أفكار مُستعادة حول إعادة الإعمار

رأى بعض المعماريّين في الدمار اللاحق بالمدن والقرى والبلدات فرصة لخلق بيئة جديدة ترتكز على تصّور جديد تمامًا، من ضمنها خلق قيم جماليّة. وتطرح في الآن عينه مسألة الحفاظ على التراث أو على سمات الماضي. فهل ثمّة تعارض بين تلك العودة والأشكال التنظيميّة والمعماريّة الحديثة؟ بحيث يتداخل الحاضر والماضي؟

الإعمار ترميم وتصحيح

في عرف المهندس اللبنانيّ، جاد ثابت: “إنّ هدف إعادة إعمار مدينة ما هو باستمرار، ترميم أو إعادة بناء أو إعادة تأهيل الأحياء أو الأنسجة الممزّقة، أيًّا كانت ملابسات تدميرها أو تاريخه فجميع خطط إعادة الإعمار، أيًّا كانت فرضيّتها العقيديّة المسبقة، انصرفت إلى تصحيح الوضع الذي كان قائمًا قبل حصول الدمار. وقد أدّى الإعمار إلى إدخال تغييرات مهمّة على البنية المدينيّة للمدن التي أعيد إعمارها” (ثابت، مقالة “إعادة الإعمار والتراث”، 1997، ص 23).

وتتجلّى عمليّة التصحيح في زيادة المساحات وتعديل شكل الوحدات المبنيّة وتوسيع الشوارع، فالمشاكل الموجودة قبل التدمير تجد حلًّا لها في إعادة الإعمار أو الترميم، وتؤدّي الحرب في جانب منها دور المُسّرع للتحوّلات المدينيّة. فالإنطلاق من الصفر، كما حال القرى والبلدات الجنوبيّة التي دمّرها تمامًا العدوان الإسرائيليّ في أيلول (سبتمبر) من العام 2024، واعادة البناء لجدران خالية من الذكريات ومن الحميميّة، يُوجب على مالكيها وشاغليها من العائدين أهلًا وأقارب إعادة ملئها ودبّ الحياة فيها.

الإنطلاق من الصفر، كما حال القرى والبلدات الجنوبيّة التي دمّرها تمامًا العدوان الإسرائيليّ في أيلول (سبتمبر) من العام 2024، واعادة البناء لجدران خالية من الذكريات ومن الحميميّة، يُوجب على مالكيها وشاغليها من العائدين أهلًا وأقارب إعادة ملئها ودبّ الحياة فيها.

فقيام المباني مجدّدًا يُمثّل أولى عمليّات استرداد الحيّز وشغله من طرف الساكنين الذين سيضعون عليه بصماتهم. يطرح المعماريّ ثابت سؤالًا مهمًّا حول الماضي، حيث يرفض أن تكون إعادة الإعمار نوعًا “من فقدان الذاكرة”، فنحن في حاجة إلى “إرث” ما، قد يكون أسطوريًّا، مثابة رد فعل طبيعيّ يسمح “بتدعيم التماسك الاجتماعيّ وتوكيد هويّة مثخنة”، مع اعترافه بأنّ الهويّة ليست ثابتة، بل “دومًا في إعادة تكوين” (ثابت، ص 26) وهي وليدة تأثيرات كثيرة ومختلفة.

تساؤلات مشروعة

تثير عمليّة الإعمار بعض التساؤلات ومنها: هل تعني إعادة الإعمار العودة إلى الحالة السابقة؟ أم هي فرصة لإعادة النظر، وأخذ مطالب الناس في الحسبان، وتجديد الرابط الاجتماعيّ بمعنى تجديد النسيج الاجتماعيّ؟ وهل يخلق العمار الجديد أو الحديث “أمر واقع” يسمح للتحوّلات الاجتماعيّة بفرض نفسها؟ وهل من ضرورة لأخذ مشورة السكّان والسلطات المحلّيّة في إعادة الإعمار، بوصفه شكلًا من أشكال الممارسة الديمقراطيّة؟ فعلى السلطات المحلّيّة في نظر المهندس، بهاء الدين البسّاط، أن تؤدّي دورًا في اتّخاذ القرارات وتنفيذها، إذ: “إنّ المجالس المحلّيّة المنتخبة يمكن أن تشكّل أداة فاعلة لمنع انزلاق الحكومة المركزيّة نحو اعتماد خيارات تخالف مصلحة المواطنين.

فالممارسة الديمقراطيّة أساس نجاح التجارب الإعماريّة، وهي الضمان الوحيد كي لا تتحوّل هذه التجارب إلى مجموعة قرارات تعسّفيّة تهدّد مستقبل البلاد وتضامن المجتمع”. لا بل يجب تحويل قضيّة الإعمار إلى “قضيّة وطنيّة عامّة” (البسّاط، “الإعمار والسلطات المحلّيّة”، 1997، ص 150 و151).

والحال، بيّنت التجربة، وفاقًا لأحد الباحثين في شؤون العمارة، أنّ المدن التي أعيد إعمارها أو المجتمعات غالبًا ما تتوصّل، على المدى البعيد، إلى “تصحيح” البيئة التي تركها لها متولّو أمر التنظيم.

مشاهد من الدمار في الضاحية الجنوبية في بيروت

يزعم المهندس الفرنسيّ ذو الأصول الهنغاريّة، ، بيار فاغو (P. vago) (2002 – 1910)، أنّ الإعمار ليس عمليّة معزولة، بل يأتي في سياق نظرة شاملة أو خطّة عامّة للتنظيم المدينيّ والتنمية المتكاملة. ويتوجّب في خضمّها الاستفادة من الاكتشافات العلميّة والتقنيّة الحديثة لإنشاء محيط يلبّي حاجات الإنسان ويستجيب لتطلّعاته العميقة (فاغو، المعمار أمام مهامه الجديدة، 1997، ص 146 – 147).

تجربة تمّوز 2006

للنخب الفكريّة دور في إبداء الرأي في ما يتوجّب فعله في عمليّة إعادة الإعمار والتعافي الاقتصاديّ، وقد قام فريق من المهندسين المعماريّين والمخطِّطين من الجامعة الأميركيّة في بيروت “وحدة إعادة الإعمار” للمساعدة في عمليّة التعافي وإعادة البناء للمتضرِّرين من حرب 2006 الإسرائيليّة على لبنان.

اهتمّت هذه الوحدة بالعمليّات المنبثقة عن المجموعات والمؤسّسات الشعبيّة، بما فيها الإجراءات التشاركيّة وقضايا الهويّة والذاكرة والتراث، التي تطرح جوانب غالبًا ما يتمّ تجاهلها في خضمّ الحاجة الماسّة لإعادة الإعمار، فأنجزت سلسلة من الدراسات التي توثِّق عمل الوحدة وتناقش الدروس المُستخلصة من تجربة لبنان بعد حرب الـ 33 يومًا، وتقترح طرائق للإفادة منها في أماكن أخرى.

تنوّعت الحالات التي تناولتها من حيث الحجم ونوع التدخّل والمقاربات المُعتمدة في التعامل مع الواقع، وخاضت في مسائل حرجة مثل المشاركة المجتمعيّة وحماية التراث وتقييم الضرر وسياسات التعويض ودور الدولة وبناء القدرات، مع تقييم نجاحها وفشلها، وشملت دراسات الحالة المُختارة كلًّا من حارة حريك وبنت جبيل وعيتا الشعب (دروس في إعادة الإعمار: دراسات حالة من لبنان في أعقاب حرب 2006‎. هويدا الحارثي وآخرون، 2010**).**

نموذج مشروع وعد

يروّج د. عبد الحليم فضل الله، الأكّاديميّ ورئيس المركز الاستشاريّ للدراسات والتوثيق (لبنان)، لنموذج مشروع “وعد” لإعادة إعمار الضاحية الجنوبيّة، المتمحورة أهدافه حول أمرين: عودة السكّان سريعًا إلى أماكن إقامتهم وعملهم منعًا لحدوث فجوات ذاكرة (تبدّد هويّة المكان)، وبناء المناطق المهدّمة ضمن رؤية معماريّة متكاملة هندسيًّا واجتماعيًّا وبيئيًّا. فيصف النموذج بالتضامنيّ والتشاركيّ، ويحمل مزايا إيحابيّة كثيرة منها: الديناميكيّة والمرونة الناشئتان عن عمل منظّمة غير حكوميّة تعمل بالاستقلال عن الدولة، وعزل عمليّة الإعمار عن المضاربات وجني الأرباح التي يمكن أن تلحق تشويهًا بأهداف المشروع وسياساته.

وقد حقّق النموذج أهدافه كاملة تقريبًا، وعلى رأس ذلك إعادة النسيج الاجتماعيّ إلى ما كان عليه قبل الحرب. وفي زعمه، يُسجّل لمشروع “وعد” نجاحه في تعبئة رأسمال اجتماعيّ من شأنه المساعدة على تخطّي الصعوبات، مزوّدًا بحال من التضامن الشامل. والاستفادة “من الرأسمال الاجتماعيّ الذي يعني وجود مخزون كاف من الحوافز التي تجعل من كلّ وحدة اجتماعيّة، فردًا أو مؤسّسةً، شريكًا محتملًا في إتمام العمليّة وتطويرها وتحمّل أعبائها” (“إعادة الإعمار وسياساته: دروس من التجربة اللبنانيّة”، صحيفة الأخبار**،** 25 حزيران، 2018**).**

والحال، تدعو المهندسة اللبنانيّة، مها لطف جمّول، إلى الاستفادة من عمليّة إعادة الإعمار الجديدة باعتبارها فرصة يمكن التعويل عليها للنهوض في مختلف المجالات، بما يمكنها أن تنعكس إيجابًا ورفعة لمجتمع قدّم التضحيات في مجالات شتّى، بينها الإسكان والاقتصاد والاجتماع والبيئة (“إعادة الإعمار وفرصة الدفع قدمًا”، صحيفة الأخبار، 6 كانون الثاني، 2025).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى