اتّساع محميّات الطيور في لبنان مقابل خطر القصف جنوبًا (1)
لم تكن الطيور البرّيّة والبحريّة العابرة إلى لبنان أو فوقه، بمأمن دائم من النيران العشوائيّة القاتلة، منذ سنوات طويلة، ربّما من عمر الحرب الأهليّة اللبنانيّة، منذ نحو خمسين عامًا وما تبعها من فوضى السلاح والصيّد واستباحة المحميّات والأحراج التي يمكن أن تشكّل موئلًا آمنًا تلجأ إليه هذه الطيور في مراحل العبور، أو التزاوج والتفريخ.
نحو عشرين محميّة طبيعيّة أو أدنى بقليل جرت قوننتها وتشريعها في لبنان منذ مطلع التسعينيّات كي تكون موئلًا آمنًا للطيور وللحيوانات البرّيّة والنباتات، المُهدّدة بالانقراض، يضاف إليها نحو ثلاثين حمىً تنتشر كلّها على مختلف الأراضي اللبنانيّة، وتنشط في سبيل تشكيل حمايّة مستمرّة للمخلوقات والنباتات في مداها الجغرافيّ.
لكن ثمّة طارئ تعاني منه المحميّات الجنوبيّة القريبة من الحدود مع فلسطين المحتلّة، منذ ثلاثة أشهر، بسبب القصف الإسرائيليّ المستمرّ، الذي يطال الأحراج والمحميّات وحماها، خصوصًا القصف المتكرّر بالقذائف الفوسفوريّة السامّة والقاتلة، ما يترك آثارًا “تدميريّة” ذات مدى طويل على الناس والأشجار والنباتات، وكذلك على الحيوانات والطيور.
فوسفور قاتل للطيور جنوبًا
“إنّ تنوّع هذه المحميّات هو تنوّع مترابط، وأيّ خلل يصيب عناصرها البيولوجيّة يطال الطيور وغير الطيور. لذلك فإنّ القصف الذي يحصل منذ ثلاثة أشهر، أكثر ما يؤذي منه هو القصف بالقذائف الفوسفوريّة وأكثر ما يطال الطيور، بسبب الدخان الناتج عن انفجار القذائف، أيّ عن تفاعل كيميائيّ وسامّ وقاتل للطيور”. يقول رئيس “جمعيّة الجنوبيّون الخضر” الدكتور هشام يونس ويضيف: “إنّ المطارح التي تتعرّض للقصف بالفوسفوري تحترق فيها الغابات ويتسمّم الهواء والتربة والماء، وهذا ما يطلق عليه تسميّة الإبادة البيئيّة”.
ويشير يونس إلى “أنّ المحميّات الجنوبيّة القريبة من الحدود هي محميّات لكلّ التنوّع البيولوجيّ والعناصر البيئيّة الأخرى التي تتمتّع بها، وثمّة حمى بيئيّة ضمن التصنيفات القانونيّة ولها بعض أشكال الحماية على نحو القْلَيْلة والمنصوري، وثمّة مقترح تقدّمنا به لإنشاء محميّة وادي زبقين الطبيعيّة التي ستكون أكبر محميّة في منطقة صور”.
ويؤكّد “أنّنا نقوم بالتوثيق لكلّ ما تفعله إسرائيل في المحميّات والأحراج، وقد وزّعنا بيانًا بهذا الصدد بتاريخ 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يؤكّد أنّ مخاطر هائلة على التنوّع البيولوجيّ ككلّ وعلى النظام البيئيّ برمّته بسبب القذائف الفوسفوريّة ذات الأثر البعيد الأمد، وهو كلّما تكثّف بالتربة والماء صارت معالجة آثاره أصعب بكثير”.
هشام يونس: تنوّع هذه المحميّات هو تنوّع مترابط، وأيّ خلل يصيب عناصرها البيولوجيّة يطال الطيور وغير الطيور. لذلك فإنّ القصف الذي يحصل منذ ثلاثة أشهر، أكثر ما يؤذي منه هو القصف بالقذائف الفوسفوريّة وأكثر ما يطال الطيور.
ويختم يونس: “نحن نوثّق كلّ ما يجري إلى مرحلة ما بعد الحرب، وهذا يحتاج لاحقًا إلى دراسات لعيّنات من كلّ موقع من هذه المواقع التي تتعرّض للقصف الفوسفوريّ، لنعرف مدى التكثّف والتلوّث الناجم منه، أمّا الاختلال الذي يسبّبه القصف فهو هائل ويطال الطيور وغيرها من الكائنات البرّيّة التي تعيش في هذه المحميّات وحولها”.
المحميّات في كلّ لبنان
تعتبر محميّة بنتاعل الجبليّة الواقعة في جرود جبيل من أقدم وأصغر المحميّات في لبنان، إذ أنشئت في العام 1981 وخضعت لقوانين المحميّات اللبنانيّة في العام 1999، بعد نحو سبع سنوات من بدء تشريع المحميّات على مختلف الأراضي اللبنانيّة.
بدأ لبنان قوننة المحميّات في العام 1992، مع إعلان محميّتَي “جزر النخل” و”حرج إهدن” محميتَين طبيعيتَين، ثمّ ألحقت بهما محميّة أرز الشوف، وصولًا إلى اليوم حيث أصبح عدد المحميّات المعلنة بالقانون في لبنان أكثر من 18 محميّة طبيعيّة.
إلى هذه المحميّات أضيفت مناطق هامّة للطيور بمباركة ورعاية “المنظّمة العالميّة للمحافظة على الطيور” (Bird Life International)، وأضيفت كذلك نحو ثلاثين منطقة حِمى للمحافظة على التراث الطبيعيّ بالطرق التقليديّة الموروثة. يُذكر أنّ منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) أعلنت أرز الشوف وجبل الريحان وجبل موسى محميّات محيط حيويّ.
في العام 1996، أُنشئت أكبر محمية طبيعية في لبنان ضمن نطاق الشوف في جبل لبنان. تُعتبر محميّة أرز الشوف آخر امتدادات الأرز في لبنان، وحاضنة لآلاف الطيور المهاجرة التي تعبر لبنان سنويًّا. وتمتدّ مساحتها على قرابة 160 كيلومترًا مربّعًا من الأراضي الحرجيّة، وتمتاز بأنّها تضمّ ثلث غابات الأرز المتبقّية في لبنان.
أمّا المحميّات الثمانية عشرة المعلنة بالقانون فهي: أرز الشوف (أكبر محميّة في لبنان 1996)، جزر النخل (قبالة طرابلس 1992)، محميّة ساحل صور الطبيعيّة (1998)، غابة أرز تنّورين (1999)، وادي الحجير (بين مرجعيون وبنت جبيل، ثاني أكبر محميّة في لبنان 2010)، النميريّة (الزهراني 2020)، مشاع شننعير الطبيعيّة (كسروان 2010)، أرز جاج (في أعالي جبيل 2014)، جبل حرمون (أعالي راشيا الوادي 2018) بنتاعل الجبليّة (أنشئت 1981 وشرّعت في العام 1999، جرود جبيل)، جبل إهدن (جرود زغرتا 1992)، اليمّونة (جبل المكمل والمنيطرة 1999)، كرم شباط الطبيعيّة (فوق القبيّات- عكّار الشمال 1995)، العبّاسيّة (صور 2019)، كفرا (بنت جبيل 2011)، دبل (بنت جبيل 2011) رامية (بنت جبيل 2011) وبيت ليف (بنت جبيل في جنوب لبنان 2011).
جمعيّة لحماية الطيور في لبنان
ينتشر خبراء “جمعيّة حماية الطيور في لبنان” على الأرض وفي عرض البحر خلال فصل الشتاء، بغية تحديث البيانات وجمع المعلومات، وإنتاج أبحاث رائدة في إطار مشروع “التقييم الوطنيّ لأنواع الطيور البحريّة والساحليّة في لبنان”.
سيساعد هذا المشروع في تطوير ركيزة شاملة لأنواع الطيور البحريّة في لبنان. ونتيجة لذلك، سيدعم المشروع عمليّة إعلان مناطق بحريّة محميّات جديدة في لبنان، وسيؤهّل لاحتماليّة تحديد مناطق مهمّشة، كمناطق بحريّة جديدة على طول الساحل اللبنانيّ. هذا المشروع سيكون مدعومًا من قبل “صندوق المنح الخضراء العالميّ”.
لعب خبير الطيور ورئيس جمعيّة حماية الطيور في لبنان ومؤسّسها، فؤاد عيتاني، دورًا رئيسًا في تحديد أفضل مواقع مراقبة الطيور في داخل المحميّات الطبيعيّة، وعلى مسار درب جبل لبنان “في إطار جهودنا لدعم السياحة اللبنانيّة، ودمج مراقبة الطيور مع السياحة البيئيّة اللبنانيّة، وكجزء من مشروع تمكين المناطق الريفيّة والزراعة في لبنان(ARE)” يقول عيتاني.
عيتاني مصوّر فوتوغرافي بارع، ومسؤول كذلك عن تطوير برنامج تدريبيّ متخصّص لتعليم منظّمي الرحلات البيئيّة ومرشدي المشي في الطبيعة، التقنيّات الحيويّة لمراقبة الطيور، “بهدف رفع مهاراتهم إلى مستوى المعايير العالميّة”.
مخاطر تواجه الطيور
يقول عيتاني لـ”مناطق نت”: “تُوْلي وزارة البيئة اهتمامًا ملحوظًا بمحميّات لبنان الطبيعيّة، ولكي تكون محميّات يجب أن تتوافر لها جملة من الشروط، منها أن تكون المحميّة مهدّدة بثلاثة أصناف على الأقل بالانقراض، من طيور وحيوانات ونباتات، وموضوعة على اللائحة الحمراء. لذلك نعتبر أنّ المحميّات الآمنة اليوم هي التي صنّفت وفق القوانين وعددها 18 محميّة، يضاف إليها مجموعة كبيرة من الحمى”.
تقوم الجمعيّة بجملة من النشاطات الهادفة إلى حماية الطيور، منها “عملنا في دراسة حركة الطيور البحريّة وتصرّفاتها من الناقورة في أقصى الجنوب إلى قرية الشيخ زناد عند ساحل عكّار، في أقصى الشمال، وبعمق خمسة كيلومترات في البحر من أجل التقييم. وندرس كذلك المخاطر التي تواجه هذه الطيور، من فقدان الموائل إلى الصيد الجائر وعشوائيّة الصيد وبعض الصيّادين، إذ إنّ مخاطر جمّة تواجه الطيور في لبنان ومنها الطيور البحريّة”.
إلى الصيد الجائر وفقدان الموائل، يعدّد عيتاني جملة من المخاطر على الطيور في لبنان، منها “كابلات التوتّر العالي، وبلوكّات الإسمنت ومراوح الهواء في عكّار والممرّات الهوائيّة، فضلًا عن مخاطر رشّ الحقول والمزروعات بالمبيدات الحشريّة القاتلة، وكذلك تبدّل المناخ وتلوّث بحيرة القرعون”.
تقوم الجمعيّة بجملة من النشاطات الهادفة إلى حماية الطيور، منها دراسة حركة الطيور البحريّة وتصرّفاتها من الناقورة في أقصى الجنوب إلى قرية الشيخ زناد عند ساحل عكّار، في أقصى الشمال، وبعمق خمسة كيلومترات في البحر من أجل التقييم.
في العام 2017 لم تؤّيد الجمعيّة حملة الإبادة التي شُنّت على طيور النورس في محيط مطار بيروت الدوليّ، ويصفها عيتاني “بحرب شعواء لم تراعِ أسباب انتشار النورس في هذه المنطقة، ومنها نهر الغدير ومكبّ الكوستا براڤا، وتبيّن أنّ النوارس كانت تقصد حرم المطار بحثًا عن المياه النظيفة لكي تشرب”.
ويشير إلى “أنّنا التقينا وزير البيئة أكثر من مرّة لحلّ مشكلة النوارس وغيرها من الطيور التي تشكّل خطرًا على الملاحة الجوّيّة. ثمّة خطر كبير، مثلّا، من كشّ الحمام قرب الأوزاعيّ والمطار وهو أكبر خطر على الملاحة، إذ إنّ الحمام يطير على شكل رفوف وأسراب متقاربة، لذلك تَدخّلَ الجيش اللبنانيّ لمنع إطلاق الحمام فوق هذه المنطقة”.
طائر النعّار السوريّ
حقّقت جمعيّة حماية الطيور في لبنان إنجازًا بارزًا بنشر مقال بحثيّ حول “مسوحات طائر السرين السوري Serinus syriacus (النعّار السوري) في لبنان، في مجلّة Sandgrouse، المجلّد 45 (2)، 2023. من تأليف الدكتور غسّان رمضان جرادي (متخصّص في علم الطيور البريّة)، فؤاد عيتاني (مؤسّس ورئيس جمعيّة حماية الطيور)، سومر دقدوق (ناشطة بيئيّة)، وجيمس هوغ. يسلّط المقال الضوء على النتائج الهامّة التي توصّل إليها البحث الميدانيّ حول طائر السرين السوريّ، وهو نوع من الطيور المعرّضة للخطر عالميًّا.
وشملت هذه الدراسة الشاملة، التي أجريت في خلال العام 2021، مسوحات مكثّفة في تسعة مواقع مختلفة في جميع أنحاء لبنان. وقد تمّت مكافأة جهود الفريق بتسجيل 384 طائر سرين سوريّ، ما يوفّر بيانات قيّمة عن تعداد هذا الطائر وتوزيعه في المنطقة.
وقد تمّ العثور على الموائل التي جرى مسحها، والتي تتراوح من الغابات المفتوحة إلى الأراضي العشبيّة ذات الأشجار والشجيرات المتناثرة، وتشمل مجموعة متنوّعة من الأشجار مثل السرو والعرعر والتنوب والأرز والصنوبر والبلّوط دائم الخضرة.
وركّز جانب مهمّ من البحث على أهمّيّة مصادر المياه الاصطناعيّة، مثل أنظمة الريّ بالتنقيط، وإبراز دورها في تعويض النقص في مصادر المياه الطبيعيّة في هذه الموائل. بالإضافة إلى ذلك، يقدّم المقال نظرة ثاقبة للنظام الغذائيّ للسيرين السوريّ ويحّدد التهديدات التي يواجهها على المستوى الوطنيّ. ويعتبر هذا المنشور بمثابة وثيقة إرشاديّة لتطوير خطط عمل وطنيّة، وربّما إقليميّة، للحفاظ على هذه الأنواع المعرّضة للخطر.
يتكاثر طائر النعّار السوريّ في سوريّا ولبنان وفلسطين والأردنّ على ارتفاعات تتراوح بين 900 و1900 متر، تقوم أعداد الطيور في الأردن بتحرّكات محلّيّة في الشتاء، أمّا طيور لبنان وفلسطين وسوريّا فتهاجر إلى أماكن الشتاء في مصر وتركيّا والعراق. وهي تسكن المناطق الصخريّة مع شجيرات أو أشجار البلّوط والصنوبريّات والمَراعي والحقول المتكرّرة، تتغذّى بشكل رئيس على بذور النباتات الحوليّة والأعشاب.
حماية الطيور حماية للبيئة
اعتبر المجلس العالميّ للطيور محميّة أرز تنّورين (أنشئت بموجب القانون رقم 9 تاريخ 25 شباط 1999) منطقة هامّة للطير، ومنحها هذا التصنيف المميّز خلال العام 2006؛ وقد تمّ إحصاء ثمانين نوعا ًمن الطيور المهاجرة والمعشّشة، منها: الحجل، أبو الحنّ، أبو بليق، الزريقة، التيّان، الدوريّ، الوروار، العوسق، الدعويقة، الحسّون، القرقف الأزرق، الصرد المحمّر الظهر، البلبل، الحمام البرّيّ، الشحرور، دجاجة الأرض، والصقر.
تحافظ الطيور على التوازن البيئيّ بالعديد من الطرق، من بينها: انتشار بذور النباتات، إذ تلتصق بذور النباتات بريش الطيور وبأعوادها، وعندما تسقط هذه البذور على الأرض يتمّ زراعتها، لذلك تلعب الطيور دورًا مهمًّا في انتشار النبات.
التحكّم في الحشرات، تحسين جودة البيئة: تتغذّى الطيور على الحشرات التي تؤثّر سلبًا على المزروعات ولذلك تلعب دورًا مهمًّا في التحكّم فيها. وتساعد على تحسين جودة الهواء والماء من خلال التحكّم في الحشرات والقضاء على الجراثيم والفيروسات.
بِعَدَسته يلتقطُ صُوَر الطيور الجميلة ويكتبُ عن حياتها وميزاتها وسلوكيّاتها التي غالبًا ما تكون مُدهشة، من طريقة بناء أعشاشها، إلى عمليّة حضانة الفراخ وإطعامها وحمايتها. سلوكياتٌ مُلهمة في الإخلاص بين الشريكين والتعاون في تربية الصغار. ومعلوماتٌ كثيرة يكتُبها فؤاد عيتاني، مؤسّس جمعيّة حماية الطيور في لبنان لِتُقدّمها إذاعة لبنان في برنامج “تغريد” ويذاع يوميًّا بين الثامنة والنصف صباحًا والواحدة ظهرًا.