أم محمد حارسة الدار ووروده تأبى أن تغادر
في كل محادثة هاتفية أجريها مع صديقي وزميلي كامل جابر، يتناهى إلى مسمعي صوت والدته الحاجة أم محمد في فضاء الكلام، تارةَ عارضة على كامل تفاحة، وتارة أخرى صحن طبيخ، وفي معظم الأحيان أشياء بسيطة ليست سوى حجج لكي ترى كامل وتمنحه “كمشة” من الحب. لا تهدأ أم محمد والدة كامل والتي قاربت التسعين عامًا، فهي دائمة الحركة، كثيرة المشاغل والأسئلة عن القطط التي يهتم بها كامل وعن موعد الصلاة وأوانه، وعن الأبناء وأحوالهم، وبشكل دائم إذا كان كامل قد تناول طعامه، أو ينقصه شيء.
في زياراتي القليلة لكامل، لا بد من أن أرى الحاجة أم محمد في مكانها المعتاد أمام الدار، تحرسه وتحميه، تكنس أرضه بمكنستها التي صنعتها خصيصًا لذلك وتسقي حبقه وورده المنثور على جوانبه. تبادرني فورًا بالسؤال عمّا أريد، مشيرة لي بالطريق إلى كامل صارخة له بأن أحدًا يسأل عنه.
لن تصدّق عندما ترى وجه أم محمد وجسدها النحيل أنها تتمتّع بهذا القدر من النشاط، ولن تصدّق أن ذلك الوجه الذي يشبه تجاعيد الأرض، يفيض بكل هذا الحب والدفء.
أتواصل مع صديقي كامل يوميًا، ومنذ بدء التصعيد أسأله عما ينوي أن يفعله، وقبل كل ذلك أسأله عن والدته. قبل يومين قال لي إنّ جميع أخوته وهم جيرانه في المبنى غادروا إسوة بكل الناس في الجنوب، وعندما سألته عن والدته قال لي إنها رفضت المغادرة ولم يبقَ إلا هو وهي في المنزل.
البارحة منذ الصباح وأثناء مكالمتنا الهاتفية أكرّر سؤالي المعتاد عن أم محمد، فيجيبني كامل بأنه لم يسمع حسها ويفتش عنها في كل الأمكنة دون هوادة ولم يعثر على أثر لها! لكن بعد قليل يتصل بي ويقول لي إن أحد أخوته حضر واصطحبها إلى مكان إقامته في الشوف.
اليوم منذ الصباح يقول لي كامل بأن والدته لم تنم الليل وسط صراخها ودعوتها الملحة طالبة العودة إلى الدار، ولم تفلح كل المحاولات ثنيها عن ذلك، فرضخوا للأمر وجرت اتصالات سريعة بين كامل وأخوته قرروا على إثرها بعودتها إلى الدار.
تابعت مع كامل طيلة النهار عملية عودة والدته إلى دارها الذي وصلته عصر اليوم، ومعه تنفست الصعداء.
منذ قليل أرسل لي كامل صورته مع والدته وعددًا من أفراد الطاقم الطبي في مستشفى النجدة الشعبية اللبنانية في كفررمان، معلقًا “أمي انضمت إلى الطاقم الطبي في المستشفى”.
عادت أم محمد إلى منزلها غير آبهة بالقصف ولا بالغارات التي لم تهدأ طوال ثلاثة أيام متواصلة، ولم تكترث للدرون الإسرائيلية التي تبث رسائل لترهيب ممن بقيوا في البلدة. عادت أم محمد إلى الدار تطبطب عليه، تسقي وروده مثلما تفعل منذ عشرات السنين، عادت ترمي السلام على من بقي من الجيران، ترفع رأسها إلى السماء مبسملة ومحمدلة، عادت تجمع أزرار الياسمين المتناثرة على السطيحة تلمّها ومن ثم تجمعها في زاوية من زوايا الدرب لتفوح عطرًا يطغى على رائحة الموت.
عادت “أم محمّد” وعاد معها الصوت الذي يتسرّب إليّ كلما تحدّثت مع كامل، والأسئلة البسيطة عن أوان الصلاة وعن الورد والقطط وأشياء أخرى. صوت لن يطغى عليه أزيز الطائرات ودويّ المدافع، صوت سيبقى يغطي فضاء المكان لا يُهزم أبدًا.
للحاجة أم محمد “زينب” وللزميل كامل ألف أمنية بالسلامة الدائمة.