أفكار لبيئة سليمة في المتن الأعلى
لعل المشكلات البيئية بتشعباتها كافة كانت ولا تزال أحد أبرز أوجه الانهيار الذي يعصف بالبلاد منذ أكثر من ثلاث سنوات. من تراكم للنفايات وتلوث الهواء الناتج عن المولدات، والكم الكبير من المكبات العشوائية التي تنتشر في معظم الأراضي اللبنانية، وإفساد المجاري المائية والعبث بالطبيعة وتلويث الأنهر. كل ذلك وكأنه أصبح من الأمور العادية على المواطن التأقلم معها، بعيداً عن تأثيراتها المدمرة على الإنسان وصحته، وعلى الطبيعة بشكل عام.
في مواجهة ذلك، هناك بعض الأفكار البيئية السليمة التي من شأنها ليس المحافظة على ما تبقى من بيئة في بلادنا فحسب، بل أيضاً للاستفادة منها في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تضغط بلا هوادة على كاهل محدودي الدخل بشكل عام وأولئك الذين يسكنون القرى والبلدات الريفية بشكل خاص.
من تلك المناطق، منطقة المتن الأعلى التي تضم إلى جانب الأراضي المنبسطة الصالحة للزراعة، حوالي 163 مليون متر مربع من الأودية والجبال والغابات والمساحات الصخرية. وهذه الأراضي الحرشية والوعرة تزخر بحياة نباتية فريدة من نوعها. فهي موئل حيوي للصنوبر الجوي واليرز والخروب والفطر الغذائي والأعشاب الغذائية والنباتات الطبّية والعاسلة والحشائش العلفية، بالإضافة إلى الطيور والحشرات المفيدة.
الصنوبر والأشجار الأخرى
يشكل الصنوبر الجوّي في منطقة المتن الأعلى ثروة حقيقية لتلك المنطقة وإنتاجُه بنظر العاملين في جنيه هو الذهب الأسود أو النفط الجبلي (يباع الإنتاج على الشجرة، أو أكوازاً على السطح، أو حصوصاً سوداء بعد التفقية، وفي أي وقت من السنة)، فشجرة الصنوبر لا تحتاج إلاَّ للتقليم (الشحالة كل أربع سنوات)، وللتقشيش قرب جذعها.
في المتن الأعلى حوالي 130 ألف شجرة صنوبر متفاوتة الأعمار بين خمس سنوات و200 سنة. كانت في الظروف الطبيعية تنتج كمعدل وسطي حوالي 3250 طناً، من الثمر(الأكواز = الرؤوس)، أي ما يُعطي نحو 600 طنٍ من الحب الأسود، و125 طناً من الحب الأبيض، وكمردود مالي نقدي قيمته أكثر من ستة ملايين دولار أميريكي. وحتى عام 2000، كان يعمل في إنتاج الصنوبر وتسويقه في المتن الأعلى، أكثر من 2500 عائلة، أي حوالي ثلث المقيمين آنذاك.
في المتن الأعلى حوالي 130 ألف شجرة صنوبر متفاوتة الأعمار، كانت تنتج حوالي 3250 طناً من الثمر، أي ما يُعطي نحو 125 طناً من الحب الأبيض، وكمردود مالي نقدي قيمته أكثر من ستة ملايين دولار أميريكي. وحتى عام 2000، كان يعمل في إنتاج الصنوبر وتسويقه في المتن الأعلى، أكثر من 2500 عائلة، أي حوالي ثلث المقيمين آنذاك.
بالإضافة إلى الصنوبر الجوّي هناك شجرة الخروب التي تعتبر حرجية بامتياز، ترغب المساحات الصخرية، ولا تحتاج لأي عناية. فدبسها خير مليّنٍ ومغذٍ، وهو يُغني عن المسهلات الطبّية، وخشبها يدخل في صناعة المفروشات المتينة. وبقايا تفل ثمرها يُعطى علفاً للحيوانات، كما يدخل كمادة أساسية في الزراعة كتربة مخصِّبة وأسمدة طبيعية.
وهناك الفطر الأشقر الذي يُعتبر في الدول المتحضِّرة المتقدَّمة من فطريات أعجوبة الغابة لصفاته الغذائية العالية وخواصه العلاجية.
نباتات متنوعة ومهمة
من الأشجار إلى الأعشاب حيث تزخر منطقة المتن الأعلى بالعديد من الأعشاب الغذائية والطبية في أنٍ معاً وهي كثيرة مثل القرصعنة، والمخ بعبه، والخسيسة، والهندباء البرية، والحشي مشّي، ولسان التور (الثور)، وسالف العروس، والقرّة أو الجرجبير البرّي، والخبيزة، والهليون، والعكّوب، والحميضة، وبخور مريم أو دويك الجبل، والزعتر على أنواعه (للتنفس والصداع والمعدة والكبد والأسنان)، والثُوَيْمة(الثوم المعمّر)، والكرّاث (الكرّاض، أو الكرّات) ….
أيضاً النباتات الطبية مثل الزوفا والزيزفون، والقصعين أو الميرمية، وأكليل الجبل والخزامى، والبلاّن، والدفران أو العرعر، وعرف الديك، والقنطرون، والدبق( للتوتر الشرياني- مليّن للشرايين)، والزعفران البرّي، والنعناع البري، والعناب البرّي، والختميَّة، والكينا، والأقحوان، والبابونج، ورجل القطة، وآذان الدب، ودعسة الحمار، وزنبق الوادي، وحشيشة الدينار، وحشيشة القطة، والسمّاق، والعفص، والحِلبة، والترمسيّة(الترمس البري)، والشوفان، وحشيشة الجرح أو الحشيشة الذهبية، والبيلسان، والدفلي، والآس (الحنبلاس)، والورد البري(النرجس)، والبلوط والسنديان، والقندول، والحندقوق، وحشيشة الزجاج (مسكن للأورام وورم اللوزتين ووجع الأذن والبواسير)، وحب البطم وصمغه، والياسمين، والحوز أو اللبّان، ولسان العصفور، ولسان الحمل، واللوبية، واللبلاب، ومزمار الراعي، والنيلة(البرّي)، والسعد، والسرخس، والسرو، والفجيلة، وعصا الراعي، وحبق الراعي، وعنب الثعلب، والعلّيق، والبنفسج، والبقس، والوزال، والجزر البري، والبرقوق، والقراسيا، والإجاص البري، والزعرور(للقلب والشرايين) والمليسا… ألخ.
لذلك، فإن الاستفادة من هذه النباتات الغذائية والطبيّة والعاسلة، والمحافظة عليها، والاعتناء بها بعد زراعتها بشكل علمي، يمكنها أن تؤمن للأسرة المتنيّة مداخيل إضافية وغذاءً صحياً لا بدّ منه.
حماية الغابات الحرجية
لذا في سبيل حماية غاباتنا الحرجية، واستغلال أراضيها، على مالكي هذه الغابات اقتلاع الأعشاب البرية منها(تقشيشها)، وزراعتها بالأعشاب الطبية والعاسلة الملائمة لها كأكليل الجبل والخزامى والمردكوش والزعتر والزوفا والزيزفون والمليسا… والخروب والبطم والسمّاق، وإقامة المزارع للفطر والعكّوب والهليون، وغيرها من النباتات الغذائية والطبية التي لا ترهق تربة الغابات والأحراش وتشوّهها، بل تدرّ مداخيل إضافية وتحمي الغابات من الحرائق غير المتوقعة. أو زراعتها بالأعشاب العلفية كالفصّة والبرسيم والباقية والكرسنة المفيدة لتربية المواشي والنحل، وللتربة كسماد عضوي.
على أبناء المتن الأعلى أن يعيدوا إلى ريفهم توازنه الطبيعي من خلال التخلّي تدريجياً عن الأدوية والمبيدات السامة، والإستعاضة عنها بالأدوية العضوية، وتربية الحيوانات والحشرات المفيدة لالتهام الحشرات الضارة، وإعادة الطيور إلى الغابات والحقول، والإقتناع بأن جميع الطيور مفيدة من الدوري إلى السمّن والشحرور، فكيف بالحري بالصفراية التي تأكل كل يوم مقدار وزنها من دودة الصندل (الجمّر) التي تفتك بأشجار الصنوبر والسنديان.
