إعلام بعلبك منذ خمسة عقود شاشة وورق وأثير

لطالما شكّل الإعلام المناطقيّ حاجة وهاجسًا لدى أبناء الأطراف والبلدات النائية، حيث كان الإعلام الرسميّ من إذاعة وتلفزيون وحيدًا لا ينافسه حينذاك أحد، لكنّه على الرغم من ذلك كان يتلاشى كلّما ابتعدنا من العاصمة حيث يتمركز، فيستعيض عنه أبناء المناطق بتلفزيونات الدول المجاورة، يشاهدونها ليستعيضوا عن فراغ الدولة بما تبثّه تلك التلفزيونات والإذاعات.
باكرًا خاضت بعلبك ومنطقتها تجربة الإعلام المناطقيّ. منذ عشرات السنين وقبل استقلال لبنان وفي شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1929 أصدر الصحافيّ والشاعر يوسف فضل الله سلامة أوّل مجلّة شهريّة في بعلبك تحت اسم “جوبّيتر”، تيمّنًا بالمعبد الأسطوريّ لكبير آلهة الرومان الموجود ضمن هياكل بعلبك.
بعد “جوبّيتر” بعشرات السنين، وتحديدًا في العام 1981 عادت بعلبك لتخوض تجربة الإعلام المناطقيّ، لكن هذه المرة من باب الإعلام المرئيّ والمسموع إضافة للمكتوب، فكانت تجربة تلفزيون ومجلّة بعلبك وإذاعة صوت البقاع. وسائل إعلام تقليديّة بمعايير اليوم، لكنّها كانت حدثًا كبيرًا بمقاييس الأمس، إذ تحوّلت مع الوقت إلى نوستالجيا وحنين لدى من عايش تلك الفترة.
مجلّة بعلبك
عن تلك التجربة يروي الصحافيّ صبحي ياغي والذي كان سكرتير التحرير في “مجلّة بعلبك” فيقول: “كان دافعنا الأهمّ لتأسيس المجلّة هو الحاجة الدائمة لإثبات الوجود”، ويتابع لـ “مناطق نت”: “انطلاقًا من عقدة الحرمان لدى البعلبكيّين، تولّد شعور بضرورة وجود وسيلة إعلاميّة تُعبِّر عن بعلبك وواقعها، فكانت فكرة المجلّة عفويّة في تلك الفترة وجديدة أيضًا”.
يتابع ياغي “تجربتنا في حينه لم تكن جديدة، فقد شهدت بعلبك في العشرينيّات صدور صحف عدّة، منها “جوبّيتر” و”العصر والإسلام في فنونه ومعارفه”، وهي مجلّة فكريّة إسلاميّة للشيخ حبيب آل إبراهيم، ثمّ مجلّة “الكشّاف” لنادي الشبيبة الخيريّ التابع للكاثوليك، ثمّ مجلّة “الرسالة الحديثة” وهي مجلّة مدرسيّة كانت توزَّع ضمن المجتمع البعلبكيّ، وممّن عرض رسوماته فيها طالب أصبح اليوم فنّانًا عالميًّا وهو نزار ضاهر”.
يضيف ياغي: “بعد تلك التجارب حلَّ الركود الإعلاميّ في بعلبك إلى حين صدور المجلّة في حزيران (يونيو) 1981، إذ شكّل صدورها ظاهرة جديدة، وكما كلّ جديد استغربها الناس بدايةً، ثمّ تأقلموا معها، وصار الكتّاب والنقّاد يتسابقون للنشر فيها، فنشرَت المجلّة للدكتور حسن نصرالله كتاب تاريخ بعلبك على شكل أجزاء وفصول”.

تجربة لم تكتمل
عن تأسيس المجلّة يشير ياغي إلى أنّ الأستاذ الجامعيّ علي حميّة هو من أسّس المجلّة. وعن المحتوى يشرح ياغي أنه كان قيّمًا ولم يقتصر على مدينة بعلبك، بل غطّى منطقتها إذ كان هناك ملحق خاص عن الهرمل أطلقنا عليه “صوت الهرمل”. عن عدد صفحات المجلّة يوضح ياغي أنّها كانت تناهز الـ 100 صفحة بغلاف ملوَّن.
عن الأوضاع في تلك الفترة يتذكّر ياغي كيف “كانت الحرب الأهليّة مشتعلة في أكثر من مكان ومنها بيروت”. وعن التمويل يشير إلى أنّ “الأعداد الأولى من المجلّة طبعناها من حسابنا الشخصيّ، ثمّ وجدنا الدعم في ما بعد من حركة فتح، والبعث العراقيّ، وأفراد أمثال بشارة مرهج ومعن بشّور اللذين كان لهما تنظيم اسمه “تجمّع اللجان والروابط الشعبيّة”، وأيضًا الحركة الوطنيّة عبر اشتراكات شهريّة، ومن الإعلانات”.
عن توقّف المجلّة عن الصدور يقول ياغي “توقّفت بسبب الاجتياح الإسرائيليّ في حزيران العام 1982، إذ تعرّض بيت رئيس التحرير إلى القصف وسافر إلى فرنسا، والفلسطينيّون رحّلوا من لبنان، والأحزاب الوطنيّة ضعفت، ثمّ ضاع البلد وانقطعت إمكانيّة النزول إلى بيروت”.
تلفزيون بعلبك
عن تلفزيون بعلبك يروى الصحافيّ سليمان أمهز الذي عمل وواكب المرحلة أنّ مصطفى الشلّ هو من أسّس التلفزيون والإذاعة. يقول أمهز لـ “مناطق نت”: “في أوائل الثمانينيّات لم يكن هناك تلفزيونات سوى تلفزيون لبنان، ولم يكن يصل إلى البقاع بسبب الحرب”. ويتابع أمهز “كانت الانطلاقة بإرسال بدائيّ ويدويّ، وكاميرات قديمة واستديو صغير، عمل الشباب والشابّات بين الإرسال والبرامج، بدءًا ببثّ مسلسلات وأفلام وفيديوهات لتفرح الناس من خلال علاقات مع شركات في بيروت من أجل بثّ مسلسلات وأفلام حديثة”.
يتابع أمهز “وجدنا ترحيبًا كبيرًا من الناس، لم نهدف إطلاقًا إلى الربح المادّيّ وكلّ الإيرادات من الإعلانات كانت مخصّصة لتقوية البثّ ولتجهيز الاستديو، لم نكن نقبض رواتب، بل أجور زهيدة كي نستطيع أن نستمر، ولم يكن هناك مساعدات وتمويل من أحد”. يضيف: أسّسنا لحركة تجاريّة ضخمة جدًّا من خلال الإعلانات للمحال التجاريّة الموجودة في المدينة”.
عن برامج التلفزيون يشير أمهز إلى “أنّنا بدأنا بعرض برامجنا الخاصّة بعد سنتين من انطلاق البثّ، وبعرض نشرات الأخبار في أوائل التسعينيّات، وكنّا نستعين أحيانًا بمشاهد من تلفزيون لبنان”.
عن مدى الإرسال يقول أمهز إنّه “كان يصل إلى شتورا والبقاع الغربيّ، وفي الهرمل كانت هناك أجهزة تقوية للبثّ وكذلك في تعنايل”.

أوّل تلفزيون خاصّ
يتذكّر أمهز أنّ “تلفزيون بعلبك كان أوّل تلفزيون خاصّ في لبنان، كنّا أوّل من غطّى عمليّة انتخاب الرئيس الياس الهراوي في فندق بّارك أوتيل في شتورة، كما كنّا ننقل احتفالات عدّة كذكرى تغييب السيد موسى الصدر بتجهيزات بسيطة ومتعبة لنا. كنا فريقًا من حوالي 20 شابًّا وشابّة، منهم من أصبح اليوم في التلفزيون الفرنسيّ، وفي وكالات أنباء دوليّة”.
عن طبيعة البثّ ومدّته أشار أمهز إلى أنّه كان بالألوان منذ البداية، وكان يبدأ من الخامسة بعد الضهر حتّى الواحدة بعد منتصف الليل، وفي مرحلة لاحقة من الصباح الباكر حتّى منتصف الليل.
“لم يكن للتلفزيون توجُّه سياسيّ محدّد” يقول أمهز ويضيف “بمجرّد أنّ اسمه تلفزيون بعلبك يعني هذا أنّه خصّص لقضايا المنطقة وما من تحيُّز إلى حزب ما”. وعن توقّفه يقول أمهز “بعد العام 1996 صدر قانون تنظيم الإعلام في لبنان وعلى أساسه كان توزيع الحصص الطائفيّة فأغلقت محطّات عدّة وصولًا إلى العام 2000 حينها أغلق تلفزيون بعلبك”.
إذاعة صوت البقاع
عن إذاعة “صوت البقاع” يقول أمهز إنّها “تأسّست في العام 1980 بالصدفة، حيث كان يعمل مصطفى الشلّ كتقنيّ في الإلكترونيّات ويرفّه عن نفسه بتركيب أبسط معدّاتها، فوجد إمكانيّة توسيع التجربة، وبدأ تدريجًا بذلك.
يروي أمهز: “كنا نجلس على “التتخيتة” وكلّ منّا يتولّى شأنًا ما في الإذاعة، وطوّرناها سريعًا جدًّا. كنّا نعرض في البداية الأبراج والفنّ والموسيقى، وأحبّ الناس فكرة سماع أسمائهم عبر الإذاعة وأصبحوا يتسارعون إلينا لنَذكُر اسم “المحلّ الفلانيّ لصاحبه فلان”.
يتابع أمهز “قدمنا برامج اجتماعيّة من خلال تمثيليّة نكتبها وبحِوار بين شخصين، نكتب الحلقة لنجد الحلّ في الحلقة التالية وهكذا”. يضيف “توصّلت في أحد برامجي للكشف عن سرقة آثار من القلعة وقدّمت وثائق أدّت إلى وضع مديرين عامّين في السجن”.
برامج هادفة
“إتّهمت ثلاثة وزراء بالسرقة في برنامجي الإذاعيّ”، يقول أمهر ويتابع “عرضتها بحضور وزير السياحة حينها نقولا فتّوش، الذي اعتبرها إخبارًا للنيابة العامّة، وفي اليوم التالي نقلت الحلقة جميع وسائل الإعلام، وأدّت إلى ضجّة في مجلس النوّاب، وأعيدَت الآثار واعترف جنبلاط أنّها كانت استعارة، واعتبر آخر أنّه اعتقدها غير أصليّة” بحسب أمهز.
ويتابع أمهز “إلى جانب هذه البرامج، كان للفنّ حصّته، وكان عاصي الحلّاني ونجوى كرم وغيرهما من نجوم البقاع دائمي التسجيل لأغانيهم في الإذاعة، كذلك كنّا نعرض برامج توعويّة وإرشاديّة تتعلّق بالصحّة العامّة”. عن التمويل يشير أمهز إلى أنّه “كما التلفزيون كذلك الإذاعة، لم تكن هناك كلف كبيرة، وكان المدخول من الإعلانات فقط دون منّة من أحد”.
“كان بثّ الاذاعة يصل إلى غربيّ بعلبك، عيناتا وشمسطار وأحيانًا شتورة عندما نرفع قوّة الإرسال من موجة متوسّطةam إلى الـfm ، وكان البثّ يبدأ من الساعة الثامنة صباحًا وحتى منتصف االليل” يختم أمهز.