أفكار لتقليص بلديّات لبنان إلى مائتين والاتّحادات إلى عشرين

مع تحديد المرحلة الأولى من الانتخابات البلديّة والاختياريّة في الرابع من أيّار (مايو) المقبل في جبل لبنان، دارت محرّكات الماكينات الانتخابيّة، وبدأ نسج التحالفات وتركيب اللوائح في ظلّ ظروف سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة ضاغطة، لم تكن موجودة في آخر انتخابات بلديّة أجريت في العام 2016، وما تلاها من أزمات أبرزها الأزمة الاقتصاديّة والانهيار المالي اللذان أطاحا بمعظم نشاط البلديّات التي انحلّ قسم منها، فيما أصبح القسم الأكبر في حكم المشلول، بفعل تلاشي قدرة البلديّات عن القيام بدورها.
لا بدّ لي وبعد تجربة طويلة في العمل البلديّ، أن أطرح أفكارًا في قضايا البلديّات والتنمية، تطال دراسة مبادئ تعديل قانون البلديّات، ما يساهم في مسودّة مشروع واسع يسهم في بلورة أسس للتنمية ودور البلديّات فيها.
مفهوم السلطة المحلّيّة
البلديّات هي حلقة مركزيّة في التنمية والعلاقات الاجتماعيّة، هي سلطة مستقلّة ماليًّا وإداريًّا بصلاحيّات كاملة، على الرغم من محاولات القانون الحاليّ، الحدّ من هذه الصلاحيّات. فبحسب القانون المعمول به، هناك فقط ستّة قرارات لا تحتاج إلى موافقة سلطة الوصاية، بينما تخضع كلّ القرارات الباقية إلى موافقة القائمقام ومنها المحافظ ومنها وزير الداخلية.
في تكوين البلديّات يؤكّد علم الاجتماع الحديث، أنّ أيّ تجمّع سكّانيّ لا يتجاوز الـ 30 ألف نسمة، يبقى عاجزًا عن خدمة نفسه وتقديم مشاريع باستطاعته أن يموّلها، فكيف تنطبق هذه القاعدة على عديد من البلديّات في بلادنا، التي يقلُّ عدد سكّانها كثيرًا عن الرقم أعلاه؟
واقع البلديّات
تخضع البلديّات اليوم بمعظمها، إلى هيمنة القوى السياسيّة، ومادّيًّا إلى القوى المانحة المسيطرة على هذه المنح، والدليل على ذلك أنّ البلديّة الصغيرة المسؤولة عن بلدة يبلغ عدد سكّانها ما بين 500 و10 آلاف نسمة، لا تستطيع توفير عائدات تمكّنها من القيام بدورها، حيث إنّ الإيرادات لا توازي تكاليف الأشغال العامة أو المصاريف الإداريّة ولا تمكّنها أيضًا من تمويل المشاريع التنمويّة أو الخدماتيّة، لذلك تصبح البلديّة محكومة وخاضعة وعاجزة عن الالتزام بواجباتها المطلوبة منها وبخاصّة في مجال التنمية.
وتبعًا للثقافة المجتمعيّة الخاطئة لمفهوم البلديّات، تتحوّل الأخيرة إلى سلطة محلّيّة هشّة خاضعة للتركيبة العصبيّة المتخلّفة في كلّ قرية، فيصبح مجلسها عبارة عن تجمّع لممثّلين لهذه العصبيّات. هذا التمثيل هو مفروض ومتخلّف في غالب الأحيان تحكمه الطائفيّة والعائليّة و”الجبّيّة” (الفرعيّة) والحزبيّة، تتحوّل معه إدارة البلديّة وشرطتها خاضعة إلى المحسوبيّات والعشائريّة.
من ضمن الخطوات الضروريّة الواجب على البلديّة القيام بها، إجراء إحصاء للسكّان الذين تضمّهم البلدة ويخضعون لسلطتها، ومن دون هذا الإحصاء لا تعرف البلديّة تركيبة المجتمع التي عليها واجب خدمته
هذا الواقع يستدعي تغييرًا جذريًّا في تكوين البلديّات كما في إدارتها. وفي هذا الإطار حريٌّ أن نتوقّف عند تجربتين، الأولى في الأردنّ والثانية في بلجيكا. فقد تمّ تقليص عدد البلديّات في الأردنّ من 1059 بلديّة إلى 200 بلديّة، حيث أنشئت البلديّات الموحّدة أو المتّحدة، بما يتناسب مع متطلّبات التنمية، شرط ألّا يقل عدد الكتلة البشريّة في البلديّة عن 30 ألف نسمة، إذ يصبح بمقدور البلديّة القيام بدورها كإدارة محلّيّة لها مركزها وطاقمها الإداريّ وجهاز الشرطة، وباستطاعتها جباية عائداتها والقيام بالمشاريع والدراسات، ووضع موازنه تستطيع أن تطوّر المجتمع المحلّيّ، وبالتالي تتخلّص من العشائريّة والمحسوبيّة.
خطوات لا بدّ منها
من ضمن الخطوات الضروريّة الواجب على البلديّة القيام بها، إجراء إحصاء للسكّان الذين تضمّهم البلدة ويخضعون لسلطتها، ومن دون هذا الإحصاء لا تعرف البلديّة تركيبة المجتمع التي عليها واجب خدمته، وهذا لم يحصل في أيّ بلديّة في لبنان. فالبلديّة مسؤولة عن هذا التجمّع البشريّ وعن هذه الكتلة السكّانيّة، هي لا تعرف عدد الإناث ولا عدد الذكور ولا يكفي الأسماء المذكورة في لوائح الشطب لتبيان ذلك، فهناك الفئة العمريّة التي لا يحقّ لها الانتخاب وغير مدرجة على جداول الشطب، وهي شريحة كبيرة، تدخل ضمن اهتمام البلديّة وواجباتها.
من الخطوات الضرورية أيضًا إحصاء عدد المرضى والتلامذة في جميع المراحل، والطلّاب الثانويّين والجامعيّين، وكذلك عدد الاختصاصات المتوافرة ونوعها، كي نعرف تركيبة مجتمعنا وكيفيّة توجيه عملنا الإنمائيّ نحو الهدف، وبالتالي يجب ربط البلديّات بالمديريّة العامّة للأحوال الشخصيّة، إذ يجب أن تبدأ كلّ المعاملات من زواج وطلاق ووفاة وولادة وجواز سفر وبطاقة هويّة من البلديّة، وغير ذلك من المعاملات بحيث تتكوّن فيها البيانات الإحصائيّة لتركيبة المجتمع المحلّيّ وهذا ما يُطرح إلغاء وظيفه المختار، وإيكال هذه الوظيفة إلى مسؤول الشؤون الاجتماعيّة في البلديّة، والذي سيكون حكمًا عضوًا في المجلس البلديّ.
هكذا، ننتقل إلى مرحلة جديدة من اللّامركزيّة الإداريّة وعمليّة التنمية، والأمر نفسه ينسحب على المعاملات العقاريّة، فتكلّف لجان من الاختصاصيّين في مجالات الهندسة والمساحة والجغرافيا وعلم السكّان والعلوم الاجتماعيّة، تدرس جميعها إعادة توزّع البلديّات في لبنان، على أن يكون كاقتراح أوّليّ 200 بلديّة، حيث تحدّد دوائر هذه البلديّات من حيث القضايا المشتركة لا سيّما البنى التحتيّة والمدارس المجمّعة الابتدائيّة والثانويّة، إلى مشاريع المياه والكهرباء وغير ذلك.
من المفيد مناقشة طرق الانتخاب على أساس اللوائح، بما يسمح في أن تأخذ اللوائح مقاعد في المجلس البلديّ، موازيًا للنسبة التي حصلت عليها اللائحة في صناديق الاقتراع
وفق ذلك يُعاد تكوين اتّحادات البلديّات في لبنان، فبعد أن كان عددها 13 اتّحادًا في العام 1998، ووصل إلى 53 اتّحادًا اليوم، يجب أن يتقلّص هذا العدد إلى 20 اتّحادًا تشمل كلّ القرى والبلدات. وبهذا التقسيم يتعزّز دور البلديّات كما الاتّحادات، وتتعزّز إيراداتها من عائدات الصندوق البلديّ المستقلّ وكذلك من عائدات الرسوم والممتلكات البلديّة .
المجلس الوطنيّ للتنمية
ولكي يتمّ تفعيل عمل البلديّات كما الاتّحادات المنبثقة عنها، يُشكّل المجلس الوطنيّ للتنمية، من رؤساء المجالس البلديّة الـ 200، على أن ينتخب مجلسًا إداريًّا يتألّف من 20 عضوًا، وينتخب له رئيسًا، وبهذا يستطيع المجلس النيابيّ أن يتفرّغ للرقابة على عمل الحكومة، ويتفرّغ كذلك للتشريع من أجل بناء الوطن.
أما بالنسبة إلى قانون الانتخابات البلديّة، من المفيد مناقشة طرق الانتخاب على أساس اللوائح، بما يسمح في أن تأخذ اللوائح مقاعد في المجلس البلديّ، موازيًا للنسبة التي حصلت عليها اللائحة في صناديق الاقتراع، ما يتيح مراقبة عمل المجلس البلديّ من داخل المجلس البلديّ ذاته، ولا يكون هناك استثناء لأيّ كتلة ناخبة شاركت في الانتخابات ترشّحًا وتصويتًا، إذ يعكس ذلك صحّة التمثيل.
هذه النقاط التي تتضمّن أفكارًا يمكن لها أن تشكّل أساسًا للنقاش، من أجل وضع مشروع متكامل لتعديل قانون البلديّات بما يتناسب ويخدم مشروع بناء وطن الإنسان.