على أبناء المتن الأعلى أن يعيدوا إلى ريفهم توازنه الطبيعي من خلال التخلّي تدريجياً عن الأدوية والمبيدات السامة، والإستعاضة عنها بالأدوية العضوية، وتربية الحيوانات والحشرات المفيدة لالتهام الحشرات الضارة، وإعادة الطيور إلى الغابات والحقول
على المتني، أن يقتنع بأنّ غذاءه الصحي السليم هو من إنتاج طبيعة أرضه الجبلية، من الحبوب والحليب واللبن والفاكهة الناضجة الطازجة والمُجففة، والعسل والدبس ولحم الماعز والبقر والغنم المُربى على الطبيعة، وليس في مزارع اصطناعية على الهرمونات والأدوية المُسَمِّنة. لذا عليه وأمام الأزمة الاقتصادية الخانقة العودة إلى تربية الدواجن والمواشي المنزلية، والإهتمام بتربية النحل، مما يؤمن له دخلاً إضافياً إلى جانب مداخيله من الاصطياف والوظيفة والنشاطات الاقتصادية الأخرى.
الخروب والزنزلخت
ومن الحري أيضاً إعادة الاهتمام بزراعة الخرّوب كشجرة صناعية وغذائية، فازدياد الطلب على ثمارها (الخروب) واستعماله في عدد من الصناعات الغذائية والأدوية يؤكد أهمية هذه الثمار واستغلالها بشكل جيد، خصوصاً أن شجر الخروب لا يحتاج إلى أية عناية وله فوائد عديدة وهو دائم الإخضرار في كل الفصول.
ولا ضير أيضاً من إعادة تزيين طرقات قرى المتن بأشجار الزنزلخت فهي تعطي ظلاً وفيراً، وخشبها يدخل في صناعة المفروشات، وثمرها وأوراقها تطرد البرغش وتستعمل في غذاء الحيوانات اللبونة، وفي صناعة بعض الأدوية الزراعية غير السامة. وزراعة الكستناء والجوز على جوانب الطرقات في الأماكن الملائمة.
ملاحظات لا بد منها
إن التقيّد بأوقات التقليم لشجرة الصنوبر وغيرها من الأشجار الحرجية، أي الشحالة بعد هطول الأمطار الخريفية، أي بعد أن تبتلّ الأغصان ويصبح القطع غير مؤذياً للشجرة، والجني بعد منتصف شهر تشرين الثاني وقبل حلول أول آذار من السنة اللاحقة هو أمر بالغ الأهمية في الحفاظ على الأشجار. وفي ما خص أسلوب إستثمار الغابة الصنوبرية، فتغيير أسلوب الضمان من سنوي إلى المتعدد السنوات( 5 سنوات على الأقل).
في ظل ارتفاع فاتورة التدفئة والتي يعاني منها اللبنانيون عموماً وقاطنو الجبال خصوصاً، لا بد من استعمال الحطب للتدفئة بدلاً من المازوت والغاز، مما يخفف نسبة التلوّث ويؤمن بيع الحطب الناجم عن تقليم أشجار الغابة الصنوبرية والسنديان والبلوط، وبقايا أكواز الصنوبر وكسره (جمع أكواز اليرز واستعماله للتدفئة). وهذا بدوره يساهم في رفع عائدات استثمار أشجار الصنوبر من جهّة، ويقلل من إمكانية حصول حرائق فيها نتيجة بقاء الأغصان المشّحلة مُلقية عند جذوع أشجار الصنوبر.
إرشادات ضرورية
هناك عدد من الإجراءات يجب على أصحاب الأراضي الانتباه لها والمبادرة إلى تنفيذها وتتعلّق بنزع الشجيرات والحشائش البرية المحيطة بشجرة الصنوبر لوقايتها من الحرائق، وتصنيع بقايا الأغصان المشحلة، والشجيرات المقتلعة وتحويلها إلى وقود بعد طحنها في آلات خاصة انتشرت حديثاً في لبنان.
