أيلول شهر المناحة على أيّامنا المهدورة

أيلول المبلول بأحزاننا، ليس رومانسيًّا كما في “طيور” أيلول لامِلي نصرالله، وليس أصفرَ كما في أغاني فيروز التي تمنح البهجة في أشدّ المواقف حنينًا ووحدة.

يُبكينا أيلولْ

“بيصير يبكّيني شتي أيلول.. يفيّقني عليك يا حبيبي…” يترنّم صوت فيروز الحزين في تردُداتٍ كالصدى البعيد، أيلول المفتوح على جراحاتنا، على عيوننا المغمّضة قسرًا، على أصابعنا المبتورة قهرًا، على أطرافنا المقضومة، على وجوهنا المزروعة بالرصاص وعلى قلوبنا المفجوعة، وحياتنا المشرّعة أمام ذكاء آلاتهم الغادرة..

أيلول الذي أحال بياض أيامِنا سوادًا، بدماء كثيرة أُريقت عن وجع حقّ، وحيث القتل والعشوائيّة المُمتازة، وحيثُ العدوّ المتربّص بنا شرًّا، السارق زيتوننا، والمُفسِدُ في أرضنا، الواقفِ لنا هناك عند الخطّ الفاصل بين الجرح والجرح.. المُستبيح أماكننا، القاهر أطفالنا، الذي ينكأُ في جراحنا ويميتُ قلوبنا فقدًا!

حتّى غُربة الروح

أيلول ذكرياتُ النزوح والهجرة القسريّة من القلب حتّى غُربة الروح، نزحنا في بلادٍ كثيرة، وتلك أيّام ثقال كانت، أورثتنا الهمّ والتعب، أيامٌ يتداولُ علقمها أهلُ غزّة بلا توقّفٍ وكأنّ المصائب هاجرت من كلّ أصقاع الأرض وسكنت غزّة، تغزل من عوسجها شالًا مفخّخًا بالبؤس البشريّ..

فهل من معجزة.. هل من سلام؟ وهل تتبخّر رائحة الدمّ وتُدفن الأشلاء وكأنّها ما كانت أجسادًا لأناس يتحرّكون ويعيشون بأسماء كثيرة؟!

“أتنسى ردائي الملطّخ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثيابًا
مطرّزة بالقصب؟
إنّها الحرب!
قد تُثقل القلب..
لكنّ خلفك عار العرب..
لا تصالح
ولا تتوخّ الهرب!”

أيُّ مناحةٍ هذه؟

يذكر “أحمد محمود جبر الشريدة” في مقالة عن شهر أيلول في الموروث الجمعيّ في  المشرق العربيّ: “أيلول كلمة آراميّة سريانيّة يقابلها في العربيّة كلمة “ول” بمعنى الصراخ والعويل وتقام في هذا الشهر المناحة على الإله تمّوز…”.

فأيُّ مناحةٍ هذه يا أيلول؟ ومن أين نبدأ؟ أمن غزّة حيث العالم يتفرّج ويذرف الدموع والغضب بأيقونات كثيرة، ثمّ يتخطّى المشهد ليرسل وجهه ضاحكًا على مشهد كوميديّ تنسجه الآلة نفسها في عالم موازٍ آخر من عالمنا؟

أمّ من الجنوب حيثُ الدمار يعزف على وتر نشاز الوطن، وحيث التراب اتّسع لأهل الأرض، فاستكانوا في جوفه، رحلة الشتاء والصيف.. فما غابوا حتّى حضروا.. ولسانُ حالهم “شو همّ نموت يمّي وتبقى القضيّة!”؛ وحيث أزيز المحلّقة يلاحقنا حتّى المنام الأخير.. ولا ننام، هي البلاد؟!  وشو بدّك بالبلاد الله يخلّي الولاد.. يا أيلول!

النزوح الكبير من الجنوب بعد توسّع الحرب في 23 أيلول العام 2024
ليش عابسة؟

أُقلّب وجهي في السماء، أيلول جاء هذا العام سليل حرب غير مُعلنة، وجه السماء متبلّد ومُتجهّم.. وصوت إيليا بو ماضي “يكفي التجهّم في السما” غريب ومثير للتجهُّم أكثر؟

لم تعش زمننا يا وطن النجوم من أنا؟! كُنتَ قانعًا بطينك، أم حيلة الشعراء وهم يتفصحنون وتأتيهم الحكمة بياتًا وهم شاردون؟

تسألني امرأة لمّا وجهي يطغى عليه العبوس، فأضحك ضحكة فاجرة، ثمّ أهدأ لأقول: أرجو أن تكون قد أسعدتكِ ابتسامتي؟ فتترك فاهها مفتوحًا على الفراغ وتهرب إلى لا أين!

تبًّا للأسئلة التي لا داعيَ لها.

أيلول يا أيلول، الجوّ حار وباردٌ أيضًا، الغيوم  كسلى في تتبّع مسار بؤسها، لا تمطر ولا تنفرج ! والجوّ لا يعطيك إذنًا لتُقرّر ماذا تشعر الآن؟

ربّما أصدق شعور قول محمود درويش: لا شيء يعجبني .. أريد أن أبكي؟

وأظنّ كثيرين يريدون ذلك، ولكن يبدو البكاء فعل بلاهةِ في عالم منصاع لا يرى في نهر الدمّ االسائل من جراحنا ما يستدعي التوقّف والمحاسبة؟

ماذا زرعنا؟

وهو شهر الحصاد وشهر الطيور المهاجرة.. وشهر تقلّبت فيه أحوالنا، فلا اعتدال بل حربٌ ضروس أكلت اخضرار أرضنا وأحالت مناطق بأكملها يبابًا بلا حياة..

ماذا زرعنا حتّى نحصد كلّ هذا الموت؟

ليس عاديًّا أن تمرّ الأيّام مرورًا عابرًا، وأن يبقى منّا من هم خارج بيوتهم، وخارج أرضهم، أن يسرح العدوّ ويمرح فوق التراب، وجثث وأشلاء من قاوم وقاتل حتّى النفس الأخير رمادًا تحت التراب! ليس عاديًّا أن نترقّب سكوت المحلّقة ونراقب في صمت صارخ المنشورات الإخباريّة، ونتساءل: من التالي؟ من يُنقذ شبابنا وآباءنا وإخواننا وأبناءنا من مزاجيّتهم السوداء من القتل بلا رحمة؟

أن تنتهي كلّ القصص وكأنّ صاحبها لم يكن، وأن يصبح موتنا عادة، ونجاتنا منه سعادة موقّتة..

“يا ريت الريح..” تأخذ كلّ تلويحات الوداع، يا ليتها تحمل معها عبق الأحبّة الذين رحلوا في أيلول، يا ليتها تطوي صفحة أيلول على خبر يُثلج القلوب، يا ليتها تدقّ أبواب الإنسانيّة وتوقظُ الضمائر النائمة من سُباتها الملعون، يا ليتها توقظُ ما خبا فينا من أمل.. ويا ليتها توقفُ جنون الموت وهو يحصد الأرواح بلا رحمة، وتعدم القتَلةَ من وجودنا، حيثُ ينتهي كلّ هذا الخراب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى