إيزال الضنّيّة منبت الدخّان العربيّ أورثه الجدود أبناءهم
تذهب بنا الصورة النمطيّة لشتلة التبغ فور الحديث عنها أو السماع بها إلى الجنوب، لما لتلك الشتلة من تاريخ وتراث عريقين هناك، إذ تحوّلت في الماضي إلى رمزيّ فقر ونضال على حدّ سواء، فتغنّى بها الشعراء، ونظموا لأجلها القصائد والأشعار. هذا التنميط لشتلة التبغ يطغى على أيّ أثر لها في بقية المناطق، ويحيل ذلك إلى استغراب على الرغم من أنّه حقيقة، وهذا ما نشعر به عندما نعلم أنّ زراعة التبغ في عكّار عريقة ذات تاريخ طويل وجذور.
المشهد الأوّل الذي يلفت زائر بلدة إيزال (البلدة الجبليّة في قضاء المنية- الضنّيّة)، هو الاهتمام الواسع والمعرفة الكاملة بشتلة التبغ. هنا، حقول مزروعة بنباتات ذات أوراق خضراء ممشوقة تنتظر نضجها وقطافها، وهناك رجل متقدّم في السنّ، يوضّب الدخّان في أكياس ورقيّة استعدادًا لبيعها في المدينة، على الرغم من أنّ ذلك مخالف للقانون، وبين هذا أو ذاك ثمّة نسوة على الشرفات يقمن بانتقاء أوراق التبغ، وشكّها بخيوط القنّب (المصّيص) فتغدو حبالًا طويلة (120 سنتيمترًا)، تمهيدًا لنشرها على السقالات أو المناشر تحت أشعّة شمس آب الحارقة.
علاقة قديمة
يعود تاريخ العلاقة بين إيزال والدخّان العربيّ إلى “أيّام العثمانلي”، عندما جاء أحد المزارعين بشتلة دخّان إلى القرية بعد عودته من الحرب. مذّاك الحين، تكيّف الأهالي والشتلة على قلّة المياه، وطوّعوا الطبيعة لخدمتها. يستذكر الأهالي مشاهد من الماضي، مكلّلة بالجهد والتعب، إذ “كان كبار السنّ يسقون الأرض بالكيلة (أصلها وِعاءٌ يُكال به الحبوب)، يأتون بالمياه من العيون على ظهر الدواب لريّ مزروعاتهم، وكانوا يوزّعونه على أنحاء الأرض، حيث تُعطى كلّ شتلة شفة من الماء لضمان بقائها على قيد الحياة”.
اليوم، وبعد مضيّ عشرات السنين، تشكّل نبتة التبغ مصدر دخل لشريحة كبيرة من أهالي إيزال والجوانب المحيطة بها، إذ يمتلك الأهالي قرابة 250 رخصة من إدارة حصر التبغ والتنباك، يقدّمون حصّتهم إلى الريجي، وما يفيض عنها يستعمل للاستخدام الشخصيّ، ، أو يبيعونه لزبائن ينتظرون الموسم، ويأتون من أماكن بعيدة نظرًا إلى نكهته المميّزة، ناهيك بشراء بعض المغتربين “زادهم السنويّ” من الدخّان العربيّ، ونقله إلى حيث يعملون أو يقيمون في بلاد الاغتراب.
لا بد من الإشارة، إلى أنّ ذلك كان محظورًا وممنوعًا في زمن قوة وسطوة الريجي، التي كانت تَحصر الإنتاج وفقًا للمساحات المزروعة والمرخّصة، وأي شيء يفيض عن ذلك أو ينقص عنه، يخضع إلى معادلات قاسية، كانت تُفرض على المزارعين حيث كانوا يخسرون مواسمهم أحيانًا جرّاء ذلك.
زراعة عام كامل وأكثر
تستغرق زراعة الدخّان عامًا كاملًا من العمل، ومراقبة الظروف المناخيّة والجوّيّة، وتجهيز الأراضي ذات التربة الحمراء والبيضاء لاستقبال بذور “الفيتالينا” التي يحتفظ بها أبناء إيزال من عام إلى عام. يتحدّث الشاب رمزي عبدالرحمن عن مسار طويل، يبدأ بالبذرة، وينتهي بالقطاف، والتحضير لزرع جديد.
في أواخر شباط، يبدأ الأهالي ببثّ البذور في التربة، وتحويلها إلى شتول ضمن “مساكب” يعدّها المزارع، تستغرق هذه المرحلة شهرين من الزمن، أشبه ما يكون بشتول الخسّ والملفوف.
اليوم، وبعد مضيّ عشرات السنين، تشكّل نبتة التبغ مصدر دخل لشريحة كبيرة من أهالي إيزال والجوانب المحيطة بها، إذ يمتلك الأهالي قرابة 250 رخصة من إدارة حصر التبغ والتنباك
بعد ذلك، يحرث المزارعون الأرض، ومن ثم تغرس الشتول في التربة خلال شهر نيسان، ثمّ تترك لمرحلة النموّ والبلوغ. يلفت عبدالرحمن إلى أنّ “شتلة التبغ المزروعة في إيزال تمتاز عن غيرها من المناطق بأنّها تنمو على أربع مراحل، ويختلف طعم المنتج في ما بينها بين خفيف ووسط وثقيل من دون أن ننسى أثر التربة”. مضيفًا: “تعطي الشتلة بين 12 إلى 14 ورقة، وتُقطف على مراحل، فنقطف كلّ ثلاث أو أربع أوراق على حدة بانتظار نضوج الأوراق الأخرى”.
يبدأ القطاف بـ”التكعيبة”، ومن ثم “التنويّة” (أو التدييلة)، بعد ذلك يأتي دور “الفحليّة” (أو الأميّة)، وأخيرًا “الرأسية” (أو الترويسة). وتمتاز كلّ منها بخصائص ونكهة مختلفة، فالأولى ذات نكهة خفيفة، والتي تليها تكون أقسى، وصولًا إلى النكهة الثقيلة. يوضح عبدالرحمن “هناك خلطة للدخان، حيث يُراعى التوازن بين مكوّناتها، فالكعبيّة (التكعيبة) الرقيقة، تشعل السيجارة بسرعة، أمّا الفحليّة فتعطيها نكهة قويّة ولذيذة، علمًا أنّ المزارع يعدّل الخلطة على ضوء طلب الزبون، إذ يفضّل بعضهم النكهة الخفيفة، فيما يطلب آخرون مذاقًا ثقيلًا حادًّا أو بين بين”.
ازدهار سوق الدخّان العربي
ساهمت الأزمة الماليّة وغلاء الدخّان المستورد في ازدهار سوق الدخّان العربيّ، وازداد إقبال الشبّان واليافعين على هذا النوع من التبغ، إذ كان يعتبر حكرًا على كبار السّن، حتّى ظنّ البعض أنّه سيندثر.
يتحدّث سمير عن تحوّله نحو الدخّان العربيّ “نوع يلدز الأشقر”، في البداية كان يُعاني من تقنيّة اللفّ باستخدام “ورق الشام”، “ولكن في ما بعد اكتشفت وجود أدوات للفّ الدخّان”. ويلفت إلى أنّه آثر “العودة إلى اللفّ اليدويّ لأن فيه متعة، كما أنه يستغرق وقتًا، وهو ما يقلّل الكمّيّة التي أنفثها يوميًّا”. وبات سمير يشتري كيلو تبغ شهريًّا “وهو يوازي كروزيّ دخّان (20 علبة)، وأحفظه في المنزل، ولا أحمل معي إلّا ما يكفي امتلاء العلبة الفضّيّة، التي تثير شهيّة الجالسين، ويبدأ كلّ واحد منهم يطلب حصّته”.
ارتفع سعر التبغ العربيّ قليلًا هذا العام، فأصبح بحدود 15 دولارًا أميركيًّا، وهناك أنواع تتجاوز هذا السعر. لذلك، يحاوّل المدخّن تخفيف الكمّيّة المستهلكة لإحداث توازن. كذلك إنّ “قلّة الضرر الصحّيّ” هي أحد الأسباب التي يسوّقها أنصار “الدخّان العربيّ”، إذ لا يتضمّن على حدّ اعتبارهم موادّ صناعيّة أو سموم مركّبة.
ارتفاع كلف الدورة الزراعيّة
يشكو المزارعون من زيادة كلفة إنتاج الدخّان، واستغراقه كثيرًا من الجهد والوقت. لذلك، كان ملحوظًا انتقال بعض مزارعي إيزال والمحيط إلى زراعة الخضروات الموسميّة، كالبندورة والملفوف، وكذلك تعزيزهم زراعة كروم التين.
ينبّه عبدالرحمن إلى ارتفاع كلفة استقدام المياه إلى القرية، وغلاء اليد العاملة، والفلاحة والأسمدة، وإعداد المناشر من أخشاب وحديد وأشرطة، ومكان آمن ونايلون، لافتًا إلى أنّ “اليد العاملة هي العنصر الأكثر تأثيرًا في ارتفاع الكلف، لأنّ الجميع باتت أجرته بالدولار إذ تتقاضى المرأة العاملة على سبيل المثال نحو 15 دولارًا أميركيًّا يوميًّا، ذلك أنّ قطاف وشكّ التبغ عملية دقيقة، ولا يجيدها إلّا أصحاب الخبرة”.
تطغى النساء في ميدان القطاف، وإعداد مناشر التبغ، إذ ينتشرن في أفنية المنازل، وعلى الشرفات، متسلحات بالخيوط والمسلّات لتجهيز الحبل. لذلك، تتّخذ هذه الحرفة الطابع العائليّ، فيتعاون ربّ الأسرة والزوجة والأبناء على إتمام هذا العمل، وتوفير الكلف الكبيرة.
مناشر الدخّان
يعتبر “نشر الدخّان” محطّة رئيسة ودقيقة في دورة إنتاج الدخّان العربيّ، إذ ينتقي المزارع زاوية معرّضة للشمس والرياح من أجل تنشيف الأوراق، تمهيدًا لفرمها لاحقًا. وكذلك يجب الاعتناء بكيفيّة النشر، ووجوب أن تبقى مرتفعة قليلًا عن الأرض، إتقاءً لتلف الأوراق الخضراء إذا ما لامست التربة والرطوبة.
في هذه المرحلة، يتحوّل المزارع إلى “راصد للمناخ”، ويؤكّد عبدالرحمن “أنّه لا يمكن رفع الدخّان عن المنشر، إلّا بعد تعرّضه للندى، وهذا الطقس قد يأتي بعد الفجر أو المغرب والعشاء، لذلك لا بدّ من انتظاره، ومحاينة الفرصة النديّة”، مضيفًا: “قد نضطرّ أحيانًا إلى الانتظار طويلًا من أجل إنزال خيطان الدخّان، وقد يصل الأمر إلى مدّة شهرين كي تجفّ الأوراق”.
ويعتقد “ألّا مجالًا للتراخي والإهمال، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى خراب الموسم بكامله”، معولًّا على الانتهاء من الإنتاج قبل موسم الأمطار ونهاية شهر أيلول، تمهيدًا لعمليّة الفرم، “إذ تطورت المهمّة من العمل اليدويّ إلى الآلات الأوتوماتيكيّة ذات الدقّة، والتي تحتاج إلى “معلميّة” ومهارة عالية، إذ إنّ أعداد المعلمين باتت لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة” بحسب عبدالرحمن.
سوق الأحد أفضل من الريجي
تتيح كلّ رخصة من رخص الريجي إنتاج 125 كيلوغرامًا تبغًا للمزارع الواحد، ويقوم الأفراد بمنح الإدارة الرسميّة الكمّيّات المسموحة. أمّا في ما يتعلّق بالفائض، فيُباع للزبائن، والأسواق الشعبيّة تغطية لطلبيّة الزبائن، مع الإشارة إلى أنّ ذلك مخالف لقانون الريجي.
ويشكو مزارعون من “إجحاف” يتعرّضون له بسبب الفارق بين الكلفة والبدلات التي تدفعها الريجي. ويقول أحد المزارعين القدامى “تبلغ كلّفة كيلوغرام التبغ 10 دولارات، فيما الريجي تريد استلامه من المزارع بأربعة دولارات أميركيّة فقط، فتحرق تعبنا. لذلك، نحن نفكّر جدّيًّا بالانتقال إلى زراعة الخضروات وهي أقلّ كلفة”.