“أيّام الخيام” مسرح السبعينيات يتردّد صداه اليوم

“إسّا، مفكّرين إنّو نحنا مبسوطين بالقعدة ببيروت، ها؟! ريتو يقبر شعر لحاهن… هالبيت، ليش ما هدّوه؟! ليش تركوا فيه حجر ع حجر؟!”.

بهذه الصرخة، يُجسّد “أبو خليل” في مسرحيّة “أيّام الخيام” ذروة القهر الجنوبيّ. رجلٌ أفنى حياته مغتربًا في الكويت ليبني بيتًا في قريته الخيام، قبل أن يأتي الاحتلال الإسرائيليّ في العام 1978 ويدمّر كلّ شيء، البيت، الأرض، والطمأنينة. ولا ندري إن كان أبو خليل لا يزال حيًّا يُرزق، أم غادر هذه الدنيا، ليخبر من جديد أنّ بيوت الخيام عادت وهُدمت أكثر من مرّة، كان أكثرها قساوة ودمويّة ما حلّ بها في الحرب الأخيرة.

يمتدّ نص مسرحية “أيّام الخيام” التي جالت في مناطق عدّة بدءًا من أواخر السبعينيّات وحتّى منتصف الثمانينيّات على رقعة الجنوب بأكمله، كاشفًا عن مشهد ثقافيّ غنيّ بالدلالات. يعكس النصّ حياةً ريفيّة بسيطة، تحمل في بساطتها الفطريّة عمقًا وجدانيًّا، وتستحضر تفاصيل الحياة سبعينيّات القرن الماضي في بلدة الخيام الحدوديّة، بكلّ ما فيها من دفء وانتماء. في المقابل، لا يغفل النص عن معاناة التهجير القسريّ إلى حيّ السلّم في ضاحية بيروت الجنوبيّة، حيث يتقاطع الحنين مع القهر، وتتشابك الذاكرة مع واقع لا يشبهها.

هذه المسرحية هي واحدة من تجارب المخرج اللبنانيّ روجيه عسّاف، الذي أسّس مع مجموعة من المسرحيّين والناس “فرقة الحكواتيّ”. كانت الوجهة آنذاك الجنوب، ومنه استُلهمت الحكايات؛ حكايا الريف الجنوبيّ بثقافته الغنيّة وصموده المتجذّر، بفقره وغناه، بحضوره المقاوم رغم التهميش المزمن.

فالجنوب، كما قدّمته أعمال الفرقة، لم يكن مجرّد مساحة جغرافية، بل ذاكرة حية لأرضٍ قاومت، وأُهملت، في آنٍ واحد. عقود من الإهمال الرسمي لم تُضعف حضوره، بل زادت من إصرار أبنائه على أن يُرووا قصّتهم بأنفسهم، فوق خشبة المسرح.

فرقة الحكواتيّ والجنوب

في كتابه “أقول يا سادة: تجربة الحكواتيّ من التقليد إلى الحداثة”، الصادر عن دار الآداب العام 2007، يستفيض الكاتب والمسرحيّ عبيدو باشا-  أحد الأعضاء المؤسّسين لفرقة الحكواتيّ والمشاركين فيها إلى جانب المخرج روجيه عسّاف- في عرض تجربة الفرقة منذ نشأتها حتّى أفولها.

بلغة سرديّة ونقديّة جزلة، وبأسلوب تتداخل فيه الفقرات والأفكار، الحكي والتأريخ، يوثّق باشا سيرة فرقة كانت تنسج حكايتها من قلب المدينة والجنوب، ومن الهامش اللبنانيّ بكلّ ثقله الرمزيّ والاجتماعيّ.

من البذرة إلى البيان

يبدأ باشا تأريخه من لحظة التأسيس، حين اجتمع الأعضاء في قبوٍ تحوّل إلى ملاذ وبداية: “بدأ أبطال الفرقة في ذلك القبو، بملامحهم المتحرّكة في ظلّ الاشتعال الدائم للشمع في زوايا الملجأ… بدأت التجربة في ملجأ المبنى المرتفع في وطى المصيطبة. بدأ روجيه يميل إلى الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى”.