أيضاً صيانة الطرق الزراعية المتوفرة حالياً، وشق طرقات جديدة إضافية بشرط عدم تزفيتها حتى لا يتمّ تشجيع تجار البناء على إقامة أحياء سكنية جديدة على حساب الغابة الصنوبرية والأراضي الزراعية. فالطرقات الزراعية تسهّل الوصول إلى الغابة من أجل نقل الإنتاج، والتعجيل في إطفاء الحرائق، إن وقعت، أو عند اندلاعها مباشرة. بالإضافة إلى إنشاء الخزّانات الترابية لتجميع مياه الأمطار على رؤوس المنحدرات الجبلية، واعتماد الري بالرذاذ بعد زراعة الغابات بالأعشاب العلفية والعاسلة والطبّية، مما يُبقي الغابات خضراء، وتزدهر تربية المواشي الرشيدة.
صيانة الطرق الزراعية المتوفرة حالياً، وشق طرقات جديدة إضافية بشرط عدم تزفيتها حتى لا يتمّ تشجيع تجار البناء على إقامة أحياء سكنية جديدة على حساب الغابة الصنوبرية والأراضي الزراعية.
ونظراً للانقطاع الدائم للمياه فإن تشجيع الأهالي على بناء خزّانات أرضية لتجميع مياه أمطار الشتاء النظيفة والصحيّة الآمنة للشرب 100 % هو مسألة بالغة الأهمية . وهذا العمل يكون عاملاً مساعداً على الإكتفاء الذاتي للأسرة من المياه.
المياه الجوفية
في ظل التعديات الكبيرة على المياه الجوفية لا بد من التذكير بأن المياه الجوفية في جميع دول العالم هي ثروة وطنية عامة، يُمنع المساس بها بشكل عشوائي، واستثمارها من قبل الأفراد تجارياً. لذا إن حفر الآبار الأرتوازية من قبل الأفراد بقصد استخدام مياهها لغايات تجارية هو بالأمر الخطير والمتناقض مع الأعراف والقوانين الإنسانية العالمية كافةً.
ولا تقل خطورة أيضاً الحفر الصحية العشوائية التي تلوث التربة دون حسيب أو رقيب، لذا التشدّد في فرض إقامة محطات تكرير للمياه الآسنة بمواصفات عالية الجودة أمر ضروري، وعلى نفقة أصحاب المشاريع السكانية الصغيرة والكبيرة. وتزويد قرى المتن كافةً بمحطات تكرير المياه الآسنة حرصاً على المياه الجوفية، وبقصد استخدام المياه المكررة في الري. وهذا واجب البلديات في التأكد من عدم وجود آبار ذات قعر مفتوح يتمّ استخدامها لتصريف المياه الآسنة بما يلوّث المياه الجوفية.
بموازاة ذلك تبقى مسألة تشجيع السياحة البيئية من الأولويات لإنعاش المنطقة وتنميتها، وذلك من خلال إعادة ترميم معاصر الدبس وأماكن الينابيع الطبيعية، والمطاحن المائية، والجسور الحجرية والخشبية، ومعامل حل الحرير(الكراخين)، وغيرها من الآثار المتنية المندثرة. وفي هذا الإطار على البلديات إعادة إحياء طرقات المشي والأدراج في القرى، وإيجاد طرقات للدرّاجات الهوائية، لتشجيع استعمال هذه الوسيلة، والتنقل بواسطتها في الفصول الملائمة.
عليه، وفي ظل الأزمة التي يعاني منها معظم اللبنانيون، فإن تعاون أبناء المتن الأعلى أفراداً ومجموعات وجمعيات بيئية وزراعية، وأصحاب أملاك وعاملين وهواة زراعة، فكلُّ في مجال اهتمامه، يؤلفون من منطقتهم منطقة توازن طبيعي متنوعة الإنتاج بكلفة قليلة ومردودية إنتاجية عالية مادياً وجمالياً. وبذلك يستطيعون مواجهة الأزمات بالحد الأدنى وبأكلاف ممكنة ويحافظون على منطقتهم وطبيعته الجميلة.
* الدكتور عبدالله سعيد، باحث في التاريخ الريفي الاقتصادي والاجتماعي