“أيّامُ الماعز” بين السينما والرواية ومعايير السّوق

أخيرًا، وبعد انتظار دام 14 عامًا، منذ إعلان السيناريست والمخرج الهنديّ “بلاسي ايبي توماس” المعروف باسم “بلاسي” العام 2010 بدأ العمل على إنتاج فيلم روائيّ مبنيّ على رواية “أيام الماعز– آدوجيفيثام” للكاتب الهنديّ “بيني دانييل” المعروف باسم “بنيامين”، المبنيّة بدورها على قصّة حقيقيّة، والصادرة باللغة المالاياميّة (إحدى اللغات المحلّيّة في جنوب الهند) سنة 2008، حيث أعيد طبعُها بلغتها الأصليّة أكثر من مئة مرّة حتّى الآن. ونالت شهرة واسعة فتُرجِمَت إلى لغات مختلفة منها العربيّة والإنكليزيّة ورُشّحت لجوائز عديدة، صدر الفيلم الموعود تحت اسم “حياة الماعز –The Goat Life” بإنتاج دوليّ مُشترك ضمّ شركات أميركيّة وهنديّة، وهو من كتابة وإخراج “بلاسي” الذي شارك في إنتاجه أيضًا.

وكما كان متوقّعًا، أثار الفيلم -الذي عرضته “Netflix” على منصّتها بعد عرضه في السينما- عاصفةً من الجدل والآراء المتباينة، لكونه يناقش في 173 دقيقة قضيّة نظام الكفالة المعمول به في عدد من الدول العربيّة (منها لبنان) وأوضاع العمّال الأجانب -الهنود تحديدًا- في دول الخليج العربيّ، فاتُّهِم من جهة بنقل صورة مبالغ فيها وممارسة عنصريّة مبطّنة تجاه العرب، وحصل بالمقابل على تقييمات جيّدة من المشاهدين والنقّاد )7.2 على IMDB و 7.5 على Rotten Tomatoes).

بصرف النّظر عن كلِّ هذا، تعالج هذه المادّة الفيلم من وجهة نظر فنيّة بحتة دون الخوض في الإشكاليّة التي طرحها سلبًا أو إيجابًا إلّا من حيث ارتباطها بالقيمة الفنّيّة للعمل.

سفر نحو العذاب

تبدأ القصّة من ولاية كيرالا جنوب الهند، يرهن بطل الفيلم “نجيب” (بريثفيراج سوكوماران) – وهو شاب بسيط شبه أمّيّ- منزله المتواضع في القرية، ويترك والدته (شوبه موهان) وزوجته الحامل “ساينو” (أمالا بول) ليسافر بعد أن حصل -عن طريق أحد المعارف ومقابل 30 ألف روبيّة- على تأشيرة عمل في شركة ما بالمملكة العربيّة السعوديّة، يرافقه في رحلته شاب يُدعى “حكيم” (كي آر غوكول).

ما إن يصلا إلى وجهتهما في العاصمة السعوديّة حتّى يصطدما بجدار اللغة، فبعد أن تجاوزا بسلاسةٍ إجراءات الدخول لم يجدا كفيلهما بانتظارهما، وكلاهما لا يتكلّمان سوى المالاياميّة ولا يفهمان شيئا من العربيّة، ما يقف عائقًا دون تواصلهما مع أحد في هذه الأرض الغريبة. وبينما هما تائهان في المطار ينتظران كفيلهما المفترض، يقترب منهما كهلٌ سعوديٌّ (طالب البلوشي) يسألهما بالعربيّة إن كان أحدهما يُدعى “عبدالله” ويذهب، يشيران بالمالاياميّة إلى رائحته النتنة ويطلق “حكيم” تعليقًا عنصريًّا.

ثم لا يلبث الكفيل أن يعود ويأخذ منهما جوازيّ السّفر ويسير باتجاه سيارته (بيك ابّ) مركونة خارجًا، فيتبعانه معتقدين أنّه كفيلهما المنتظر، يحاولان الجلوس قربه في مقدّم السيّارة، فينهرهما ويأمرهما بالجلوس في الخلف، أيّ في مقطورة البيك ابّ، ومن هنا تبدأ رحلة “اختطافهما” إلى صحراء الربع الخالي، إذ يفرّق “الكفيل/ الخاطف” بين الصّديقين ويتركُ “نجيب” لدى “جاسر” (ريك آبي) في مزرعة للماشية حيث يلتقي هنديًّا آخر (يُدعى في الرواية الشبح الرهيب) يبدو أنّه قضى أعوامًا طويلة هناك حتّى نسي اسمه.

من هنا تبدأ رحلة “اختطافهما” إلى صحراء الربع الخالي، إذ يفرّق “الكفيل/ الخاطف” بين الصّديقين ويتركُ “نجيب” لدى “جاسر” في مزرعة للماشية حيث يلتقي هنديًّا آخر يبدو أنّه قضى أعوامًا طويلة هناك حتّى نسي اسمه.

شبح بين الأغنام

يعيش “نجيب” حياة العبوديّة في الصحراء، سجنٌ مفتوحٌ يحتاج لمعجزة كي يخرج منه، يستسلم- بعد محاولاتٍ عابثةٍ لاستعطاف سجّانيه- لواقعه الجديد؛ يرعى ماشية “الكفيل” الذي مزّق جواز سفره وأوراق استقدامه، يأكل القليل وينام في العراء ولا يستحم، هذا فضلًا عن العمل الشّاق والتعنيف اللفظيّ والجسديّ من “الكفيل” و”جاسر”، يستعيد في عذاباته تلك ذكريات أيامه الجميلة في الهند مع “ساينو”، كان غوّاصًا يجمع الرمال من قاع النهر، لكنّه ترك كلّ هذا وعلق في الصحراء مع هذه الأغنام.