يعود تأريخ البداية الفعليّة لتلك الرحلة التجريبيّة إلى العام 1972–1973، حين تشكّلت الملامح الأولى لما سيُعرف لاحقًا بـ “فرقة الحكواتيّ”. أمّا الإعلان الرسميّ عن انطلاقتها، فجاء في العام 1979 عبر بيان الفرقة الذي حدّد رؤيتها وأهدافها.

باشا: بدأ أبطال الفرقة في ذلك القبو، بملامحهم المتحرّكة في ظلّ الاشتعال الدائم للشمع في زوايا الملجأ

تكوّنت الفرقة من مجموعة من الممثلين وطلّاب الجامعة في اختصاص الفنون المسرحيّة، يقودهم المخرج روجيه عسّاف نحو فكرة مسرح مختلف، مدفوعين بشغفهم وافتتانهم بالتجربة؛ هم: أسامة شعبان، حاكمة أبو علي، حنان الحاج علي، حسين سبيتي، رفيق علي أحمد، عبيدو باشا، سليم بدير، عايدة صبرا، علي كلش، كميل فرحات، ومحمد الضوّ.

كانت تلك تجربة الانسلاخ عن المسرح السائد، والخروج من عباءة الرؤية الغربيّة، لصناعة مسرحٍ محليّ بلغة محلّيّة خالصة، مسرح يعكس الناس لا يتعالى عليهم. أمّا أبطاله فليسوا فلاسفة أو مفكّرين غارقين في أزمات وجوديّة، بل أناسٌ عاديّون، يمثّلون فئةً مجتمعيّة تُنتج الحياة والثقافة بفطرتها الأولى، ويصعدون إلى الخشبة بوصفهم صوت الناس لا صدى لأفكار نخبويّة.

حكايات الجنوب إلى الخشبة

يقول عبيدو باشا في كتابه: “رُحنا نكتب سِيَرنا في بحثنا عن التاريخ. استطعنا، بمحدوديّة العدد والعدّة، السير في ضربات خاطفة إلى الجنوب، بالتركيز على الإحباط المكتوم لدى أهله هناك. هؤلاء من فشل نظامهم والأنظمة الأخرى في تعليمهم وتوظيفهم أو تأمين متطلّباتهم الأوّليّة”.

كان الجنوب هو الوجهة والمقصد. راحت الفرقة تبحث عن الحكايا فيه، وفي ضواحي بيروت حيث استقرّ مُهجّرون جنوبيّون. هناك، تمّ إشراك أبناء الجنوب أنفسهم في بناء المسرحيّات، فجاءت أعمالٌ مثل: “حكايات الـ 36″، “بالعِبر والإبر”، و”أيّام الخيام”.

امتلأت سلال الفرقة بالحكايات الحقيقيّة، المنقولة من أفواه الناس لا من الكتب. يقول باشا: “استطعنا أن نقنع فئات وطبقات اجتماعيّة بالتعاون معنا. حمل بعضنا آلات تسجيل، وأوراقًا، وأقلامًا…”.

عمل يحتاج لأنبياء

في حديثٍ إلى “مناطق نت”، يستعيد عبيدو باشا تلك المرحلة قائلًا: “قدّمت مع المجموعة ثلاث مسرحيّات، كنت أساسيًّا في “حكايات الـ 36″، ومنها إلى “أيّام الخيام” التي شكّلت تحدّيًا. فقد غادر كثيرون الفرقة، بحجّة أنّ هذا العمل يحتاج لأنبياء، لا لممثّلين عاديّين في المسرح، فهو يتطلّب تفرّغًا مجّانيًّا، من دون أيّ مقابل. كنت أعتبر العلاقة بالفرقة علاقة بالحياة”.

يروي باشا عن روجيه عسّاف، الذي كان أستاذهم في معهد الفنون الجميلة، حيث درّسهم الموادّ النظريّة، لكنّ “المادّة العمليّة الحقيقيّة” كما يصفها، كانت حين انخرطوا فعليًّا في العمل على مسرحيّة “أيّام الخيام” خلال ثمانينيّات القرن الماضي.

كانت هناك تقنيّات عمل خاصّة، ونصّ يستند إلى أصوات الناس الحقيقيّين، إلى أبطال الأحداث أنفسهم، من قلب مدينة الخيام، في ظلّ الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة.

من القبو إلى الجنوب

في أحد فصول كتابه، يصف عبيدو باشا بسخريةٍ شفّافة مشهد تجهيزات المسرح داخل الملجأ، فيقول: “الديكورات منعوفة في توزّع شبه عشوائيّ على حيطان الملجأ أو القبو. الشاحنة خارجًا تنتظر رحلتها إلى قرية من قرى الجنوب اللبناني”.

على رغم بساطة الوسائل، استطاعت الفرقة إنجاز مسرحيّة “بالعبر والإبر – حكاية أبو كامل” في العام 1976، بروحٍ مسرحيّة مختلفة. صيغت بتصوّرات جماعيّة وديكورات وظيفيّة، لا تسعى إلى التجميل بل تُحدّد موقعها في الأداء من خلال وظائف محدّدة تنبع من الواقع لا من الخيال، وكأنّ الخشبة امتداد طبيعيّ لحياة القبو أو طريق الجنوب.

بين الهامش والسيادة

يرى باشا أنّ اللغة تتحمّل مسؤوليّة غامضة، مباشرة وغير مباشرة، في تقدّم المجتمعات أو تدهورها.

في فصل خاص عن علاقة المسرح باللغة، يناقش ما اصطلح على تسميته بـ “لغة الجنوب والمسرحة”- أي لهجة الجنوبيّين، لكنتهم، مفرداتهم اليوميّة- التي تحوّلت على يد فرقة الحكواتيّ إلى أداة للتعبير المسرحيّ لا تقلّ شأنًا عن اللغة الفصحى أو اللغة الأكّاديميّة.

يقول باشا: “صار الجنوب معيارًا من معايير المسرح لدى فرقة الحكواتيّ. صار رؤيةً وأسلوبًا يكتشف فيه المسرحيّون والناس هويّاتهم المؤجّلة واستقلالهم المفقود…”.

قدّمت الحكواتيّ فكرًا تحريريًّا تغييريًّا غير فضفاض، قادرًا على احتواء كلّ ما هو مهمّش. وبفضل هذه الرؤية، لم تعد لغة أهل الجنوب لغة كاريكاتيريّة أو تهكّميّة، بل تحوّلت إلى لغة ذات سيادة، لغة مسرحيّة رئيسة تحمل هموم الناس وتعابيرهم اليوميّة بكلّ ما فيها من عمق وحقيقة.

مجزرة الخيام: جرح أنطق الخشبة

يشير عبيدو باشا إلى أن مسرحيّة “أيّام الخيام” لم تكن نتاجًا عابرًا، بل ثمرة مسار طويل بدأت ملامحه تتشكّل مع مشروع التخرّج الذي قدّمه رفيق علي أحمد في معهد الفنون الجميلة تحت عنوان “حكواتيّ من جبل عامل”.

من مسرحية أيام الخيام (أرشيف جريدة السفير)

من هنا، قادت الحكاية الشخصيّة إلى المسرح الجماعيّ، وساهمت في تشكيل معمار النصّ الذي ستشتغل عليه فرقة الحكواتيّ لاحقًا.

يروي باشا تفاصيل مأساة الحجّ محمّد علوان، الذي اضطرّ إلى مغادرة قريته الخيام تحت سحب القذائف المدفعيّة الإسرائيليّة، بناءً على إلحاح أولاده المقيمين في بيروت.

“ترك رفاقه العجائز في الخيام واستقرّ في الضاحية… ثمّ جاءته أخبار المجزرة الجماعيّة، حيث أجهزت قوات الاحتلال الإسرائيليّ وقوّات سعد حداد على كلّ “مجايليه” من العجائز في ملجأ القرية الحدوديّة” يقول باشا.

هذه الحادثة قلبت حياة الرجل رأسًا على عقب. لم يعد يحتمل العيش في حيّ السلم، ومُنع من العودة إلى قريته. إلى أن وُجد يومًا جثّة طافية فوق صخور بحر بيروت، في مشهد صارخ الدلالة.

“الحجّ جابر” أساس ببناء الدراما

أمّا الحجّ جابر، الناجي الوحيد من المجزرة، فكان مفتاحًا حيًّا لذاكرة الجريمة. “بحثنا عنه بالسراج والفتيلة حتّى وجدناه. قادنا أحدهم إلى ابنه الحلّاق”.

اللقاء بالحجّ جابر، كما يروي باشا، لم يكن مجرّد رواية شفهيّة بل حدثًا مسرحيًّا بحدّ ذاته. فقد “خصّب” أحداث “أيّام الخيام”، وأضاف إليها شروطًا معرفيّة وثقافيّة جديدة، لأنّ ذاكرته كانت ذاكرة جيلٍ بأكمله.

لاقت المسرحيّة عند عرضها في أوروبّا دهشة النقّاد والجمهور، لما حملته من بساطة في التقديم، وعمق في المعنى

يرى باشا أنّ المجزرة لم تكن فقط إبادة جماعيّة، بل قتلًا لذاكرة الجنوب العميقة، ذاكرة العجائز الذين حفظوا الحكايات. كان اسم الحاجّ جابر هو المدخل إلى فهم تلك الأحداث، إذ حاول الإسرائيليّون عبر السماح لناجٍ واحد فقط أن يبقى حيًّا تحميله رسالة ردعيّة واضحة: لا عودة إلى الخيام، لا عودة إلى الذاكرة.

ولادة أسلوب لبنانيّ

في هذه المرحلة، كما يشير عبيدو باشا، بدأت الفرقة بالتحرّر فعليًّا من النموذج الأوروبّيّ، بخاصّة البريشتيّة التقليديّة وتقنيّة “التغريب”، وكذلك من التأثّر بـبّوشكين.

يقول: “كنّا قد بدأنا فعليًّا بالخروج من البريشتيّة، من التغريب التقليديّ، ومن التأثّر ببّوشكين، ونحن نطوّر التجربة من خلال إيماننا بتقنيّات السهرة الشعبيّة، الحكواتيّ الراوي الذي يُمسك السهرة من دون أن يكلّفه أحد”.

استعادت الفرقة روح الحكواتيّ الشعبيّ، ذاك الذي يُضحك، ويُغنّي، ويرقص، ويأسر الحضور بالحكاية والتشويق والأسئلة، دون الحاجة إلى وسائط معقّدة أو تنظير أكّاديميّ.

وقد لاقت المسرحيّة عند عرضها في أوروبّا دهشة النقّاد والجمهور، لما حملته من بساطة في التقديم، وعمق في المعنى، في عمل لا يشبه ما اعتاده المسرح الأوروبّي، بل جاء بصوت الناس، ومن نسيج التجربة اللبنانيّة الصافية.

من الدراسة إلى خشبة “أيّام الخيام”

تتذكّر الممثلة والمخرجة اللبنانيّة عايدة صبرا أنّ مسرحيّة “أيّام الخيام” كانت قد عُرضت قبل الاجتياح الإسرائيليّ في العام 1982، وقد شاهدتها حين كانت طالبة في المدرسة. وفي سنتها الجامعيّة الأولى في معهد الفنون الجميلة، اختارها أستاذها روجيه عسّاف لتحلّ مكان ممثّلتين انسحبتا من العرض، وكان ذلك في العام 1984.

الممثلة اللبنانية عايدة صبرا

تصف صبرا تلك التجربة بـ”المهمّة”، متمنّية لو كانت قد شاركت في الفرقة قبل ذلك، لما عرفته لاحقًا عن طبيعة عمل فرقة الحكواتيّ، التي كانت تقوم على تأليف القصص جماعيًّا، ومقابلة الناس، ثمّ إعادة صياغة تلك القصص ومسرحتها كجهد جماعيّ حقيقيّ.

وعن تحدّي الأداء باللهجة الجنوبيّة، تُشير صبرا إلى أنّ والدتها من النبطيّة، وقد حملت هذه اللهجة معها إلى بيروت. لذلك، لم تجد صعوبة تُذكر في تقمّصها على المسرح، إذ كانت تنتمي إليها وجدانيًّا، لا تمثيليًّا وحسب.

حيّ السلم ليس كالجنوب

في العرض، برزت شخصيّة صبرا كجزء من مشهد جماعيّ يُجسّد مجموعة من الجنوبيّين الذين غادروا الخيام في اجتياح 1978، وانتقلوا إلى حيّ السلم في بيروت.

يُظهِر المشهد التناقض الحاد بين فساحة البيوت في الجنوب وضيق المساحات في المدينة، وبين العلاقات الاجتماعيّة المفتوحة في القرى، وطبيعة الحياة المنغلقة نسبيًّا في الضاحية.

تتحدّث صبرا عن مشاركتها في “أيّام الخيام” أنّها لم تكن مجرّد تجربة مسرحيّة، بل قضيّة شعرت أنّها معنيّة بها بشكل شخصيّ، “كون والدتي من النبطية، وكنت على معرفة بأوجاع الجنوبيّين ومظلوميّتهم في ظلّ الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة. وشعرت بأنّ من المهمّ نقل القضيّة إلى الناس، ففي بيروت هناك كثير ممّن لم يكونوا على اطّلاع بما كان يحدث في الجنوب” تقول صبرا.

اللعب جوهر تجربة الحكواتيّ

هذا التوجّه الشخصيّ، التقت به صبرا مع رؤية فرقة الحكواتيّ، كما يشرحها عبيدو باشا، إذ لم يكن المسرح لديهم قائمًا على التقمّص الأحّاديّ للشخصيّات، بل على تبادل الأدوار والتركيز على جوهر المسرح: اللعب.

“كنّا نتبادل الشخصيّات، وكان هناك شرط أساسيّ يقوم على التركيز على مبدأ اللعب (jeux)، لأنّ المسرح هو لعب. وليس أن نهجم على الناس ونُجبرهم على إفهام ما نعرضه” يقول باشا.

كانت المتعة شرطًا جوهريًّا في العمل المسرحيّ، لا ترفًا، بل ضرورة لنقل الشعور إلى الجمهور. “كنّا مؤمنين بقضيّة: إن لم يكن بإمكاننا إمتاع أنفسنا، فلن ننقل هذه المتعة إلى المتفرّجين. والمتعة هي غرض مهمّ وجزء أساسيّ، وهو مفتقد للأسف في المرحلة الراهنة من المسرح”.

الحجّ آمين ذاكرة الجيوش الخاسرة

وفي هذا السياق، يروي باشا أنّه لعب دور الحجّ آمين، أحد ضبّاط جيش الإنقاذ، الذين شاركوا في محاولة تحرير فلسطين في أربعينيّات القرن الماضي، وانتهوا بهزيمة جماعيّة مع الأنظمة العربيّة.

هذا الدور، المحمّل بخيبة وطنيّة تاريخيّة، لم يكن مجرّد استذكار، بل مرآة لذاكرة الهزائم والتخلّي عن الجنوب، وكيف تكوّنت طبقة اجتماعيّة مشبّعة بالخذلان الوطنيّ، وعالقة في صراعها بين المقاومة والانكسار.

المسرح الحيّ والحكاية

يشرح عبيدو باشا كيف كانت المسرحيّة تتطوّر خلال العروض نفسها، إذ خضعت بعض المشاهد للاختبار أمام الجمهور، ما أدّى إلى الاستغناء عن أجزاء، وتوسيع مشاهد أخرى أو إضافة تفاصيل جديدة لم تكن موجودة في النصّ الأصليّ. “كنا نضطرّ إلى الاستغناء عن بعض المشاهد، وكنّا مضطرّين إلى تطوير بعض المشاهد، وأن نزيد فيها تفاصيل لم تكن موجودة. الراوي هو الشخص الذي يؤدّي في المسرحيّة؛ محمّد محمّد، ورفيق رفيق، وعبيدو عبيدو، وحنان حنان… كنّا نروي للناس جزءًا من الحكاية”.

من أبرز التحوّلات التي قادتها “أيّام الخيام” كانت استبدال المنصّة التقليديّة بالصالة ومدخل المسرح، حيث تمّ كسر الحاجز بين الممثّل والمتفرّج. “لم تعد المنصّة تشكّل مكانًا رئيسًا للعرض. أصبح ثلاثة أرباع العمل في الصالة، وإذا اضطررنا إلى لعب مشهد من المشاهد، نصعد إلى المنصّة”.

بهذا الشكل، أصبح الجمهور شريكًا عضويًّا في العمل المسرحيّ، لا مجرّد متلقٍّ سلبيّ، واستعاد المسرح بذلك جوهره الشعبيّ، الذي يُشبه المجالس والسهرات أكثر ممّا يُشبه المسارح الكلاسيكيّة.

انتهت المسرحيّة في لحظةٍ سياسيّة عنيفة، لا كمشروع فنّيّ وحسب بل كحالة جماعيّة، حلمت بأن يكون المسرح صوتًا للناس وذاكرتهم.

من الجنوب إلى العالم

استمرّت عروض المسرحيّة سبع إلى ثماني سنوات بشكل متقطّع، وجالت على مناطق عدّة في لبنان، كذلك عُرضت في دمشق بعد مشاركتها في أيّام قرطاج المسرحيّة، وانتقلت إلى أوروبّا، حاملةً معها حكايات الجنوب وذاكرة المجازر، بلغة محلّيّة وأداء بسيط وعميق، استطاع أن يخترق حدود المكان والثقافة.

يقول عبيدو باشا بمرارة: “أطاح الإسرائيليّ أيّام الخيام، اجتثّها بعد عروض ليليّة. وقضى عليها انتخاب بشير الجميّل رئيسًا للجمهوريّة. إثر الانتخاب، وصلت أحوال الكثيرين إلى الطريق المسدود”.

انتهت المسرحيّة في لحظةٍ سياسيّة عنيفة، لا كمشروع فنّيّ وحسب بل كحالة جماعيّة، حلمت بأن يكون المسرح صوتًا للناس وذاكرتهم.

تتذكّر عايدة صبرا أنّ فرقة الحكواتيّ شكّلت تجربة مسرحيّة فريدة من نوعها في العالم العربيّ، تحكي قضايا الناس ومعاناتهم لا مجرّد قصصهم، لكنّها أيضًا انتهت في مكانٍ ما.

تُبدي صبرا أسفها لغياب أرشيف مسرحيّ موثّق، وتنتقد التقصير في إعادة النبش في هذه الأعمال النوعيّة، التي حملت رسائل توعويّة حول مآسي الاجتياح، والتهجير، والمجازر الإسرائيليّة بحقّ الجنوبيّين.

هكذا، طُوي فصل مسرحيّ نادر من تاريخ لبنان الحديث، لكن ما زالت حكاياته حيّة في الذاكرة، بانتظار من يُعيد صياغتها، ويعيدها إلى الخشبة حيث وُلدت، لا كمجرد ذكرى، بل كحقيقة تُروى من جديد.

عبيدو باشا أثناء توقيع كتاب “أقول يا سادة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى