استديو شمص في بعلبك.. حكاية أكثر من مليون ونصف المليون صورة للمنطقة وأهلها
عند وضْعِ أرشيف الصور أمامي، جذبتني الصور القديمة باللونين الأسود والأبيض أكثر من تلك الملّونة. هذا الانحياز مفهوم، فالصور الملوّنة تشغل عيناي وتغرقهما بألوانها. أما صور اللونين، كنتُ أغرق بتفاصيلها ذهنيا ونظراً. هي صور وجوه وأشخاص، لا أعرفهم، هم مجهولون بالنسبة لي. لا تكفي معرفة أسمائهم، صرت أتخيل حكايتهم مع صورهم، الكلام لم يعد يشرح الصورة القديمة، فالصورة لم تعد صورة، صارت حكاية.
في العام 2002 أقفل عبدالله شمص (أبو عصام) استديو التصوير الخاص به في سوق بعلبك مقابل جامع النهر، والذي يعرفه أهل المنطقة باسم استوديو شمص. لم يكن قرار الإقفال لأسباب مادية أو مهنية، كانت وقتها الكاميرا موجودة حصراً عند المصورين والهواة، ولم تكن شائعة كما اليوم على التلفونات الذكية. أسباب صحية هي التي دفعت ابو عصام للإقفال، ومع ذلك لم يخرج هذا الاستديو من الخدمة بعد إقفاله أو بعد وفاة ابو عصام في ال 2009، فما يخزنه أرشيفه من صور، يشكل مستودعاً وثائقياً وتاريخياً وعلمياً لمنطقة بعلبك.
أبو عصام يبدأ مهنته بإمكانات بسيطة
لم نقف على الأساب أو المغريات التي دفعت أبو عصام إلى اتخاذ التصوير مهنة له. فالمعروف عن أبناء منطقة بعلبك في تلك المرحلة ابتعادهم عن المهن والحرف، وتفضيلهم الزراعة والتجارة والوظيفة الرسمية عليها. أضف أن مهنة التصوير كانت قد دخلت حديثا إلى بعلبك. وعلى صعيد لبنان كانت هذه المهنة محتكرة من قبل الأرمن في لبنان، ويجري توراثها وتناقلها فيما بينهم مع بعض الخروقات التي اتسعت فيما بعد.
يقول عصام الذي عمل إلى جانب والده في استديو التصوير، بأن اباه “قد باع عقارات له في بلدة شعت، واشترى بثمنها سنة 1958 استديو تصوير لرجل أرمني، وبدا التصوير بالأسود والأبيض، وكان يساعده ابن اخيه وصهره زوج أخته. وكانت كلفة الصورة 5 ليرات”.
في أواخر الخمسينيات تضاعفت حاجات ابناء المنطقة لاستديوهات تحميض الصور وتظهيرها، إن للمعاملات الرسمية (الهوية وجواز السفر)، أو لتحول الصورة الفوتوغرافية إلى جزء من ثقافة المنطقة واستدخالها في تقاليدهم ومناسبتهم. ففي أرشيف شمص، شاهدت صورا لعروسين، أو لمناسبات اجتماعية وشعبية، وكذلك لأشخاص بزيهم العربي.
ولفت عصام، إلى أنه في تلك الحقبة (أواخر الخمسينيات) كان هناك ٣ استوديوهات في بعلبك كان شمص أشهرها. وكانت هذه الاستدوهات تغطي حاجات أبناء المنطقة في التصوير. ويقول أن والده ولتوسيع أعماله، كلّف قريبه مجيد شمص، أن يعمل مصوّرا متجولا بين قرى المنطقة، على أن يتم تظهير الصور في استديو التصوير.
وعن تجهيزات استديو والده من الداخل، قال عصام، “كان ديكوره معتقا، وجدرانه مزينة باللوحات الفنية المرسومة باليد، منها لوحة لآثار بعلبك، واخريات لوجوه فنية عالمية كانت تزور بعلبك”. وأضاف”كان في استديو التصوير مجموعة من الالبسة الفلكلورية والعربية يستعيرها الناس للحظات لالتقاط الصور. وهي عبارة عن عباءات وعُقل وحطاطات وسراويل. أما المظهر الذي مألوفا للصور في بعلبك كان السلاح الذي كانوا يحضرونه معهم. حيث كان أهالي المنطقة يؤمنون أن السلاح زينة الرجال وكانوا يتزينون فيه حتى في صورهم”.
التصوير حرفة
يلفت شمص الإبن إلى أن “التصوير في ذاك الزمن لم يكن بالأمر السهل كما في وقتنا الحالي بل كان بحاجة إلى الكثير من المهارة والموهبة لدى المصور. العملية كانت بمعظمها يدوية فالصور كانت احيانا تظهر غير واضحة وبحاجة إلى روتشة يدوية. فكان المصور هنا رساما ً مبدعاً فيستعمل قلم الرصاص واقلام الفحم لإظهار الصورة بأحسن حال”.
ويضيف “هكذا يمكن القول إن التصوير لم يكن مهنة بقدر ما كان حرفة وكان له الفضل في ارشفة وتأريخ حقبة والحفاظ على التراث يوم كان للصورة قيمتها”. يحتفظ شمص اليوم بالكثير من الصور التاريخية لمدينه بعلبك واحداث مدينة بعلبك منها صور لجنازة الشيخ حبيب آل إبراهيم، وصور لسماحة الإمام الصدر على مرجة رأس العين في بعلبك.إضافة إلى صور لآثار واحتفالات في قلعة بعلبك، ولرجالات المدينة والمنطقة.
كاميرات قديمة
وعن الكاميرات المستخدمة في استديو التصوير، يقول عصام “كانت الكاميرات في تلك الحقبة تختلف عن كاميرات اليوم، وقد كان للكاميرا وهرتها، فكانت بمجرد ما توجه إليهم يغيرون ملامحهم لتبدوا في قمة الجدية والرصانة”.
ويضيف “كانت الكاميرا عبارة عن ستاند خشبي وعن تايمر زمني يدوي يحدد زمن التعرض للضوء للتحكم بالبياض والسواد في الصورة. وآلات طباعة روسية تعتمد على العدسة المضغوطة وضوء الكهرباء العادي، وأدوية تحميض َوتثببت للصورة”.
أرشيف قيّم
يشير شمص الابن إلى أنه يملك اكثر من مليون ونصف نيغاتيف. ولفت إلى أنه مؤخراً كان البعض من استوديوهات بعلبك يعتمدونه كأرشيف للصور ويستعيرونها منه ولا يعيدونها، لذلك فُقد جزء من الأرشيف.
وحول الإستفادة من هذا الأرشيف، يؤكد شمص رغبته بإقامة معارض في قلعة بعلبك مستخدماً هذه الصور ولكنه يعتبر أنه مشروع مُكلف لا طاقة له به ولكنه لا يغيب عن ذاكرته.
خرجت من لقائي مع عصام شمص بعد أن انهيت مقابلتي معه، لكن لم أغادر دفعة واحدة من ذلك الاستديو. ما زالت تلك الصور القديمة عالقة في عيوني، مشاهد وحكايات وكنوزا للعلم والثقافة والمتعة.