أن يقتل الميت مرّتين …تراجيديا آل بعلبكي

تحت غطاءٍ من أجنحة الطائرات الجارحة، ومع زئير الصواريخ القاتلة، تسلّل الجنود كظلالٍ مشؤومة نحو البيوت المتناثرة في بلدة العديسة. زرعوا المتفجّرات حول تلك البيوت، ثمّ، في لحظةٍ من الدهشة المتجمّدة، ضغطوا على زرّ ما في مكانٍ ما، لتتفجّر الحياة نفسها تحت أقدامهم. وعلى وقع الصرخات التي اختنقت في صدور من كانوا هنا- فلأصحاب المنازل طيف لا يغادر- سوّيت البيوت بالأرض في مشهدٍ صارخٍ يُعيد صياغة الواقع إلى كوابيس.

ثقافة مقابل القحط

كان منزل آل بعلبكي واحدًا من تلك البيوتات التي صمدت أمام عواصف الزمن. بيتٌ واسع وجميل، يعكس إرثًا غنيًّا وذوقًا رفيعًا. منذ البداية، أضفى صاحبه الرسّام عبد الحميد بعلبكي لمسة فنّيّة على كلّ زاوية من زواياه، إذ أراده متحفًا يحمل في طيّاته عبق الأصالة. وزّع عددًا من الوثائق واللوحات الفنّيّة والكتب القيّمة في أرجاء المكان، لتتراقص أمام عيون الزائرين قصص الماضي وجمال الحاضر.

كان هذا البيت أكثر من مجرّد مكان للعيش؛ كان يمثّل طموحًا ورغبةً في الحفاظ على الهويّة الثقافيّة في زمنٍ يعاني فيه الوطن من تشوّهات الهويّة. أراده معلمًا حضاريًّا، رمزًا للفخر والتاريخ، في مقابل بلدٍ معادٍ يصطنع الأصالة دون جدوى، محاولًا استنساخ تراث ليس له.

عبد الحميد بعلبكي وزوجته أديبة رمال

كان البيت مرقدًا أخيرًا لعبد الحميد بعلبكي وزوجته أديبة رمّال. هناك، في مساحةٍ هندسيّة تتّسم بالبساطة والسكينة، أشبه بصومعةٍ تطلّ على الأفق، استقرّا في سلامهما الأبديّ. هذه الزاوية، الحميميّة والبعيدة عن ضجيج العالم، تتيح لزائر القبر أن يقف برهةً أمام عظمة الصمت، متأمّلًا بتساؤلٍ عميقٍ عن ماهيّة الوجود وسرّ الحياة؟

لكنّ العدوّ له رأي آخر، إذ فجّر المكان، لتتداخل العظام بالرخام، لتصير غبارًا، كأنّنا أمام أسطورة إغريقيّة يتحوّل فيها الفنّان من طور إلى آخر في نسق ميتافيزيقيّ ملحميّ.

فلسفة البيت الأبديّ

يمثّل القبر في الوعي الإنسانيّ أكثر من مجرّد حفرة في الأرض أو بناء حجريّ يضمّ رفات الموتى. إنّه مؤسّسة ثقافيّة متكاملة تختزل في طيّاتها فلسفة الشعوب وتصوّراتها عن الحياة والموت والخلود. فمنذ فجر التاريخ، حرص الإنسان على إيلاء القبر أهمّيّة خاصّة، معتبرًا إيّاه البيت الأبديّ الذي تستقرّ فيه الروح في رحلتها الأخيرة.

لقد تجلّت هذه الأهمّيّة بشكل لافت في الحضارة المصريّة القديمة، حيث شيّد المصريّون الأهرامات العظيمة كقبور لملوكهم، مزوّدين إيّاها بكلّ ما يحتاجه الميت في حياته الأخرى، من طعام وشراب وأثاث ومقتنيات شخصيّة. لم يكن هذا الاهتمام مقتصرًا على المصريّين وحدهم، فقد اعتنت الحضارة الصينيّة القديمة بقبور أباطرتها عناية فائقة، ولعلّ جيش التيراكوتا الشهير خير دليل على مدى تعقيد وثراء طقوس الدفن في تلك الحضارة العريقة.

لكنّ العدوّ له رأي آخر، إذ فجّر المكان، لتتداخل العظام بالرخام، لتصير غبارًا، كأنّنا أمام أسطورة إغريقيّة يتحوّل فيها الفنّان من طور إلى آخر في نسق ميتافيزيقيّ ملحميّ.

وفي العصر الحديث، تطوّرت النظرة إلى القبر مع تطوّر المجتمعات وتغيّر منظومات القيم. فبينما احتفظ القبر بقدسيّته في المجتمعات التقليديّة والدينيّة، نجد أنّ المجتمعات العلمانيّة المعاصرة طوّرت مفاهيم جديدة للتعامل مع الموت والدفن، مثل حرق الجثث والدفن الأخضر، بل وظهور ما يعرف بالمقابر الافتراضيّة في العصر الرقميّ.

