ابن بعلبك حسن الرفاعي “حارس الجمهوريّة” ودستورها

لم يكن الفقيه القانونيّ والنائب السابق حسن الرفاعي، مُجرَّد شاب من مناطق الأطراف، وصل إلى الندوة البرلمانيّة وطواه النسيان كما هو حال الغالبيّة الساحقة ممّن دخلوها من بابها العريض، ثمّ غادروها من بابها الخلفي، تاركين فقط أرقام حساباتهم المصرفيّة، يستفيدون منها في حياتهم ثُمّ عوائلهم بعد مماتهم.
ابن مدينة الشمس، المولود في الـ 23 من آب (أغسطس) العام 1923 تأخرّت نيابته أربع سنوات، حدث ذلك في انتخابات العام 1964 حين كان الفوز حليفه، لكن تَمَّ إسقاطه بفعل إرادة “الشعبة الثانية” لصالح البيروتيّ الرئيس تقيّ الدين الصلح، بعدما نقل الأخير ترشيحه إلى بعلبك لضمان فوزه، قبل أن يعود الرفاعي ليستردّها ويُحقّق فوزًا باهرًا في انتخابات العام 1968، مُطلقًا مسيرةً نيابيّة مكلّلة بالنجاح التشريعيّ والعمل الدؤوب لحماية الدستور ومراقبة عمل الحكومات.
مذّكرات متأخّرة.. ثروة إبداع
بعد تردّدٍ طويل، وتمنّعٍ بلغ حدّ المعاندة، على مشارف الـ 100 من عمره، قرّر حسن الرفاعي أن يُسجّل مذكّراته، أو بالأصح ما يتذكّره منذ طفولته حتّى لحظة تدوينها، فأمضى شهورًا طويلة مع الكاتبَين الإعلاميّين أحمد عيّاش وجوزف باسيل، ونجله المحامي حسّان يقصّ عليهم رحلة عمرٍ مديد أمضاه بين مسقط الرأس بعلبك وزحلة وبيروت ودمشق طالبًا، ثُمَّ رحلة العمل والسياسة بين مكاتب المجلس النيابيّ ومنابر المحاكم.

إنّها عُصارة عمرٍ مديد تَمَّ جمعها في كتاب “حسن الرفاعي، حارس الجمهوريّة”. كتابٌ قيِّم بل تحفة ثقافيّة فكريّة، فيها إجابات واضحة شافية عن أسباب الخلل في ممارسة السلطة، عن الزبائنيّة والفساد في لبنان، وعن ضرورة تأسيس أحزاب سياسيّة وطنيّة عابرة للطوائف والمذاهب، نتاجها ثقافة سياسيّة تحاكي السياسة، وكوادر ناضجة تساهم في بناء هويّة وطنيّة.
الطائف اتّفاق أميركيّ- سوري
بعد 15 عامًا على اندلاع الحرب الأهليّة، وبعد مؤتمرات كثيرة عُقِدت ومساع حثيثة بُذِلت بهدف وقف نارها، جاء المؤتمر الشهير الذي جمع النوّاب اللبنانيّين في مدينة الطائف السعوديّة في العام 1989. الرفاعي كان في عِدَاد النوّاب الذين شاركوا فيه، لكن بعد اطّلاعه على المسَوّدَة المطروحة اتّخذ موقفًا رافضًا لها، ودعا من أجل نقاشها دستوريًّا إلى الاستعانة بقضاة لبنانيّين مشهود لهم بالكفاءة والمعرفة الدستوريّة، لكنّه فشل في مسعاه، ما دفعه إلى الامتناع عن المشاركة في الاجتماعات اللاحقة. بادر قبل طلبه العودة إلى لبنان للاجتماع بالأمير سعود الفيصل الذي قال له حرفيًّا حينذاك: “إذا لم تتّفقوا ستعودون إلى الاقتتال الطائفيّ”، فردّ الرفاعي: “يا سموّ الأمير، اللبنانيّون ليسوا طائفيّين، لكنّ السياسيّ اللبنانيّ يسخّر الدين للوصول إلى مآربه ومنافعه الشخصيّة، فيما الأفكار المطروحة علينا، إذا نُفِّذت ستكون مصيبة، وإذا لم تُنفّذ فستكون كارثة”.
تَمّ توقيع اتّفاق الطائف في الـ 30 من أيلول (سبتمبر) 1989 وجرى إقراره بقانون في الـ 22 من تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه. وصفه الرفاعي آنذاك بأنّه “اتّفاق أميركيّ سوريّ تحت خيمة عربيّة وبكلام لبنانيّ” ولم يسر في جوقة تقديسه وتخوين كلَّ من يدعو إلى مراجعته وتحسينه.
غياب القادة وكذبة التوافقيّة
في العام 2018 ووسط حملات الترويج والصخّب والمفاخرة بإنتاج قانون انتخابات “عصريّ وعادل”، بادرت “النّهار” إلى استطلاع رأي الخبراء الدستوريّين فيه، ومنهم الرفاعي الذي وصفه بدقّة متناهية قائلًا: “التنظير السياسيّ حول الديمقراطيّة التوافقيّة وحكومات الوحدة الوطنيّة أدّى إلى تعطيل دور المعارضة وإلى ضرب أسس الديمقراطيّة في الصميم”، مضيفًا: “تسليم الحكم بعد سنة 1990 جوائز ترضية إلى ميليشيات الحرب ورضوخ سياسيّينا واستسلامهم لممارسات الوصاية السوريّة، ونشوء دولة على حساب الدولة بحجّة التحرير والتصدّي للعدوّ الإسرائيليّ، كذلك انقسام اللبنانيّين أدوات لمحاور إقليميّة، واستشراء الفساد وصولًا إلى الاصطفافات الطائفيّة وتبدية حقوق الجماعات على حساب حقوق المواطن”.
أمّا عن قانون 2018 فقد صحّت نظرة الرفاعي إليه بأنّه قانون مسخ يشتّت صوت الناخب بحجّة نسبيّة مزعومة وصوت تفضيليّ يُعمّق الغرائز الطائفيّة بذريعة صحّة التمثيل.
حول دستور لبنان الحاليّ رآه الرفاعي: “جيّدًا يحتاج إلى تنقية من شوائب مهمّة وأساسيّة، لكن الطامّة الكبرى في رجال يعتدون على النصوص والمفاهيم الدستوريّة، ويفسّرونها وفقًا لأهوائهم، رجال يتقاتلون على المناصب، ويتّفقون على المكاسب عوض أن يعملوا بجدٍّ وتفانٍ من أجل حماية الوطن ورفاه أبنائه”.
الرفاعي: الطامّة الكبرى في رجال يعتدون على النصوص والمفاهيم الدستوريّة، ويفسّرونها وفقًا لأهوائهم، رجال يتقاتلون على المناصب، ويتّفقون على المكاسب عوض أن يعملوا بجدٍّ وتفانٍ من أجل حماية الوطن ورفاه أبنائه
أوغست باخوس والمصروفين تعسّفًا
في العام 1993 وبعد صرف الحكومة اللبنانيّة 182 موظّفًا بطريقة تعسّفيَّة، تكفَّل الرفاعي الدفاع عن قضاياهم. وبعدما ربحها كلّها أقاموا له حفلًا تكريميًّا ارتجل فيه النائب السابق أوغست باخوس ما يأتي: “أقول بكلّ صدقٍ وإخلاص، إنّنا نحن مجموعة من النوّاب القُدامى (أيّ الذين كانوا في مجلس 1972 وأعيد انتخابهم سنة 1992) نشعر بفراغٍ في المجلس النيابيّ، لأنّ حسن الرفاعي لم يعد موجودًا بيننا. إنّما في المقابل هناك عدد لا يُستهان به من النوّاب كان مصابًا بعقدة حسن الرفاعي، فتمنّوا أن يبقى بعيدًا من صفوفنا، واعتبروا أنّه قد أُقصيَ من الساحة، وإذ به يطلّ من ساحةٍ أخرى، ساحة المحاماة، فيشكِّل عقدةً جديدة لكلّ مجموعة المحامين في لبنان”.
وأضاف “فللمرّة الأولى في تاريخ المحاماة في لبنان، يظهر فرد بشكل مؤسّسة توازي مؤسّسة “كاريتاس” في خدمة المظلومين. إنّه شرف لي أن أكون قد وسَّطت نفسي بين مجموعة من المظلومين وبين حسن الرفاعي، فأبى إلّا أن يُجنّد نفسه مجّانًا خدمة للمظلومين”.
الوحدة الوطنيّة وإلغاء الطائفيّة
يفوق حجم الانقسامات الموجود في بلد الأرز، مساحته الجغرافيّة بأضعافٍ مضاعفة، تبدأ من الهويّة والانتماء وتصل إلى مكان حاوية النفايات ولونها، مرورًا بالفساد والطائفيّة والهدر وشراء الذمم وهدر الدم والحقّ في سبيل السلطة ومغانمها.
في أوّل كلمة له بعد شهرٍ على انتخابه نائبًا العام 1968 وعلى منبر مجلس النوّاب، أثناء مناقشة البيان الوزاريّ لحكومة الرئيس عبدالله اليافي، عدّد النائب الجديد حينها ما يعانيه اللبنانيّون اليوم في العام 2025 قائلًا: “يقول رجال السياسة في هذا البلد، يجب ألّا تمسّ المواضيع الحسّاسة، ويقول الشعب نريد مصارحة، فمن مثّل الشعب عليه أن يخضع لإرادة الشعب، والموضوع الحسّاس الذي تعيشه البلاد اليوم، هو موضوع الوحدة الوطنيّة ويأتي بعده موضوع الطائفيّة”، أمّا في ما يخصّ هويّة لبنان فكان حاسمًا: “لبنان بلد عربيّ مستقلّ لا يساير، لا غربًا، ولا شرقًا، حياده حياد إيجابيّ وهو شقيق للبلاد العربيّة”.
مسيرة زاخرة، مثال يحتذى
كتاب “حسن الرفاعي– حارس الجمهوريّة” الذي أعدّه أحمد عيّاش وجوزف باسيل وحسّان الرفاعي، ليس مجرّد سيرة ذاتيّة فحسب، بل كما وصفها أستاذ العلاقات الدوليّة في جامعات باريس جوزيف مايلا (صاحب كرسيّ في الجغرافيا السياسيّة في جامعة ESSEC- باريس) في تقديمه للكتاب: “من بين كلّ المهتمّين بالقضايا العامّة كان كالحكماء القيّمين على استقامة القانون وحسن تطبيقه في اليونان القديمة وروما، ذاك السياسيّ المتيقّظ، الملمِّ بالقانون والمدافع عن الحقّ، فهو ليس عالم قانونٍ تائهًا في السياسة، بل رجل قانونٍ وضع علمه في خدمة السياسة” .
إنّ مسيرة حارس الجمهوريّة الدكتور حسن الرفاعي القانونيّة والسياسيّة هي خير مَعِين ودليل ومثال لمن يريد احتراف السياسة بنبلٍ وأخلاق، فليس صحيحًا أنّ السياسة هي “فنّ الكذب” بل هي فنّ تحقيق مصالح الناس وطموحاتها وتطلّعاتها المستقبليّة، لذلك حتّى بعد تقاعده لم يذهب حسن الرفاعي إلى العتمة والهامش، بل بقي شامخًا في نظافة كفّه وصحوة ضميره، كيف لا وهو الذي لم يتكسّب ويسترزق من السياسة، ففي عامه الثالث بعد المئة عند أيّ استفسار قانونيّ تتسابق الكاميرات نحوه، وقد صحّ ما يقوله كبار بعلبك “من يرد تَعلُم السياسة فليقرأ حسن الرفاعي”.