ منهجيٌ ولا توثيقٌ مدوّنٌ، ممّا جعلها دائمًا في مواجهة خطر الاندثار، حيث تبقى رهينة الذاكرة الشعبيّة. فالأغاني والمواويل التي تشكّل هذا اللون الغنائيّ لا تُنسب إلى مؤلّفين بعينهم، إذ غالبًا ما تُنظم لحظيًّا، لتعبّر عن مشاعر لحظيّة أو مواقف عاطفيّة واجتماعيّة، دون أن تُوثّق بأسماء قائليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى
document.addEventListener("DOMContentLoaded", function() { var blockquotes = document.querySelectorAll('blockquote, q'); blockquotes.forEach(function(blockquote) { var beforeContent = window.getComputedStyle(blockquote, '::before').content; if (beforeContent === '"\\f10e"') { blockquote.style.setProperty('content', '"\\f10f"', 'important'); } }); });