ومن المنظور الدينيّ، يختلف مفهوم القبر باختلاف العقائد والتصوّرات. ففي الإسلام، يتّسم القبر بالبساطة والتواضع، باعتباره محطّة انتقاليّة في رحلة الإنسان نحو الآخرة، وليس مستقرًّا نهائيًّا. أمّا في المسيحيّة، فيمثّل القبر رمزًا للقيامة والبعث، ومكانًا لراحة الجسد في انتظار يوم القيامة. لكن أيًّا من معتقدات الشعوب لم تدرج عمليّة تفجير القبر كطقس طبيعيّ قابل للتنفيذ سوى في الأدمغة المريضة التي نسفت كلّ ما تعاقبت عليه الشعوب في السياق الانثروبّولوجيّ الذي يحتاج إلى آلاف السنوات ليرسم مساره وتحوّلاته، وكأنّ في عمليّة تلغيم البيوت، والقبور ونسفها، فعلًا ارتداديًّا، ساحقًا لذلك الخطّ الممتدّ عبر التاريخ، و”سنفهم” هول ذلك الجرم حين نتمعّن بالدوافع الهمجيّة المختزَنة في تلك العقيدة البدائيّة.

محاولة لتفسير العالم

“مررت بدارهم شوقًا اليها لعليّ المح الأحباب فيها

فما من نائم في الدار يصحو وما من زائر يدنو اليها”.

“ضريح إمّي وبيّي الذي فجّرته الإيدين السودا”. هذا ما كتبته المطربة سميّة بعلبكي عبر حسابها الخاص على “فيسبوك”، مرفقة النصّ بصورة للضريح الذي كان حاضنًا رفات والديها. من ناحيته يقف شقيقها التشكيليّ أسامة بعلبكي في مواجهة هذا الصراع بعينين متجاوزتين للجزء الفجائعيّ من الجريمة، فنظرته تتّسع لرؤيته تضمّ في طيّاتها ما يفوق بيتًا مهدّمًا أو ضريحين دفن فيهما قلبه بين الوالدين.

مكان ضريحي عبد الحميد وزوجته أديبة رمال الذي صار رمادًا

ليس الحنين أو الأسف، كما يتصوّر البعض، هو ما يقتطع من روحه؛ بل الريبة من التحوّلات التي سيحملها الزمن القادم. يتحدّث أسامة عن البيت الذي فقده، والمكان الذي شيّد فيه ضريحيّ الوالدين، لكنّه يضعهما في خلفيّة المشهد، كمن يتأمّل شيئًا حميميًّا في ظلّ جبل عملاق، يعلم أنّه جزء من تاريخه، ولكنّه لا ينفصل عن السلسلة الجغرافيّة الكبرى التي تحيط به.

ويدرك أسامة أنّ ذكرياته الخاصّة، تلك التي تحمل بين طيّاتها ضحكات ومواسم وأعيادًا، هي نغمات في سمفونيّة أكبر، سمفونيّة حرب وصراع يمتدّ عبر الأجيال. يقف أسامة بعلبكي كمن يحاول تفسير العالم برمّته، فالصراع بالنسبة إليه ليس مجرّد حنين أو فقدان، بل معركة واعية على التاريخ والجغرافيا والذاكرة، وهو يسعى، بألم نبيل، إلى أن يبقى حاضرًا في كلّ لحظة.

رسالة إلى المايسترو

“هنا كان لنا بيت ترعرعنا فيه، بناه والديّ بأحلامهما وبحبّ كثير

هنا بقيت كلّ ذكرياتنا وعطر من أحببنا..

هنا دفنّا والدينا لكي يناما نومًا أبديًّا هانئًا..

لا، ليس بيتنا فدىً لأحد سوى هذا الوطن “الحلم”

ونعم، نعرف الفاعل ونعرف إجرامه”.

يقول المايسترو لبنان بعلبكي الذي واساه الفنّان مارسيل خليفة بمنشور خاص يحاكيه فيه:

“إلى صديقي لبنان بعلبكي “

وَرِثْتَ من جنوبك يا ” لُبْنَانْ ” الوِرْثَ الذي آلَ بِكَ إلى نصبٍ لاسمك وصَيَّرَكَ ثانيه في إيقاع شموخه. ورثت منه شدّته. وورثت منه ما تبطّن فيك وما تداعى .

عصا القيادة المتكلمّة بصحبة الأوركسترا والأنغام تروي قصّتك في مراياها. ومن عجين الثقة بيديك تصنع خبزك الجنوبيّ الطيّب المذاق . كم كان عليك أن تقضي من الوقت لكي تعرف أنّك كنت أنت، مثل اسمين ينشأ منهما معنىً!

أنت ممّا تعلّمت في كونك المفتوح على رياح الرحيل في جنوبيّ الجنوب وجدت على طريق عبورك إلى فضاء لا يسيّجه نشيد. وأنت ما أنت تحمل صليب أهلك. وأنت أنت لأنّ جنوبك مقيم فيك، أينما ارتحلت. يصطحبك مثل ظلّك مُقامَ المكان في المكان. أودعتْ في داخلتك ما له من شَحيح إيراث وقضيت طفولتك وصباك ترتع في أرجاء وصايا والدك عبد الحميد بعلبكي، وتحفظ تعاليم “أديبة” أمّك، وشققت لنفسك سبيل الذهاب إلى غدك، لم تمسح من صدرك ما تعلّمته من التعاليم، ولو أنّ أقاليم القلب والروح اتّسعت وترامت أطرافها في البعيد، فتوّسعت لها في المكان أمكنة وبنيت لبيت أهلك في الخيال نصب ذكرى ليبقى شاهدًا زمانًا وزَمانا..”.

منزل عبد الحميد بعلبكي وزوجته أديبة رمال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى