إدوارد سعيد الذي فتح بوّابة فاطمة بحجر
في العام 1982، جال إدوارد سعيد (1935- 2003) في بلدات عدّة من جنوب لبنان. في حينه، كان في صدد إعداد فيلم بالتعاون مع التلفزيون البريطانيّ، فقصد قلعة الشقيف، لرمزيّتها الكبيرة في مواجهة إسرائيل، كما كانت من قبل مركزاً استراتيجيّاً مطلّاً على نقاط كثيرة من سوريّا الطبيعيّة.
بعدها زار سعيد وأفراد الفريق المرافق، المخيّمات الفلسطينيّة القريبة من مدينة صور، معايشاً المشهد بشعورين: الفلسطينيّ المرتبط بنسيج المكان وأهله، والصحافيّ الذي يجري تحقيقاً محايداً حول قضيّة ذات أبعاد إنسانيّة وحقوقيّة وعسكريّة.
إنّها الثنائيّة عينها التي حكمت هذا المفكّر المقدسيّ وقد عايش تناقضات عديدة، حوّلها محمود درويش إلى قصيدة تصف حال الرجل الذي قاوم السرطان سنوات كثيرة، قبل أن يسمح له بالولوج عميقاً فينهي فيه فعل الوجود، ولم يقبل سعيد الاستسلام للمرض إلّا بعد أن أنجز مذكّراته، وختم باقي ملفّاته الفكريّة والبحثيّة، مثله مثل أيّ رجل أكّاديميّ ملتزم، لا يترك خلفه ملفّات مفتوحة، ولا خزائن مشرّعة.
حجر خلف بوّابة فاطمة
أنهى إدوارد سعيد مهمّته، وغادر جنوب لبنان، ولم يعد إليه إلّا بعد 18 عاماً، في العام 2000 (3 تمّوز/ يوليو 2000)، بُعيد إنجاز التحرير، حيث تحوّلت غالبيّة قرى “الشريط” إلى محطات وشرفات يُطَلّ من خلالها على أراضي فلسطين المترامية، ببساتينها وجبالها.
في تلك الأيّام، أصبحت “بوابة فاطمة” في كفركلا، محجّة لكلّ من يبتغي الاقتراب أكثر من المسافة “صفر” من الأرض السليبة، وكان رشق الحجارة فعلاً يمارسه معظم المتواجدين بمحاذاة الشريط الشائك، وفي الذاكرة القريبة، انتفاضة الحجارة بمعانيها التي بلغت أقاصي البلاد وهي تحتفي بهؤلاء الأطفال، ممّن يقفون قبالة المجنزرات بصلابة، حتى يرجمونها بحجارتهم الصغيرة.
بعد جولة في معتقل الخيام، يترجّل إدوارد سعيد من السيّارة، برفقة أسرته ووفد من أصدقاء كثر ومن المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، في طليعتهم المثقّف الراحل الأديب حبيب صادق، (الأمين العام للمجلس) والكاتب والمفكّر فوّاز طرابلسي.
من أمام “بوّابة فاطمة”، يلتقط إدوارد سعيد حجراً من الأرض، ثمّ يلوي جسده النحيل ويرجع يده إلى الخلف، بينما يده الثانية مرتفعة، بالساعة السوداء التي تكلّل معصمه؛ كأنّ يسراه تقول: “العودة، مسألة وقت”؛ يطلق حجره باتّجاه برج المراقبة خلف الأسلاك الشائكة، حيث يختبئ المحتلّون وراء الفجوات الصغيرة في تلك الكتلة الاسمنتيّة.
مثله فعل باقي أفراد الوفد، غير أنّ حجر سعيد بدا كصخرة ضخمة في وسائل الإعلام الغربيّة في اليوم التالي. الجميع يريد تأويل تلك الصورة، لصاحبها القابض على وجعه ومرضه، وهو يرتدي سترة سماويّة اللون، فوق قميص أسود، وكان في الصورة أقرب ما يكون إلى “فتىً مشاغب”؛ تشبيه عزّزته تلك القبّعة الشبابيّة التي تقيه حرّ تمّوز، والنظّارة الداكنة، والكمّان المشمّران عن ساعديه.
كانت الإشكاليّات كثيرة حول تلك اللحظة، التي تلت مؤتمر مدريد، واتّفاقيّة أوسلو، وغزّة وأريحا، ونشوء هيكليّة لدولة فلسطينيّة. بدا الرجل وكأنّه يهدم برجاً وجداراً من خطابات وبيانات، يتجاوزها نحو المربّع الأوّل، حيث النضالات الرومانسيّة، والقبضات السمراء، والكوفيّات الخافية للملامح.
حجر ضدّ كلّ سنوات القهر
يومذاك، لم تحتشد العناصر السيميائيّة في رمزيّة الحجر ودلالته فحسب، إذ لم يكن الصمت بطلاً كلّ الوقت، فرامي الحجر عاد ليصرّح إثر تلك اللحظة، فيقول ناصحاً في حديث إلى الزميل كامل جابر (جريدة السفير): “بضرورة مواصلة العمل من أجل تحرير ما تبقّى من النقاط المحتلّة في جنوب لبنان”، مناشداً “العرب استكمال هذه التجربة اللبنانيّة ومحاولة البناء عليها”.
ويستكمل حديثه أمام “بوابة فاطمة”: “هذه الظاهرة الصهيونيّة التي استلبت الأرض وشرّدت الناس، وما زالت مستمرّة، وهذه الأراضي التي نراها أمامنا، كلّها كانت أراض فلسطينيّة. لذلك علينا أوّلاً أن نوقف الحملة الصهيونيّة التي تستهدف الأراضي الفلسطينيّة المتبقّية من الأراضي المحتلة في العام 1967، ونحقّق لشعبنا حقّ العودة”.
في تلك الثانية التي استلّ فيها إدوارد سعيد الحجر، كان مشحوناً بطاقتين، الأولى مختزنة في لاوعيه، وهي المظلوميّة التاريخيّة لأهل فلسطين من قبل العام 1948، وما بعده، والثانية كانت حاضرة في وعيه المتلمّس، حيث تضمّن برنامج الرحلة محطّات عديدة، منها الجولة في “معتقل الخيام”.
شاهد في المعتقل الزنازين وعمود التعذيب، مع شروحات سمعها من معتقلين سابقين، مرّوا على المعتقل عدّة سنوات. لهذا لم يفكّر سعيد مرّتين قبيل التقاطه ذاك الحجر، ورميه بقوّة وزخم، وتفريغ طاقة، كأنّه ينزع لعنة عن قلبه؛ وهو يعلم علم اليقين أنّ اللوبي الصهيونيّ لن يتركه في حاله، كونه يحمل جواز سفر أميركيّ، وسوف يكون ذلك الحجر ككرة ثلج، تتدحرج وتكبر.
أيديولوجيّات الفعل المقاوم
آنذاك، كان إدوارد سعيد ملمّاً بزمانه، بل متعمّقاً بالمتغيّرات التي قادت إلى نموذج المقاومات ذات العقائد الدينيّة، بعدما كانت العلمانيّة تكلّل الحركات المقاوِمَة في المنطقة. ونحن نعلم أنّ صاحب كتاب “الاستشراق” مسيحيّ جلّ طموحه رؤية بلاده متحرّرة من السطوة الدينيّة والعنصريّة، أقلّه في نظام حكمها.
إنّ استيعاب المفكّر سعيد لزمانه، جعله براغماتيّاً بالمعنى الحميد للمصطلح، وها هو يردّ على سؤال صحفيّ حول هذه الإشكاليّة قائلاً: “نحن في هذه المنطقة ننتمي إلى أديان عديدة وشعوب متنوّعة، لكنّ الجميع من دون استثناء، سواء المسيحيّ والمسلم والشيعيّ والسنّيّ والسريانيّ واليهوديّ والأرمنيّ، كلّهم يتّبعون الأهداف البشريّة نفسها، الحياة المريحة، الاطمئنان والاستقرار، الأمن والضمان لأولادهم والمستقبل، كلّ إنسان، سواء الصينيّ أو الأميركيّ أو الإفريقيّ يحتاج إلى هذه الأهداف ذاتها، أنا ممّن يقولون إنّه في النهاية توجد أرضيّة بشريّة، تجمع ولا تفرّق بين الأديان والعناصر”.
كان إدوارد سعيد ملمّاً بزمانه، بل متعمّقاً بالمتغيّرات التي قادت إلى نموذج المقاومات ذات العقائد الدينيّة، بعدما كانت العلمانيّة تكلّل الحركات المقاوِمَة في المنطقة
وتابع فكرته: “أنا مع كلّ صراع يصبّ في هذا الهدف، ولا أستثني أحداً، لا أستطيع أن أقول فقط التابع إلى حزب كذا، أو فئة ما يمكن أن يناضل. كلّ واحد أمامه حقل نضال يمكن أن يمارسه فيه، وأعتقد أنّها ظاهرة التاريخ البشريّ، تاريخ الإنسان، من يصنع هذا التاريخ؟ هل هو من في الدنيا أم هو من في خارجها؟”.
حرب عدوانيّة إلغائيّة
بعدسة المصوّر الزميل كامل جابر تخلّدت لحظة رشق الحجر، استعارتها وكالة الأنباء الفرنسيّة من ضمن مجموعة أهداها الزميل جابر إلى إدوارد سعيد في ذاك اليوم، ونشرتها، ثم كانت الخطوة الثانية لوكالة “يونايتد برسّ” العالميّة، التي عمّمتها على وسائل الإعلام كافّة، لتكون المانشيتّات العريضة متشابهة بمواقفها المتحاملة على خطوة سعيد، ويكون التقريع في مقالات سياسيّة وفكريّة، وبعض من شارك في الحملة كانوا أصدقاء للمفكّر الفلسطينيّ، أو زملاء له في جامعة كولومبيا، التي تعرّضت لضغوطات واسعة كي تفصل هذا الأستاذ، وتمنعه من إلقاء الدروس والمحاضرات.
وصلت حملة الدعاوى والدعوات إلى فصله، لـ”جمعيّة اللغات الحديثة”، التي تحتلّ مكانة علميّة مرموقة، وكان سعيد رئيساً لها ذات يوم. في حينه، ثمّة من وصف سعيد بأنّه “الأستاذ في الإرهاب”.
من ناحيتها استمرّت صحيفة “نيويورك تايمز” بمهاجمة إدوارد سعيد على مدى أشهر ثمانية، لتكلّل حملتها بإظهار سرورها في إلغاء “جمعيّة فرويد” محاضرة كانت مقرّرة لإدوارد سعيد في فيينّا، معلّلة الأمر بقلقها إزاء “معاداته للساميّة”. ليردّ سعيد على تلك الخطوة قائلاً: “لقد طورِد فرويْد وأُخرِج من فيينّا؛ لأنّه كان يهوديّاً. وأنا أطارَد الآن لأنّي فلسطينيّ”.