“أم قاسم” باعت ذهبها واقترضت…. من ربّة منزل إلى ربّة عمل!!
إيمان العبد
بقميصها المغطى ببياض الطحين وبابتسامة تبزغ من بين تشققات وجهها الخمسيني حفرتها سنوات من التعب والإصرار تستقبل أم قاسم زبائنها في فرنها الصغير في منطقة برج البراجنة وتطعمهم من اطيب ما عجنته يديها “عجينة الصبايا”.
في زمن اصبحت المرأة تتبوأ مراكز مهمة تحقق نجاحاتها في المجتمع بشهاداتها وعملها تأتي أم قاسم تكسر الصورة النمطية في المجتمع مختارة ولوج مهنة لا تزال حكراً على الرجال، ويصبح لدينا بدل الفران فرانة متحملة لهيب النار وشقاء هذه المهنة تواجه بها أثقال وأعباء الحياة الملقاة على كاهلها وكاهل زوجها حيث تعاونه في إعالة أولادهما الثلاثة أكبرهم قاسم ذو الـ 18 عاما.
انحناءة بسيطة في رقبتها وكتفها هي البصمة التي تركتها السنوات الـ16 على جسد أم قاسم. فالألواح الخشبية المزدانة بالعجين وحملتها أم قاسم طيلة تلك الفترة تروي رحلة الكفاح والتعب التي تركت آثارها بوضوح على جسد المرأة الخمسينية. تدلك أم قاسم عجينة المناقيش تارة وتساير زبائنها الذين ينادونها بـ”أمي الحاجة” تارة أخرى، وبينهما رحلة تعب يرويها «عجين الصبايا».
باكراً جداً بدأت أم قاسم حياتها المهنية، لكنها لم تبدأها كـ «فرانة» بل كخياطة وكان عمرها 15 عاماً وورثت تلك المهنة عن والدتها التي كانت خياطة الى حين زواجها وولادة ابنها الأول، فانصرفت بعدها لمعاونة زوجها في فرنهم الكائن في منطقة المشرفية لتتعلم منه أسرار المصلحة وتتقنها. لكن لم تجرِ الرياح كما اشتهتها أم قاسم فجاءت حرب تموز لتدمر كل شيء.
الحرب دمرت كل شيء لكنها لم تنل من عزيمة وإصرار أم قاسم التي انصرف زوجها ليزاول مهنة أخرى، فيما هي قررت متابعة العمل منفردة في هذه المهنة، واشتغلت عاملة في فرن في منطقة مار مخايل لتنتقل بعدها للعمل في منطقة برج البراجنة عام 2014.
من عاملة الى ربة عمل وهذه المرة لفرن “عجينة الصبايا” التي أسسته بمفردها. تروي أم قاسم بعد 4 سنوات من افتتاحها الفرن، كيف اقترضت مبلغ 4 مليون ليرة من القرض الحسن وباعت ما تملكه من ذهب لتشتري عدّة الفرن وتصبح على رأس عمله وحدها دون أي موظف يساعدها موفرة أجرة عامل، و “مديرة لنفسي مدللة” على حد قولها مختزلة أيضا معاناة وشقاء هذه السنوات قائلة “العمل لدى الناس مذلة”.
عن الصورة النمطية والتحديات التي واجهت أم قاسم كامرأة في الفرن، تقول أم قاسم «من هذا الفرن ربيت عائلة مكتفية وأصبحت جدة، فالحياة تعلم الكثير وتحتم علينا الاستمرار رغم كل العوائق سواء كانت مجتمعية أم مادية. وأضافت “المرأة لا تفرق بشيء عن الرجل، فبالإصرار قوتنا تعادل عشرة رجال” .
من الفجر يبدأ يوم أم قاسم ولا ينتهي بعد الظهر. كدح بكدح تمضي نهارها أم قاسم فمن تحضير أغراضها والانطلاق من بيتها في حي الجامعة الى فرنها حيث يجب أن تكون فيه ابتداءً من الساعة السادسة صباحاً وصولاً للبدء بتلقي الطلبيات، ليتولى ابنها قاسم بايصالها للزبائن بعد أن تكون مرّت بمراحل عديدة من العجن والتجهيز لإدخال المعجنات إلى بيت النار كلها أمور تتابعها أم قاسم باحتراف وإتقان.
لا ينتهي نهار أم قاسم بإقفال الفرن عند الساعة الرابعة والذهاب إلى البيت فهناك رحلة عمل أخرى تنتظرها وهي أمور البيت وتأمين متطلباته، وهي تفاصيل ترويها أم قاسم والابتسامة لا تفارق محياها.
لا وقت لدى أم قاسم لمتابعة مساعي الجمعيات النسائية ل”تمكين المرأة”، أو ما تتكرّم به الدولة والأحزاب النافذة بتخصيص “كوتا نسائية” لهن، فالتغيير من فوق ما زال برستيجا لدولة تبحث عن رضى الدول الأجنبية مقابل الحصول على هبات ومساعدات تذهب إلى الجيوب ومن ثم تعود لمصارف الأجانب، لكن حكاية أم قاسم، تلفت إلى فرص التغيير من تحت، أقله، اختصار رحلة بناء فرنها، فالأمر سهل، هو تخصيص قروض نسائية بفوائد تشجيعية لمشاريعهن الفردية.. وكفى النسويين “شرّ” القتال.