“إكسبرس” عيّاش.. سرديّة مغايرة لشارع الحمرا
ركن درّاجته الناريّة على الرصيف ثمّ ترجّل من فوق هذه الدرّاجة وقد رسمتْ ملامحه علامات التفاخر واللامبالاة المصطنعة، ربّما بسبب ذلك المسدّس المزروع عند خصره بإحكام ليطلب بعدها “واحد قهوة سكّر خفيف” بلهجة تنمّ عن ثقة مهولة بالنفس… الحمرا، الإيتوال مقابل وزارة السياحة، إكسبرسّ ودكّان عيّاش.
من النافل ألّا مكانًا في المدينة يمكن أن يختزل المدينة آخذًا التاريخ بشكل خاصّ بعين الاعتبار. بيد أنّ ثمّة أمكنة تملك تلك القدرة النقيّة لأن تكون بمثابة بوصلة أو مؤشّر أو دليل يراوح بين الوضوح والغموض إزاء حال هذه المدينة أو تلك. يُخبر مروان صاحب دكّان “إكسبرسّ” عيّاش أنّه ورث هذه الزاوية – كما يسمّيها– في تسعينيّات القرن المنصرم، أمّا هذا المحلّ فقد تأسّس في بدايات الستينيّات من قِبل أقرباء له كما يقول.
أكثر ما تشي به الأمكنة هو أنّها لا تبالي بما راكم الناس حيالها من ذكريات، ولا تبالي بتلك النوستالجيّات الساذجة ولا بالنظرات التي قد انقرضتْ على غفلة حتّى من أصحاب هذه النظرات. نعم، فأنا أحسب أنّ للأمكنة هذه السلطة الضروس والتي تسمح لها بأن تتهيكل على مزاجها وكيفما تشاء.
قد لا يكون إكسبرسّ عيّاش هو المكان الوحيد في شارع الحمرا الذي يعكس مآلات هذا الشارع وتوجّهات ناسه بالإجمال. يلقى المرء في هذا المكان، أو هذه الزاوية، شوفريّة (سائقي) التاكسي، موظّفي الإدارات الرسميّة القريبة من المكان والخالية الوفاض، عناصر الشرطة بدرّاجاتهم الناريّة أو بلا تلك الدرّاجات، متقاعدين عجائز فضلًا عن، وبكثرة، شبّان الدرّاجات الناريّة من ذوي المسدّسات أو آخرين من جماعات “الدليفري” بشكل خاص.
أكثر ما يثير الإنصات في ذلك الإكسبرسّ- المرصد، الأحاديث السياسيّة لبعض روّاده حتّى ليقع المرء بظنّ أنّه في غمرة جملة من المراسلين أو المحلّلين الإستراتيجّيين التابعين لهذا الحزب أو ذاك، لهذا الزعيم أو ذاك ليعود بعدها حديث العوز والفاقة و”ركض الكلاب” لتأمين القوت ليحتلّ مساحة الكلام. ثمّة مَن يوالي إلى حدّ الموت والشهادة، وثمة من يكره كلّ الزعماء، وهناك أيضًا اللامبالي الذي نفض يديه من إمكان حُسن العيش والبحبوحة في هذا البلد التعيس.
إنّ تردّدي المقصود على إكسبرسّ عيّاش أجّج فيّ مشاعر تقوم بجملتها على إعادة صياغة سرديّة شارع الحمرا السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة بشكل خاص.
ثمّة من شبّه بعض النصوص في واحد من كتبه، ليس بحبّة مشمش في قلبها نواة صلبة، إنّما بالبصلة التي لا تحمل بجوفها الحدّ الأدنى من صلابة النواة. ربّما شارع الحمرا، وانطلاقًا من حاضره كما يمكن أن يُرصد من إكسبرسّ عيّاش، هو أقرب إلى البصلة، بصلة ضخمة، بصلة هائلة، بصلة لا تني تحتفي بنضالها اليساريّ العتيق أو بتصدّيها لكلّ ضروب الإستعمار والمؤامرات أو بلافتات تحرير فلسطين أو بحداثتها وما بعد حداثتها الشعريّة بشكل خاص. طبعًا هذا لا يسوقني على الإطلاق إلى استبدال اسم شارع الحمرا باسم آخر، كشارع البصل على سبيل المثال.
ربّما شارع الحمرا كنصّ تاريخيّ لا يتجاوز أن يكون لعثمة، تأتأة، همهمة، وبأقصاه ربّما هو، كما هو عليه الحال اليوم، تكدّس حروف تقوم على محض البعثرة والشتات، ولا بأس بالاستعانة بالمجاز في هذا السياق. ذلك أن حمرا اليوم يشي أكثر ما يشي أنّه حقيقة لمجاز تاريخيّ، مجاز كان أكثر ما كان محض توقّع وتخيّل واشتهاء. فتلك الخرق والهلاهيل التي تحفر ملامح هذا الشارع اليوم وتلك الوجوه التي تعبر هذا الشارع وتلبّي شكله الحاضر باتّقان تنزع كلّ ما يمكن أن يقال، أقلّه بالنسبة إليّ، عن تاريخ هذا الشارع البغيض وعفوًا لاستعمالي هذه الكلمة، فأنا صرت على يقين أنّ تسكّعي في هذا الشارع لا يعود إلى كوني واحدًا من روّاده منذ بداية التسعينات إنّما شأن كلّ الآخرين، أنا واحد من مرضاه.
هو أقرب إلى البصلة، بصلة ضخمة، بصلة هائلة، بصلة لا تني تحتفي بنضالها اليساريّ العتيق أو بتصدّيها لكلّ ضروب الإستعمار والمؤامرات أو بلافتات تحرير فلسطين أو بحداثتها وما بعد حداثتها الشعريّة بشكل خاص
عاد ذلك الشاب الذي تحفل ملامحه بافتخار أصفر باهت شحيح والذي “يعتلي” مسدّسًا ظاهرًا للعيان، عاد إلى الركوب فوق درّاجته تلك. اجتاز تقاطع الإيتوال بسرعة واخترق شارع الحمرا ليس باستواء إنّما “زكزاك” مداريًا نفسه عن سيّارة إسعاف ترفع عقيرتها بالزعيق ،ما يشي بأن في جوفها بقيّة جثة تلفظ أنفاسها الأخيرة، شأن شارع الحمرا بالتمام. توارى الشاب بدرّاجته التي لا تحمل لوحة تعريف داخل الشارع الذي وإن كثرت لوحات تعريفه على مرّ التاريخ تراه متشبّثًا اليوم بلوحة واحدة: لوحة نعيه وبالخطّ العريض.
بعزّ انعجاقه في تحضير فنجان قهوة “كبستين” سألني مروان – صاحب الإكسبرسّ – عن الكتاب الذي أقلّبه بين كفّيّ بلا انتباه Franz Kafka; Metamorphosis and other stories.
يقول كافكا في واحد من نصوصه: “إنّ هناك أملًا ولكنّه ليس لنا”.
في ما يعنيني شخصيًّا، وانطلاقًا من أنانيّتي المفرطة، لا أمل في هذا العالم يعنيني ما لم يكن لي به حصّة. فأن نكون في أقصى احتمالاتنا مجرّد صراصير تعدو فوق أرصفة الطرقات وتلك الأزقّة الضيّقة، أن نكون في عاديات يوميّاتنا مجرّد صراصير مذعورة فوق أكوام النفايات وفوق ركام التاريخ الذي يقال إنّه كان باهرًا، لا أمل عندئذ يعنيني إذا لم يكن لي به حصّة، سواء على مستوى شارع الحمرا أو بيروت أو لبنان أو العالم بشكل عام. فليذهب العالم، كلّ العالم، إلى الجحيم إذا كان عيشنا فيه مجرّد انتظار لأيّام أفضل.