في رحلة تأقلمه مع واقعه يتحوّل “نجيب” لواحدٍ من الماشية التي يرعاها، يخسر وزنه ويتغيّر مظهره بشكل دراماتيكيّ ليصبح شبيهًا بالشبح الذي التقاه في يومه الأوّل قبل أن يختفي في ظروف غامضة. يحاول الهرب مرات عدّة دون جدوى، ثمَّ يلتقي صدفةً بصديقه “حكيم” الذي يخبره بأنّه يعيش تجربةً مشابهة في مزرعةٍ قريبة، ويضيف بأن عاملًا أفريقيًّا عارفًا بالطرق يُدعى إبراهيم (جيمي جان- لويس) قد وصل حديثًا إلى المزرعة، ويمكنه مساعدتهما في وضع خطّة للهروب عبر الصحراء.

يستغل الثلاثة غياب الكفيل وعمّاله في ليلة مظلمة فيهربون سيرًا على الأقدام، لتبدأ رحلة طويلةٌ وجنونيّة، يصل في آخرها “نجيب” وحيدًا إلى خلاصه فيما تبتلع الصحراء مرافقيه.

بين الفيلم والرواية

مقارنةً بالرّواية الأصليّة الصّادرة بالعربيّة (ترجمة سهيل الوافي) عن دار مكتبة آفاق العام 2015 بعنوان “أيّام الماعز”، يبدو الفيلم مختزلًا وفقيرًا على رغم طوله، أكثر من 3 ساعات لم يقدّم فيها أفضل ما في الرّواية ولا ناهز العمق الذي نفذت إليه، فبدا مُنتَجًا مسطّحًا غارقًا بالاستعطاف الصّريح جاهزًا للاستهلاك السّريع، لا يترك مساحةً للتّأويلِ أو إعادة القراءة، إلّا بضع كبسولاتٍ دلاليّةٍ مفتعلةٍ موزّعة في مساحته الشّاسعة.

رواية “أيام الماعز”

وإن كان الفيلم لا يعدُّ طويلًا بمعايير سينما جنوب الهند التي لم يبتعد عنها كثيرًا، فقد كان بإمكانه أن يقتبس من الرواية مشاهد حسيّة مؤثّرة تغني عن التأوّهات والبكائيّات، كمشهد ولادة جديٍ سمّاه البطل “نبيل” على اسم ابنه المفترض الذي ترك زوجته حاملًا به، أو مشهد تفكيره بقتل الكفيل حين واتته فرصة لذلك قبل أن يتراجع بعد موقفٍ عاطفيٍّ ساذج.

وإن كانت الرواية تظهر “نجيب” كشخصٍ بسيطٍ ومسالم، فإنّ الفيلم قدّمه بصورة أقرب إلى السذاجة والسّطحيّة، هذا لأنّه لم يؤسّس بشكلٍ واضحٍ لبنية الشخصيّة النفسيّة، ولم يظهر لنا من ماضيه إلّا أيّامًا سعيدة طافحة بالموسيقى المبهجة، حتّى يكاد المشاهد يشعر أنّه ترك الجنّة بطرًا واختار الجحيم.

فيلم بشخصيّات “كرتونيّة”

يقدّم المخرج الثنائيّات بصورةٍ حادّة وفجّة، لا نعرف عن خصمي البطل “الكفيل/ جاسر” إلّا أنّهما شرّيران قاسيان لئيمان برائحة نتنة، ولا عن السّعوديّة إلّا أنّها حارّة وجافّة ومعظم مواطنيها أشرار، حتّى المواطن الطيّب الذي أقلّ “نجيب” بسيّارته من الصّحراء بعد رحلته الخطرة، والذي يهدف وجوده هنا لكسر التنميط، بدا نمطيًّا ومفتعلًا وباردًا، وبالمجمل فلم يؤسّس المخرج لأيٍّ من الشّخصيّات بصورةٍ صحيحة، فبدت كرتونيّةً تتصرّف بصورةٍ آليّةٍ ومريبة.

الحوارات في “حياة الماعز” قليلةٌ وركيكةٌ غالبًا، وهذا قد يكون مبرّرًا من جهة أنّه لا يعتمد على الحوارات في طريقة السّرد، فيما تميّز الفيلم على مستوى الصّورة والألوان والإضاءة والمكياج، وأضافت موسيقى “أي. آر. رحمان” التّصويريّة– على رغم طول المقاطع وسوء توظيفها أحيانا- لمسةً جماليّة للصّورة والقصّة، ولا بدَّ من الإشادة بالممثّل “بريثفيراج سوكوماران” الذي أدّى شخصيّة نجيب بإخلاصٍ وتفانٍ شابهُ بعض افتعال بدا تحديدًا في المشاهد الأخيرة من رحلة الصّحراء.

بالعموم، فإن 14 سنة من العمل على روايةٍ جميلة كأيّام الماعز، كان يُفترض أن تنتج فيلمًا أفضل من هذا بكثير، ويبدو أنَّ المخرج انحاز لمعايير النَّجاح التّجاريّ أكثر من القيمة الفنّيّة للعمل، ولا بدَّ من القول إنَّه حقّق نجاحًا باهرًا حسب هذه المعايير.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى