إضاءة على “الحياة الثقافيّة في مدينة بعلبك في القرن العشرين”
في رسالته للدكتوراه والّتي حوّلها إلى كتاب بعنوان “الحياة الثقافيّة في مدينة بعلبك في القرن العشرين” والّذي تحدّث فيه عن أبرز مقوّمات الحياة والنهضة الثقافية في بعلبك في القرن العشرين، يقسّم الدكتور محمد علي سعيّد كتابه إلى ثلاثة فصول: يتناول الفصل الأوّل أهم المدارس والمكتبات الخاصة والعامة وأهم الصحف والمنتديات الّتي شكّلت عوامل دافعة لبداية النّهضة الثقافية في بعلبك.
أمّا الفصل الثاني فيتناول لمحات تاريخيّة عن حركة التأليف في المدينة والّتي ضمّت التاريخ والأدب والشعر والسياسة ومن أهم أعلامها الكاتب والمؤرخ حسن نصرالله صاحب كتاب “تاريخ بعلبك” والشاعر خليل مطران. أمّا الفصل الثالث فقد تناول النشاط الشعري في المدينة من خلال الشاعر سليم حيدر وشعره الوطني وأثره. ومن هنا سنتناول في هذه المقالة أهمّ العوامل الّتي تحدّث عنها الكاتب في الفصل الأول من كتابه والتي مهّدت لهذه النهضة الثقافية في بعلبك متأثرة بالنهضة الثقافية حول العالم في تلك الحقبة.
في كتابه، لا يوضّح محمد علي سعيّد، كيف ومتى بدأت تنتعش الحياة الثّقافيّة في بعلبك، لتبلغ ذروتها في القرن العشرين، بل يكتفي بالمرور على أهمّ الحقبات التاريخيّة، الّتي مرّت على المدينة، مثل عهد يوليوس قيصر، الّذي يشير أنّه في عهد الأخير، سمّى بعلبك “جوليا السعيدة”، على اسم ابنته تحبّبًا بالمدينة.
ويتابع بمقتطفات بسيطة، عن واقع مدينة بعلبك في العهد الروماني، والعهد الظراني، والفتح الإسلامي وغيرها من الحقبات الّتي شهدتها، منها ما انعكس سلبًا على المدينة، كما حدث بعدما تعرّضت لغارات القرامطة (290هـ – 905 م)، ومنها ما انعكس إيجابًا على تطوّر الحياة الثقافية والسياسيّة والعمرانيّة فيها، كما حدث في العهد الزّينكي، حيث يقول محمد علي سعيّد: “سنة (534هـ – 1140م) فتحها عماد الدين زنكي الأيوبي، وأقطع ثلثها لنجم الدين أيوب، ولكن أزهى أيام بعلبك، كانت مع الملك الأمجد بهرام شاه، الذي جعلها مملكة مستقلّة، وقد شهدت في عهده حركة عمرانيّة وأدبيّة وعلميّة، كما شهدت استقلاليّة سياسيّة وعسكريّة”.
في كتابه، يبقى زمن هذا التّحول مبهم تمامًا، ولكنّه يلجأ إلى المرور السريع، على أهمّ الحقبات التّاريخيّة الّتي مرّت عليها المدينة، وآخرها كان بعدما حوّل الانتداب الفرنسي منطقة بعلبك-الهرمل إلى محافظة عام 1925م، ومن ثم أعادوها قضاءً تابعًا لمحافظة البقاع. ولعلّ عرضه هذا كان بمثابة استعراضٍ سريع علّ القارئ يستنتج حال بعلبك قبل القرن العشرين وخلاله.
لا شكّ أنّ التّحوّلات التّاريخيّة والسياسيّة والثقافيّة في القرن العشرين، هي مرحلة يطول الحديث في مسبّباتها، وأبرز تطوّراتها، ولكن المتفق عليه، أنّ الحرب العالمية الأولى والثانية تباعًا، كان لهما الفضل الأكبر في هذه التحوّلات، إذ كان على العالم أن يبني نفسه من جديد، وأن يبتكر أساليب جديدة للحياة كذلك. وذلك ما كان انعكاسه واضحًا على الأدب والفلسفة والفنون الّتي صاحبها تعبير “الحداثة” والتي كانت بمثابة محاولات وأساليب تجريبيّة حديثة.
يقول محمد علي سعيّد: “سنة (534هـ – 1140م) فتحها عماد الدين زنكي الأيوبي، وأقطع ثلثها لنجم الدين أيوب، ولكن أزهى أيام بعلبك، كانت مع الملك الأمجد بهرام شاه، الذي جعلها مملكة مستقلّة، وقد شهدت في عهده حركة عمرانيّة وأدبيّة وعلميّة، كما شهدت استقلاليّة سياسيّة وعسكريّة”.
خلال محاضرة ألقاها الدكتور محمد شرف، نجل الراحل علي شرف، مؤسس “ندوة الخميس” في بعلبك، والّتي ذكرها محمد علي سعيّد، من ضمن أهم المنتديات والحركات الثقافيّة في القرن العشرين، يقول شرف في المحاضرة الّتي ألقاها ضمن ندوة الخميس تحت عنوان: “صفحات من تاريخ الحركة الثقافية في مدينة بعلبك” أن “لبنان كان شهد في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية زمناً مختلفاً، خصوصاً خلال ستينيات القرن المنصرم، وهو زمن اتفق على تسميته “الزمن الجميل”، نظراً لما تميّز به من إستقرار نسبي، إضافة إلى ظروف مؤاتية أخرى، ساعدت على تنشيط الحركة الثقافية، ودفعها خطوات كبيرة إلى الأمام”.
المدارس
نشطت بعلبك في تلك الحقبة ثقافيًّا، وكانت اجتمعت فيها كلّ العوامل المشجّعة على العمل الثقافي الجماعيّ. ولكن الأهم من الأعلام الثّقافية التي ظهرت آنذاك، هي العوامل الّتي مهّدت لذلك وأبرزها المدارس الّتي نشّطت الحركة الفكريّة والأدبيّة في بعلبك، وكانت أكثر البواعث أثرًا في تعميم المعرفة، ونشر الثقافة كما يذكر سعيّد في كتابه.
عرفت بعلبك حوالي 8 مدارس خاصّة استطاعت أن تخرّج عددًا من المفكرين والأدباء والشعراء والمؤرّخين، أهمها مدرسة المستر زين (1920)، والتي كان “من طلابها الشاعر سليم حيدر والقاضي زاهد حيدر، وابن مفتي بعلبك سعد الله زغيب”، ومدرسة الأنطش وكان “أوّل من درس فيها أنطوان الحايك وكان شاعرًا”. أمّا المدارس الرسميّة فمدرستان بحسب سعيّد، الأولى هي المدرسة الرسميّة الرشيديّة، والتي صارت لاحقًا تحمل اسم التكميلية الأولى للصبيان، والثانية هي المدرسة الرسمية للإناث.
المكتبات الخاصة والعامة
بعد ظهور الطباعة وتوافر الكتب شهدت بعلبك نهضة مكتبيّة، “وأُلحقَت المكتبات بادئ الأمر بالمساجد، ثم في المدارس الدينية، وتحوّلت فيما بعد إلى المنازل”. أمّا المكتبات العامّة فكانت مكتبة باسل الأسد الّتي تضمّ 22 ألف كتاب، واجتمعت فيها الكتب الأدبية والتاريخية، وتاريخ الأمم وقصص الأطفال، والكتب السياسية وكتب علم النفس وغيرها. وكذلك مكتبة المركز الثقافي التي احتوت 12 ألف كتاب “ومعظمها في الفقه والحديث والتفسير. وكذلك فيها الكتب التاريخية والأدبية واللغة وكتب والفلسفة..”.
أمّا المكتبات الخاصّة في بعلبك والتي ذاع صيت معظمها في منطقة الشرق الأوسط كان عددها 16 مكتبة. أهمّها مكتبة حسن عباس نصرالله، والتي احتوت عشرين ألف مجلّد “وفيها ما يقارب 70 % من النتاج البعلبكي، وقد غذّى المؤلف مكتبته بنتاج شخصيّ ضخم، أغنى مدينة بعلبك وجوارها بالمؤلفات التاريخيّة والدينيّة والأدبية والسياسيّة..”.
أمّا مكتبة عبده مرتضى الحسيني، والّتي تُعد من أهم وأكبر المكتبات الشخصية في منطقة الشرق الأوسط، فكانت تضم عددًا لا يمكن إحصاؤه من المؤلفات وأمهات الكتب والرسائل والقواميس والمجلات والجرائد، وقد “أسهمت بتنشيط معرفة المدينة، فكان الطلاب يؤمونها لنهل المعرفة من مصادرها وشكلت عامل تحفيز للبعلبكيين من هواة الكتب”. وكذلك غيرها من المكتبات، مثل مكتبة عبدالله الموسوي المنتفكي، وعلي حسن الجمال وعلي حسين درة وعباس نصرالله.
تعتبر مكتبة عبده مرتضى الحسيني، من أهم وأكبر المكتبات الشخصية في منطقة الشرق الأوسط، فكانت تضم عددًا لا يمكن إحصاؤه من المؤلفات وأمهات الكتب والرسائل والقواميس والمجلات والجرائد، وقد “أسهمت بتنشيط معرفة المدينة، فكان الطلاب يؤمونها لنهل المعرفة من مصادرها وشكلت عامل تحفيز للبعلبكيين من هواة الكتب
الجرائد والصحف
كانت الصّحافة في القرن العشرين، من الوسائل الجماهيريّة، الّتي ساهمت في انفتاح العالم على بعضه، وكانت قد ساهمت بنشر الفكر والثقافة، وناضلت بذلك الجهل والمفاهيم الخاطئة. إضافةً إلى فضلها الأكبر في الحفاظ – إلى مدّة من الزمن- على اللغة العربيّة السليمة، والّتي كانت تصارع خطر محاولات الطمس والإندثار. وبحسب محمد سعيّد “صدرت أول جريدة في بعلبك سنة 1927 ويعود ذلك إلى تفشّي الأمّيّة وقلّة عدد المتعلّمين في المدينة والضائقة الإقتصاديّة”.
وكانت جريدة بعلبك أوّل جريدة من ثماني صفحات، أصدرها المحامي يوسف الغندور المعلوف. كانت تصدر يوم الخميس من كلّ أسبوع، وكان شعارها “جريدة سياسيّة هدفها الدفاع عن الوطن ومحاربة الطائفيّة والإهتمام بالمهاجرين..”. أحاطت جريدة بعلبك بكلّ قضايا المجتمع البعلبكيّ خاصة، واللبناني عامّة، فكانت تنشر المقالات السياسيّة، مظهرة الإهمال المجحف، الّذي يطال البعلبكيين من قبل الحكومات المتتابعة، واهتمت بالشؤون الزراعيّة، فأفردت زاوية خاصة على صفحاتها أسمتها “محراث الزارع”.
أمّا جريدة الأضاحي والتي أصدرها المحامي والأديب لطفي حيدر، فكانت جريدة أسبوعيّة، صدر العدد الأول منها في 12 تموز 1927. “كان يطمح صاحبها أن تكون صوت الوحدة العربية الكبرى، وبسبب إخفاق مساعي طلاب الوحدة العربية، أرادها صوت الوحدة السورية”. وكذلك كانت الأضاحي من الوسائل الإعلاميّة التي حملت هموم البعلبكيين إلى العالم، وقد جاء في الكلمة الأولى من المقال الإفتتاحي: “من تحت سماء بعلبك الثري بماضيه الفقير، بحاضره هذا البلد التاريخي العظيم المحبب إلى القلوب بالرغم مما في سمائه من جفاف.. في ظلال هيكل جوبيتر ومن على ضفاف رأس العين حيث ينشد ماؤه العذب أنشودة الخلود، وبهذه الكلمة الصغيرة تستقبل الأضاحي أول عهد لها بالحياة”.
إضافة إلى ذلك، كانت تنشر قصائد لشعراء لبنانيين أمثال خليل مطران وبشارة الخوري ورشيد نخلة وفوزي المعلوف وإيليا أبو ماضي وغيرهم.
بعلبك المدينة المهمّشة
مَن يقرأ في تاريخ بَعْلَبَكّ، ونشاطها الثّقافي اللّافت، يُدرك أنّ لا شيء غيّر هذه المدينة وحوّلها وقلعتها من “أقدم ما بناه البشر في العالم بأسره” كما يقول أسطفان الدويهي (أبو التاريخ الماروني)، إلى مدينة مهمّشة بكلّ أعمدتها الثّقافيّة. من المدارس، إلى الصحف والمكتبات، وصولًا إلى مثقّفيها الّذين يحاولون باستمرار، تشكيل وسطٍ يجمعهم ويربطهم بها، ولكنّه لا ينفكّ ينفرط ويتشتّت.
وقد يعود ذلك إلى وجه بعلبك الثقافي المتغيّر اليوم بعدما رحل أعلامها ورعاياها القدماء وبقيت وحدها بلا رعاة، وبذلك لم يعد من الممكن وصف الحركة الثّفافيّة في بعلبك على أنّها “حركة” جماعيّة، وذلك لأنّ الحركة الثقافيّة الجماعيّة الّتي تحوّرت حول بعلبك في القرن العشرين لم تعد موجودة، ولم يبقَ منها إلا محاولات فرديّة للنّجاة بكلّ فردٍ على حدى وبالمدينة وتاريخها.