أواليّات خطاب الكراهيّة في لبنان والمبالغات حوله

اندلعت نهار الأحد في 30 حزيران/ يونيو من العام 2024، أعمال عنف وحرق وتكسير ضد السوريّين في منطقة قيصري التركيّة وذلك على خلفية انتشار أخبار مغلوطة تتعلّق بإتهام شاب سوري بالتحرّش بطفلة تركية، تبيّن عدم دقّتها لاحقًا، ولتنتشر هذه الأفعال المشينة في عدّة بلدات أخرى، سبق ذلك حملة أمنيّة ضدّهم طاولت المقيمين في شكل غير نظاميّ، بحسب قول السلطات التركيّة. وأظهرت مقاطع فيديو عديدة، نُشرت في الإعلام بأنواعه، أشخاصًا يحطّمون متجرًا يديره سوريّون، قبل إضرام النار فيه. وفي إحدى التسجيلات، سُمع صوت رجل تركيّ وهو يصرخ “لا نريد مزيدًا من السوريّين، لا نريد مزيدًا من الأجانب”.

لم يكن هذا الشعار وليد ساعته، فمنذ سنوات يضخّ الإعلام في أكثر من مكان وبلد “خطابًا” تحريضيًّا ضدّ اللاجئين السوريّين. وهذا الخطاب الموسوم بأنّه كاره للأجانب، جرى التسويق له على نحو منظّم عبر وسائط الإعلام ولا سيّما وسائل التواصل الاجتماعيّ.

هنا مقالة ترى إلى أواليّات صوغ هذا الخطاب ليأخذ قوامًا يُحارب به اللاجىء السوريّ بوصفه عبئًا.

خطاب الكراهيّة

بسبب عدم وجود إجماع على تحديد خطاب الكراهيّة، ارتأت الأمم المتّحدة تبسيط الأمر وتقديم تعريف أوّليّ، بأنّه “أيّ نوع من التواصل، الشفهيّ أو الكتابيّ أو السلوكيّ، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائيّة أو تمييزيّة بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهويّة، وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الانتماء الإثنيّ أو الجنسيّة أو العرق أو اللون أو النسب أو النوع الاجتماعيّ أو أحد العوامل الأخرى المحدّدة للهوية”.

رسم كاريكاتوري من موقع “العربي”

وقد تبيّن أوّلًا، أنّه يمكن نقل خطاب الكراهيّة من خلال أيّ شكل من أشكال التعبيّر، بما في ذلك الصور والرسوم المتحرّكة والإيماءات والرموز ويمكن نشرها عبر الإنترنت أو خارجها. وثانيًا، أنّ خطاب الكراهيّة **”**تمييزي” متحيّز، متعصّب، (غير متسامح) أو “ازدرائيّ”، احتقاريّ، مهين، مذلّ لفرد أو مجموعة. ثالثًا، أنّه يمسّ “العوامل المُحدّدة للهويّة” الحقيقيّة والمتصوّرة لفرد أو مجموعة، بما في ذلك “الدين أو الانتماء الإثنيّ أو الجنسيّة أو العرق أو اللون أو النسب أو نوع الجنس”، ولكن أيضًا خصائص مثل اللغة، أو الخلفيّة الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو الإعاقة أو الحالة الصحّيّة، أو التوجّه الجنسيّ، من بين أشياء أخرى كثيرة.

لقد أضحت أدوات نقل هذا الخطاب ونشره أسهل بما لا يُقاس في وجود العالم الرقميّ ووسائل التواصل الاجتماعيّ، اذ إنّ هذه الوسائل لديها القدرة على الوصول إلى جمهور واسع ومتنوّع في الوقت الحقيقيّ. كذلك أنّ الدوام النسبيّ للمحتويات المحرّضة على الكراهيّة على الإنترنت تمثّل مشكلة، حيث يمكن أن تعاود الظهور و(تعيد) اكتساب الشعبيّة بمرور الوقت. علمًا أنّه تُجرّم الأفعال ذات الطبيعة العنصريّة وكراهيّة الأجانب المرتكبة من خلال النظم الرقميّة.

السوريّ: كبش محرقة

ولبنان كغيره من البلدان التي استضافت أعدادًا كبيرة من اللاجئين السوريّين إثر تداعيات الأزمة السوريّة في العام 2011، استجاب إنسانيًّا برعاية أمميّة لتأمين مقوّمات هذا اللجوء. غير أنّ الصراع الداخليّ اللبنانيّ واستفحال الأزمة الماليّة والاقتصاديّة كان يبحث عن متنفّس آخر له، فوجده في يافطة “النزوح السوريّ في لبنان”، ولأنّ لا مجال لتعامل عنفيّ مادّيّ مع الأمر، كانت اللغة والعنف اللفظيّ هي الأدوات لإنتاج “خطاب كراهيّة”، من دون أن يكون ذلك مرتبطًا بالضرورة بموقف عنصريّ “قوميّ” ما.

كشفت دراسة أعدّتها مؤسّسة “سمير قصير” (2023)، تصاعد خطاب الكراهيّة في لبنان حتّى بات نهجًا “منظّما” يُستخدم للتأثير في الرأي العام ونظرته إلى الأفراد، والمجموعات، والسياسة. ويحتاج هذا الخطاب إلى وسيط لكي ينمو وينتشر، “وعلى غرار أيّ خطاب آخر، يتفشّى، ويكتسب جمهورًا أوسع، ثمّ يتجلّى بكلّ استفزاز عندما يُمسي معمّمًا في الخطاب السائد، فيبدو الخطّ الفاصل بينه وبين حرّيّة التعبير مموّهًا بشكل متعمّد.

لقد أضحت أدوات نقل هذا الخطاب ونشره أسهل بما لا يُقاس في وجود العالم الرقميّ ووسائل التواصل الاجتماعيّ، اذ إنّ هذه الوسائل لديها القدرة على الوصول إلى جمهور واسع ومتنوّع في الوقت الحقيقيّ

في هذا الإطار، تبرز وسائل الإعلام كالمنبر النموذجيّ لتعميم خطاب الكراهيّة. وكلّما كانت الوسيلة الإعلاميّة راسخةً ومُمَأسسة، ساهمت بشكل أفضل في تبرئة خطاب الكراهيّة وتلميع صورته”. وتؤكّد وداد جربوع (الصحافيّة والمساهمة في التقرير) أنه “خلال رصد القنوات التلفزيونيّة تبين أنّ اللاجئين السوريّين هم أكثر فئة مستهدفة في نشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية”، (مذكور عند أسرار شبارو، “الكراهيّة” في لبنان، 2023).

تأسيس خطاب الكراهيّة

والسؤال الكبير: كيف يتأسّس هذا الخطاب؟ وأيّ عدّة منهجيّة يستخدم ليصبح أداة في حرب “الكراهيّة”، تبرّر الارتكابات بحقّ السوريّين، من مداهمة أماكن سكنهم، إلى التضييق على حركتهم (تعاميم بعض البلديّات اللبنانيّة بضرورة التزام السكّان من التابعيّة السوريّة منازلهم من الساعة الثامنة مساء ولغاية السادسة صباحًا، إضافة إلى تقديم أوراق ثبوتيّة مع صورتين شخصيّتين لكلّ فرد من أفراد العائلة في مبنى البلديّة، ورفض استقبال نازحين “غير مستوفين الشروط القانونيّة من خارج البلدة”). كما حركة “كلّ مواطن خفير” (2024) التي أطلقها النائب عن بيروت غسان حاصباني للإبلاغ عن اللاجئين المخالفين للقانون وغير الشرعيّين (عمليًّا تحويل المواطن إلى واشٍ؟)، وصولًا إلى الاعتداء الجسديّ عليهم، (إثر حادثة مقتل بّاسكال سليمان ابن مدينة جبيل في الثامن من نيسان/ إبريل من العام الجاري، لمشاركة أفراد سوريّين في الخطف والقتل)؟

وقد شهدت أحياء برج حمّود، النبعة، الدورة وسنّ الفيل في العاصمة بيروت ومدينة جبيل أعمال عنف ضدّ اللاجئين والتجّار السوريّين مثابة احتجاج عنفيّ، وحديثًا في 12 تموز/ يوليو 2024، تم ّإجلاء 80 عائلة سوريّة من بلدة رحبة العكّاريّة بحجّة عدم امتلاكهم أوراقًا قانونيّة.

وقفة احتجاجية في بيروت ضد خطاب الكراهية

ثمّة أواليّات يمكن عبرها رصد خطاب الكراهيّة وتحديد أسانيده المغلوطة:

– التجانس:

أنّ أعضاء جماعة ما يتشابهون، جسديًا خصوصًا. وهذا غير صحيح، فقد أثبت باحثون أنّ دماغنا لا يتعامل بالتفصيل إلّا مع العلامات المألوفة لديه، وبالتالي، يمكن له أن يخلط الوجوه من عدّة إثنيّات مختلفة. ومفاد ذلك، أنّ صاحب خطاب الكره لا يفرّق بين طبقات المجتمع السوريّ (غنيّ، فقير)، ولا بين فئاته (متعلّم غير متعلّم) ولا بين مناطقه (ريف، مدينة)… إلخ. على رغم ذلك يصل أحدهم إلى القول “لا ضرر من السوريّين، لكن فليرحلوا”.

– الصور النمطية:

هي تمثيلات مبسّطة لفرد أو مجموعة بشريّة نقبلها من دون تفكير. يمكن أن تكون إيجابيّة أو سلبيّة. ولكن من الضروريّ التشكيك فيها لتجنّب التحيّز ورفض الآخرين. مثل أن يقال: ”السوريّين بيخلّفوا كثير”، “العمّال السوريّين ما خلّوا شغل للبنانيّيّ”، “السوريّ بيستأجر البيت وبردّلنا اياه خربة”. “السوريّين ما بتفرق معهن، بيتحمّلوا، بيستأجروا أوضة وبيقعدوا فيها فوق بعضهن البعض، الخيّ وخيّو وولادهن”، “السوريّ بيشتغل كلّ شي وبدوامات طويلة كلّ النهار وما بيقول آخ”.

في السياق المذكور، لاحظ نديم، وهو رجل أعمال سوريّ (60 سنة)، إنّ بعض محطّات التلفزة اللبنانيّة تبثّ شرائط تحريضيّة فيها “تحقير وتنميط وتبخيّس للسوريّ كإنسان عاري حتّى من أبسط الحقوق السياسيّة”. كذلك تشعر أمل (فنّانة تشكيليّة) بنظرة الاستعلاء عليها حين تتكلّم اللهجة السوريّة “يي، إنت سوريّة؟ مش مبين عليك؟ لو ما حكيتي ما كنا عرفنا”.

– “الحيّونة”:

هو عمليّة إسناد خصائص حيوانيّة إلى شخص أو مجموعة من الناس. تعتبر هذه المقارنات بين الحيوانات مهينة للإنسانيّة. وفي ما خصّ السوريّين، تسمع “ألا تراهم، انّهم يتوالدون مثل الأرانب” (والحقيقة العلميّة أنّ للسوريّين نسب خصوبة عالية)، “إنّهم في كلّ مكان، يتكاثرون مثل النمل”.

– الاتّهامات الكاذبة:

من بينها على سبيل المثال في شكل شائعات أو حجج غير صحيحة، وهي خطيرة ويمكن أن تؤدّي إلى اعتداءات. مثل القول: “إنّ عدد النازحين السوريّين سيصبح أكثر من عدد المواطنين اللبنانيين”، دون أن يتحقّق القائل من العدد، أو كما صرّح وزير الداخليّة، بسّام مولوي، في خصوصهم: “إنّ الأمر لم يعد يُحتمل، وهو يهدّد ديمغرافيّة لبنان وهويّته” (30/9/ 2023)، لا بل “إنّ موروثات الأرياف السوريّة النازحة تهدّد النسيج الاجتماعيّ اللبنانيّ” (بحسب ما تنقل ديانا سكيني، النهار، 1/4/ 2023). و”أنّهم يخرّبون نمط حياتنا” (مواطن تركيّ)، “يأكلون ويشربون، ولا يفعلون شيئًا، يعيشون كالملوك”، “إنّهم يحتلّون البلد؟”، “تراهم في كلّ مكان”، “تخطّت ولادات السوريّين عتبة 300 ألف خلال سنة واحدة”.

تبرز وسائل الإعلام كالمنبر النموذجيّ لتعميم خطاب الكراهيّة. وكلّما كانت الوسيلة الإعلاميّة راسخةً ومُمَأسسة، ساهمت بشكل أفضل في تبرئة خطاب الكراهيّة وتلميع صورته

– المؤامرة:

هي عمليّة إسناد الأحداث بشكل غير صحيح إلى مجموعة من الأفراد الخبيثين الذين يعملون سرًا لإخفاء الحقيقة عنّا. هناك كثير من نظريّات المؤامرة، مثل نظريّة الاستبدال العظيم أو أسطورة المؤامرة الكونيّة. إذ “تؤوي مخيّمات اللجوء متطرّفين مثل داعش والنصرة، تنتظر الفرصة المناسبة للتخريب”، “ينتظر السوريّون في مخيّمات اللجوء الإشارة من الخارج لحمل السلاح ضدّ اللبنانيّين”. وغيرها من الأفكار غير المسندة إلى وقائع صحيحة.

مناهضة خطاب الكراهيّة

والحال، لا يمكن، وفاقًا لجاد شحرور، المسؤول الإعلاميّ في مؤسّسة سمير قصير، تصنيف مشكلة اللجوء السوريّ، كمشكلة سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة، قبل الاعتراف بأنّها مشكلة ثقافيّة، متعلّقة بتقبّل الآخر، وفعليًّا هي نقطة انطلاق كلّ خطاب كراهيّة بين المواطنين واللاجئين، وصولًا لتكون لغة سياسيّة يتمتّع ويبرع فيها النظام الحاكم.

في هذا الإطار، تعمل الأمم المتّحدة على مواجهة خطاب الكراهيّة. وقد تمّ تأكيد هذه المهمّة في ميثاق الأمم المتّحدة، في الأطر الدوليّة لحقوق الإنسان والجهود العالميّة الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وقد صرّح مستشار الأمم المتّحدة الخاص بمكافحة الإبادة الجماعيّة أداما دينغ قائلًا: “إنّ معالجة مسألة خطاب الكراهيّة لا تعني الحدّ من حرّيّة الرأي والتعبير أو منعها، إنّما تعني منع هذا الخطاب من التحوّل إلى ما هو أخطر، لا سيّما التحريض على التمييز والعدائيّة والعنف الذي يحظّره القانون الدوليّ”.

لذا، تعمل الأمم المتّحدة لتحقيق هدفها المطلق الذي يتمثّل بمنع خطاب الكراهيّة والتصدّي له على المستوى العالميّ بالتعاون مع الحكومات والمجتمع المدنيّ والقطاع الخاص. ومن هنا ضرورة توعية الجمهور باحترام التعدّديّة وإبراز الأسس الزائفة له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى