ابن الشاويش الذي صار وزيرا للداخلية!
حسين حمية
عندما طلبت منها وكيلة أعمالها الأدبية كارمن بالثيس أن تنشر مذكراتها الشخصية، ردّت عليها الروائية التشيلية اليزابيت الليندي أن أسرتها لا تحب أن ترى نفسها معروضة أمام الملأ، فكتابة المذكرات تُغضب الأقارب.
بينما عندما التقاني اللواء سامي الخطيب في العام 2007 بمكتبه القريب من ثكنة قوى الأمن الداخلي في مار الياس، لم يكن متحرجا أن يقصّ حكايته وهو ابن الشاويش الذي أصبح يوما وزيرا للداخلية، هي حكاية على ثراء كبير بالدراما التي واكبت انتقاله من الحضيض إلى القمّة، لكن لم يشأ أن تكون هذه المذكرات سببا في إغضاب الآخرين.
كان مشروع مذكراته يقوم على 3 أجزاء الأول منذ طفولته إلى العام 1983، والثاني يتناول الفترة التي تلي العام المذكور حتى اتفاق الطائف، على أن يغطي الجزء الثالث حقبة التسعينيات وما بعدها، لكن لم يتم إنجاز سوى الجزء الأول، ولا أعلم مصير الجزأين الباقيين، وفي آخر لقاء لي معه في العام 2008، كان شديد الحماسة لإنجازهما، فقد كان لديه خشية أن تخذله ذاكرته بعد تجاوزه السبعين، ويبقى ما كتبه في عهدة عائلته وحدها.
ليست المصادفات على طعم واحد عند الناس، فبعضها يكون مفصليا عندما يتلقفها شخص متوثب الطموح كاللواء الخطيب، وهذا ما حدث معه في الدخول إلى المدرسة الحربية بالعام 1954، فكادت أن تضيع منه هذه الفرصة بعد رفض طلب انتسابه بحجة عدم معادلة شهادته البكالوريا السورية باللبنانية، وكانت له قصة مثيرة في تجاوز هذا العائق، ثم أتت المصادفة الثانية بعد تخرجه من الحربية ضابطا برتبة ملازم، عندما كان يبحث عن طريقة تلغي نقله من معهد التعليم في طرابلس إلى ثكنة صربا لأسباب عائلية.
يقول اللواء الخطيب: “لمعت برأسي فكرة الذهاب لرؤية المقدم أنطون سعد رئيس الشعبة الثانية، وكنت أسمع به كل يوم دون معرفة، وكنت أسمع أنه النافذ الأول في قيادة الجيش، ولم أكن متحمسا لإشراك السياسيين بموضوعي لأنني لم أكن واثقا من قدرتهم على الفعل في المؤسسة العسكرية، فسألتُ عنه فقيل لي أنه في بلدته تولا- الجية، فتوجهت إليها وذهبت مباشرة إلى منزله، فاستقبلتني السيدة أم بسام زوجته بكل ترحاب، وقالت لي بأن المقدم لم يصل بعد، فشكرتها وعرّفت عن نفسي وقفلت راجعا، وقبل أن أصل إلى الطريق العام، التقيت بسيارة عسكرية سوداء، كان من السهل أن أعرف بأنها سيارة المقدم سعد، ولأنني كنت مرتديا الزي العسكري، توقفت سيارة المقدم، فتوقفت بدوري وترجلت وأديت التحية العسكرية معرفا عن نفسي ضابطا من الفوج الثالث، ومفصولا إلى معهد التعليم، وقبل أن أبدأ اي حديث معه دعاني للغداء معه في منزله تولا، وطلب إلي أن أكمل مشواري إلى بشري حيث كانت تسكن خطيبتي مع أهلها، لتأتي معي تلبية لدعوة كريمة من المقدم سعد”.
هذه الزيارة فاقت نتائجها توقعات الملازم الخطيب، فهو كان يتوخى منها أن يبقى مستمرا في خدمته بطرابلس لاستكمال مراسم زواجه فيها، وإذ يصبح في دائرة اهتمام رئيس الاستخبارات اللبنانية الذي ضمّه فيما بعد إلى الشعبة الثانية 10 \ 10 \ 1960، لتنفتح أمامه أبواب السلطة والنفوذ على مصراعيها.
صعد نجم الخطيب في الشعبة الثانية مع تكليفه من قبل العقيد سعد بتوقيف إبراهيم قليلات لاتهامه بأنه وراء تفجيرات في منطقة قصقص احتجاجا على تقارب الحكومة اللبنانية مع الحكومة السورية المؤيدة للانفصال عن مصر.
أثارت هذه المهمة تساؤلات لدى الضابط الخطيب، قال عنها في كتابه “هي مهمة دقيقة وحساسة وخطرة في آن، فأنا المسلم الوحيد في الشعبة الثانية، والموثوق به ناصريا، وكان واضحا أنني أمام الامتحان الأخير للفوز بثقة وقناعة العقيد سعد بجداراتي للبقاء في الشعبة الثانية”.
كان يدرك الخطيب حساسية مداهمة منزل ابراهيم قليلات الذي يقع في قلب الطريق الجديدة، فهي المعقل السني الأول في العاصمة، ويروي مجريات هذه المداهمة “في تمام الساعة 2,50 ، تحركنا من قيادة الجيش لمنزل قليلات، وطوقناه من جهتي الملعب البلدي وجامع عبد الناصر، وبمكبر الصوت ناديت إبراهيم قليلات للنزول، ولحس الحظ كان الملازم الأول فهمي حمدان (والد العميد مصطفى حمدان) موجودا عند بيت عمه، لأنه صهر آل قليلات، أي والدة مصطفى هي شقيقة إبراهيم، فخرج الملازم الأول فهمي إلى الشرفة المطلة علينا في الشارع العام، وسألني عما نريد ولماذا مكبر الصوت، فأجبته أريد إبراهيم فورا دون تأخير وستكون مشكورا إذا اصطحبته كما هو وفورا قبل أن نضطر لاستعمال القوة، فاستجاب الرجل، وبلا مقاومة على الإطلاق، فوضعته معي في “الجيب”، واتجهت به إلى ثكنة الأمير بشير وأودعته في الزنزانة رقم 5، وعدت إلى بيتي في الساعة الرابعة إلا ربعا ونمت”.
ويضيف “في صبيحة ذلك اليوم، الساعة 6,30 صباحا، أيقظتني زوجتي ملهوفة وهي تقول العقيد سعد على الخط، فقمت إلى الهاتف وقلت: احترامي سيدي، فأجاب إيه يسعد صباحك يا أفندي بعدك نايم؟ فقلت: نعم ما زلت نائما، فقال: والمهمة التي كلفتك بها مساء أمس، فقلت له: نعم نفذت سيدي. فأجاب وكأنه على أبواب انفجار عصبي: أني أسألك عن توقيف ابراهيم قليلات يا ابني، فقلت: نعم أوقفت ابراهيم قليلات وهو حاليا في الزنزانة رقم 5 في ثكنة الأمير بشير، فأجاب العقيد معتذرا: إرجع نام يا ابني، ولما تستيقظ اتصل بي ومر عليّ”.
بعد هذه المهمة، اخذ الخطيب في تعظيم دوره، مستندا إلى كفاءته العسكرية والأمنية وعلاقته الوطيدة مع مصر الناصرية، فلم يغب عن الأحداث الكبرى، ما استحق أن يطلق على الجزء الأول من كتابه اسم “في عين الحدث” كونه اضطلع بمهمات كبيرة، فكان حاضرا في معالجة انقلاب القوميين السوريين وتولى بنفسه التحقيق مع الانقلابيين، وكذلك حضوره في الانتخابات الرئاسية والنيابية، وقد استقبله الرئيس جمال عبد الناصر، وسُمي “والي بيروت” لاتساع نفوذه على الساحة السنية البيروتية، وتولى تهريب السرّاج إلى مصر عبر مطار بيروت، ونجاحه في بناء علاقة شخصية مع الرئيس حافظ الأسد، ودوره في التصدي لمحاولة خطف طائرة الميراج لمصلحة السوفيات، وكذلك مشاركته في اتفاق القاهرة، وصولا إلى الحرب اللبنانية الداخلية والاجتياح الإسرائيلي وبدايات عهد الرئيس أمين الجميل.
بين الوثائق التي وضعها بين يدي عن تلك المرحلة وبين ما نشره، أحداث وأحداث لم يشأ اللواء الخطيب ذكرها، قد تركها عمدا على وثائقه التي عني بحفظها، سألته مرة لماذا يختصر، ما فهمته في إجابته أنه قد شبع من العداوات، فهو على غرار الكاتبة التشيلية اللينيدي، يدرك أن المذكرات تستجر غضب الأحياء..مع ذلك، وبعد رحيله اليوم، مطلوب تتمة الجزأين ليتنفس التاريخ.