ابنة ارنون حنان الشيخ.. مصالحة الذات بمرويات الذاكرة
لا يمكن لأدب حنان الشيخ أن يكون عابرًا، ولا يمكن لابنة أرنون المولودة في رأس النبع أن تتنكّر لقصص النساء والرجال كما لو أنّها لم تكن، فكانت آسرة في سردها ومؤثّرة في حكاياتها، ولو أنّها لم تعش فيه حرصت على أن يحضر الجنوب كشاهد على مسار حياة كثير من أبطال رواياتها، ولم تنكر ذاتها فكانت تخلط بعضًا من ذكرياتها بمُتخيّلها الأدبيّ، فالكتابة عند الشيخ تحتاج نفسًا طويلًا ومصالحة مع الذات، كما تقول وتعبّر في أحد لقاءاتها:” الذكريات خزانة تفاصيل ومرويّات لا تنتهي”.
يعرف قارئ أدب حنان الشيخ أنّها مثّلت جيلًا من الكاتبات اللواتي نزعن عن أنفسهنّ سمَتيْ الخوف والخجل– إن صحّ القول- وتجرّأن على المحظور حتّى كان الجسد مسرح بوحهنّ، هذا الجسد الذي عاملته التقاليد والأعراف من مفهوم العورة والعيب والحرام، وكانت النساء ضحايا ضعفهنّ وسوء تقدير المجتمع لإمكانيّتهنّ، فكانت من خلال أدبها تشرح معاناتهنّ وتوثّق لسلطة الرجل وجبروته المستندة إلى قيم القوّة واللاعدالة الإنسانيّة.
ولكن الرجل نفسه ليس بالكائن المنفصم عن الواقع الذي كانت تعيشه النساء بل كان هو في بعض الأحيان، ضحيّة. أعطته حنان مساحة للبوح في بعض مرويّاتها ومنها في رواية “انتحار رجل ميّت”، وتحدّثت عن ظلم ربّما يناله كما في رواية “حكايتي شرح يطول”، ولو أنّ الحكاية تروي سيرة أمّها التي تعرضت للظلم وكانت ضحيّة تزويج مبكّر، إلّا أنّها في مكمن ما تحدّثت عن الظلم الذي تربّى عليه الوالد الذي فقد والدته مبكّرًا وتعرّض لسوء المعاملة والإهمال من قبل والده، فترك الضيعة لاجئًا إلى بيروت. وفي سياق الرواية تتحدّث كيف أنّ هذا الأب القاسي والزوج الظالم في بعض منعطفات الرواية، كان يصدّق أكاذيب زوجته الصغيرة ويتجاوز عن حيَلها على الرغم من تشكيك الجميع بسلوكيّاتها، وكان أبًا حنونًا مع أبنائه. وتذكّر كيف كان متديّنًا ومتسامحًا وقد خسر تجارته وتعرّض للنصب والاحتيال من قِبل شريكه.
تعبت من تعريفي بالنسويّة
ترى حنان الشيخ أن النسويّة ليست اللقب الوحيد الذي تستحقّه، فمن وجهة نظرها النسويّة مساق سار فيه عديد من الكتّاب الذكور، وفي مقابلة أجرتها معها ياسمين الجريسي العام 2018 نشرت في موقع المجلّة، تقول: “تعبت من تعريفي بالنسويّة، أشعر بأنّ وصفي بهذه الطريقة مبتذل. كلّ من لديه عقل أو نصف عقل يعتبر نفسه نسويًّا.. لا ينبغي أن تكون مشكلة بل عليها أن تكون ضرورة..” وتضيف موضّحةً: “كانت جميع الشخصيّات في روايات نجيب محفوظ إمّا قويّة للغاية أو مستضعفة… كان محفوظ يهتمّ بالنساء كذلك الطيّب صالح، ويحيى حقّي، ويوسف إدريس… ليس لديّ لقب واحد.. نحن متساوون ويجب أن نكون متساوين”.
استوحت من كتاب ألف ليلة وليلة مضمون كتابها “صاحبة الدار شهرزاد”، واختارت منه نحو 20 قصّة وقولبتها على حسب رؤيتها الجديدة، وقد رأت في “ألف ليلة وليلة” عالمًا مليئًا بالتحرّر والإباحيّة، والقصص الجاذبة، وتذكر أنّه في طفولتها كان محرّمًا على النساء والأطفال، وكانت تتحيّن الفرص للتفتيش عنه وقراءته، وتشير إلى أنّها بعد أن قرأته فهمت أنّ الرجال احتكروه كي لا تقرأه النساء ويثرن على محيطهن.
ترجمت إلى الإنكليزية بعض قصص الكتاب، ومسرحتها بالتعاون مع مُخرجٍ بريطانيّ، لقّبها الغرب بـ “شهرزاد الجديدة”. إضافة إلى عرض روايتها “أوراق زوجيّة” على المسرح.
بين السخرية والبكائيّة
أجادت حنان على مدار أعمالها الأدبيّة الروائيّة تعرية المجتمع من زيفه، وبأسلوب يجمع بين السلاسة والرصانة، وبين السخرية والبكائيّة، تناولت موضوعات شائكة وكان المكان جزءًا أساسيًّا ملهمًا في حكاياتها، كانت رحلاتها إلى الجنوب متقطّعة وحفظت منه مشاهد قليلة عن حقول التبغ، واستمعت إلى قصص الفتيات اللواتي كنّ يحلمن برؤية البحر، لذا نجد أنّ المكان في معظم رواياتها كان المدينة، وأنّ المرجِع هو الضيعة أو الجنوب. مختلف نساء رواياتها أتين إلى المدينة كي يرين العالم ويتحرّرن من حبس التقاليد والأعراف.
الشيخ: تعبت من تعريفي بالنسويّة، أشعر بأنّ وصفي بهذه الطريقة مبتذل. كلّ من لديه عقل أو نصف عقل يعتبر نفسه نسويًّا.. لا ينبغي أن تكون مشكلة بل عليها أن تكون ضرورة
فهي ترى المكان بطلًا من أبطال الرواية، ولذلك تقوم ذاكرتها السرديّة على استعادة المكان بتفاصيله وعلى تزويد القارئ بخارطة طريق تربط بين الشخوص والمكان وتوازن بينهما، لم تكن نمطيّة في تناول إشكاليّات موضوعاتها، ولو أنّ محور اهتمامها كان موضوع المرأة، إلّا أنّ ذلك لم يحدّها من تناول موضوعات متنوّعة، فتناولت في روايتها “عين الطاووس” (صدرت 2023) العنصريّة في المجتمعات العربيّة، وإشكاليّات الهجرة إلى الغرب الأوروبّي، والقيود التي تكبّل الأمومة بالتزامات تعوق حياتها الخاصّة. وكان لسلاسة أسلوبها وتمكّنها من أدواتها السرديّة السبب الذي جعل الجمع بين هذه الموضوعات على تشعّبها في رواية واحدة متينًا وشيّقًا.
جرأة لا بدّ منها..
تصرّح حنان في مقابلة لها، أنّها تكره اتّهامها بأنّها اهتمّت بالكتابة عن الجنس، توضّح أنّ “الكتابة عن الجنس مهمّة… والرغبة الجنسيّة فيها عقل والكتابة عنه يأتي في سياق الرواية”.
فالجنس في روايات الشيخ ليس دعاية أو أداةً للبوح البذيء بمكنونات الشهوة بل هو ما يفرضه السياق، فيرى الدكتور صالح إبراهيم في دراسة عن “الجنس والزواج في أدب حنان الشيخ” (صادرة عن معهد الدراسات النسائيّة في العالم العربيّ الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة 1997) أنّ الشيخ أبعدت الجنس عن صورته البسيطة المتمثّلة بالاحتكاك الميكانيكيّ والآنيّ بين الرجل والمرأة.. ووظّفته توظيفًا عمليًّا لتلقي الضوء من خلاله على مفاهيم حياتيّة أخرى.. ويخلص في نهاية دراسته إلى أنّ “الجنس في أدب حنان الشيخ يأتي أحيانًا نتيجة الحبّ والانتماء، وهو في أشكاله الشاذّة نتيجة للحرمان والكبت. وهو كذلك مقياس للتوتّر والاستقرار الداخليّين، ومحرّك يدفع بالترسّبات إلى السطح فيؤثّر في سلوك الفرد والجماعة” ويُضيف: “رأت حنان الشيخ، الأبعاد المختلفة لقضيّة الجنس فعالجته كونه تجسيدًا جوهريًّا لكثير من المعاني الحياتيّة..”.
طفولة مرتبِكة
عاشت حنان في محلّة رأس النبع ببيروت، عرفت الجنوب من خلال القصص الشفهيّة التي ترويها لها والدتها وبعض نساء الأقارب والجدّة لأمّها. تعود أصول والدتها إلى النبطية التي تركتها وهي في الخامسة من عمرها، أمّا والدها فقد جاء إلى بيروت في الـ 16 من عمره.
كان لرواية “حكاية زهرة” الأثر الإيجابيّ في شهرتها ككاتبة، فقد اختارها معهد العالم العربيّ في باريس من ضمن 10 روايات عربيّة وتُرجمت إلى لغات عدّة. تناولت في الرواية التي تجري أحداثها إبّان الحرب الأهليّة اللبنانيّة، التفكّك الأسريّ وأثره على الطفولة، التحرّش الجنسيّ، الحبّ بين القنّاص وبطلة الرواية.. وغيرها من الموضوعات المشتبكة. ولكن نلمس في هذه الرواية ما يتقاطع في بعض مشاهدها من ذكريات عن طفولة الكاتبة نفسها، وهو ما يتشابه أو يُفسّر في رواية “حكايتي شرح يطول”.
تقول الشيخ في مقابلتها مع ياسمين الجريسي: ” كنت وحدي لأنّ والدتي تركت المنزل عندما كان عمري خمس سنوات ونصف وزوجة أبي كانت رهيبة. كنت بمفردي طوال الوقت وعشت من دون أمّ في المنزل… كان الناس يعرفوننا أنا وأختي أنّنا بنات المرأة التي طلّقت زوجها.. كنتُ أُعيد تكوين ذاتي واكتشاف الأشياء بمفردي..”.
حكايتي شرح يطول
في “حكايتي شرح يطول” التي تناولت فيها حنان سيرة أمّها كاملة، (صدرت العام 2005) تحكي كاملة “أمّ حنان” أنّها كانت تأخذ ابنتها حنان معها عندما تريد زيارة عشيقها الذي أصبح لاحقًا زوجها بعد طلاقها من والد حنان. وتُشير في الرواية إلى أنّها كانت توهم الطفلة أنّ الزيارة هي عند الطبيب.
بينما تقول حنان على لسان شخصيّة زهرة في “حكاية زهرة ” (صدرت العام 1980)، متحدّثة عن طفولة زهرة وتصرّفات والدتها اللامسؤولة: “الضيق والبرد يحومان حولي بعدما تلاشى الخوف. الضيق لأنّي أعرف تمامًا أنًنا لسنا عند الدكتور شوقي كما قالت أمي …”.
من هنا تتوضّح مأساة حنان الطفلة، كانت زهرة غاضبة من تصرفات والدتها، التي كانت تأخذها معها لرؤية عشيقها بحجّة أنّه طبيب أطفال وهي لا تزال على ذمّة والدها، وتحكي كيف كانت تصرخ وترتجف وهي ترى الأب والخال ينهالان على أمّها ضربًا، وهما يسألانها أين كانت؟
تبكي كاملة في “حكايتي شرح يطول” مستحضرةً مشاعر الذنب تجاه طفولة ابنتها، تعانقها، وتسألها بعدما تؤكّد لها حنان أنّها تحبّها: “كيف بتحبّيني وأنا تركتك وأنت صغيرة؟” فتجيب حنان: “مش مهمّ كان لازم تتركي بابا..”. وتُضيف: “ماما أنا استغلّيت تركك للبيت كنت خلّي الولاد يشفقوا عليّي، كنت كذّب على المعلّمة لأنّي ما كنت أدرس دروسي.. إنّو اليوم بدنا نروح عالمحكمة..”.
المصالحة
تتصالح حنان مع كاملة في الكبر، بعد أن عرفت منها قصّتها وتفهّمت دوافع سلوكها الأموميّ اللامسؤول، فتقول حنان لكاملة التي أصبحت على سرير المرض: “أنت ملاك أبيض… شكرًا لأنّك أعطيتني اسمي، ولأنّي أخذت منك بعضًا من شخصيّتك. شكرًا لأنّي كلّما أفكّر بك أجدني أبتسم وأضحك”.
ويحزّ في قلب حنان عندما تقول لها كاملة بالفصحى، مبدية ندمها: “أنت وأختك جوهرتان رميتكما بالتراب المعفّر” ليس على تركها في الصغر بل: ” لو علّموك كنتِ أنتِ الكاتبة مش أنا..”.
تتوضّح مأساة حنان الطفلة، كانت زهرة غاضبة من تصرفات والدتها، التي كانت تأخذها معها لرؤية عشيقها بحجّة أنّه طبيب أطفال وهي لا تزال على ذمّة والدها
تُرجمت رواية “حكايتي شرح يطول” إلى الإنكليزيّة بعنوان “الجرادة والطير” ولاقت اهتمامًا عالميًّا وبخاصّة أنّ الرواية عن امرأة مسلمة شيعيّة وجنوبيّة تُزوّج غصبًا عنها وهي طفلة إلى زوج شقيقتها المتوفّاة، وتلتقي بعشيقها وهي على ذمّة زوجها.. وقد دعاها برنامج تقدّمه الإعلاميّة الشهيرة أوبرا وينفري، للقاءٍ إعلاميّ، رفضته الشيخ، موضّحة السبب أنّهم اشترطوا عليها بعض الأسئلة التي تمسّ خصوصيّتها وخصوصيّة عائلتها.
لا يمكن لأدب حنان الشيخ أن يكون عابرًا، ولا يمكن لابنة رأس النبع أن تتنكّر لقصص النساء والرجال كما لو أنّها لم تكن، فكانت آسرة في سردها ومؤثّرة في حكاياتها، ولو أنّها لم تعش فيه حرصت أن يحضر الجنوب كشاهد على مسار حياة كثير من أبطال رواياتها، ولم تنكر ذاتها فكانت تخلط بعضًا من ذكرياتها بمُتخيّلها الأدبيّ، فالكتابة عند الشيخ تحتاج نفسًا طويلًا ومصالحة مع الذات، كما تقول وتعبّر في إحدى لقاءاتها:” الذكريات خزانة تفاصيل ومرويّات لا تنتهي”.
الشيخ في سطور
ولدت حنان الشيخ في حيّ رأس النبع في بيروت العام 1945 وترعرعت هناك، وتعود أصول عائلتها إلى بلدة أرنون الجنوبيّة، وهي ابنة الجنوب ومن صلبه، عرفته من خلال الحكايات التي يرويها الأقارب والأهل، والزيارات القصيرة رفقة الجدّة والأمّ.
درست الابتدائيّة في بيروت ثمّ سافرت إلى القاهرة وهي في الـ 17 من عمرها لاستكمال دراستها الثانويّة ثمّ الجامعيّة في الكلّيّة الأميركيّة للبنات والمعروفة اليوم باسم كلّيّة رمسيس، وهناك كتبت أولى رواياتها وهي في الـ 19 من عمرها، ممّا فتح لها فرصًا للكتابة في الصحافة، فتركت الدراسة عائدةً إلى لبنان. ساعدها الشاعر أنسي الحاج في الدخول إلى عالم الصحافة من بوّابة جريدة النهار اللبنانيّة، -كما تذكر في عدّة مقابلات لها-، كانت تكتب في الملحق الثقافيّ لجريدة النهار، تسمع شكاوى المواطنين عبر الهاتف في المقسم 19 من الصحيفة. انتقلت بعدها للكتابة في مجلّة الحسناء، التي كانت آنذاك ذات طابع أدبيّ، برعت في عالم الصحافة، والتي رأت أنّها المختبر الأوّل ليكون الكاتب كاتبًا.
منحتها الجامعة الأميركيّة في بيروت شهادة الدكتوراه لجهودها الأدبيّة، نالت عديدًا من الجوائز عن أعمالها الروائيّة التي ترجم عديد منها إلى 21 لغة.
تزوّجت حنان من رجل فلسطينيّ إنكليزيّ، وعاشت متنقلة بين بلدان الخليج العربي ولندن بسبب الحرب الأهلية اللبنانيّة لتعاود الاستقرار في لندن، وكانت تزور باريس من حين إلى آخر..