استعادة رأس أشمون.. آثار لبنان المنهوبة في دائرة الضوء من جديد
انشغل الرأي العام اللبناني في الأيام الماضية باستعادة لبنان من ألمانيا قطعة أثريّة مسروقة من معبد أشمون الأثريّ، بعد وقتٍ قصير من اكتشاف أنّها معروضة في مزاد علنيّ، بحسب ما أعلنته وزارة الثقافة. وتسلّم السفير اللبنانيّ في برلين مصطفى أديب القطعة المعروفة باسم رأس أشمون من رئيس قسم الممتلكات الأثريّة والفنّيّة في الشرطة الجنائيّة في ولاية بافاريا، جنوبيّ ألمانيا.
استعادة القطعة الأثرية الهامة والنادرة، تُعيد فتح ملف الآثار المنهوبة من لبنان، وهو ملف كبير وضخم، حيث لعبت الحروب بنسخاتها المتعددة وتداعياتها الكارثية، الدور الأساسي بضياع جزء كبير جدًا من تاريخ لبنان وتراثه الأثري وبعضه نادر، إذ شلّعت الحرب وسيطرة الميليشيات هذا الملف على الفوضى، فسرق من الآثار ما سُرق وتمّ تهريبه إلى الخارج، أيضًا أدّت المعارك التي دارت في أكثر مناطق لبنان إلى تدمير جزء آخر لا يقلّ أهمية عن الذي سُرق.
بالعودة إلى استعادة رأس أشمون، وبحسب وزارة الثقافة، فإنّ عمليّة استعادة القطعة الأثرية جاءت “في سياق المبادرة التي قامت بها وزارة الثقافة اللبنانيّة بالتعاون مع وزارة الخارجيّة اللبنانيّة، ممثّلة بالسفارة اللبنانيّة في برلين”، فيما وجه وزير الثقافة محمّد وسام المرتضى كتاباً لاستعادة القطعة الأثريّة، بعدما كانت مدرجة للبيع ضمن لائحة مزاد منظّم من قبل دار غورني أند موش Gurney & Mosch، المتخصّص بعرض العملات والقطع الأثريّة، في مدينة ميونخ في ولاية بافاريا.
وأثنت وزارة الثقافة على ما بذلته وزارة الخارجيّة الألمانيّة وجهاز الشرطة الجنائيّة في ولاية بافاريا، ودار المزاد غورني أند موش، لافتةً إلى أنّه “سيصار إلى شحن القطعة الأثريّة المستعادة الى لبنان بالطرق المناسبة وتسليمها الى وزارة الثقافة”.
رأس أشمون
بالعودة إلى رأس أشمون الأثريّ الذي استعاده لبنان، فقد اكتشف في سبعينيّات القرن الماضي أثناء الحفريّات التي كان قد أشرف عليها رئيس البعثة الأثريّة الفرنسيّة في لبنان موريس دونان في موقع بستان الشيخ، بالقرب من مدينة صيدا في جنوب لبنان، بين العامين 1963 و1975.
ويضمّ الموقع الأثريّ معبداً لإله الشفاء الفينيقيّ أشمون، وعثر فيه خلال فترات التنقيب على آلاف القطع الأثريّة. بعد اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة في العام 1975، نقلت أكثر من ألفيّ قطعة أثريّة، من بينها رأس أشمون الأثريّ، من مدينة صيدا إلى مدينة جبيل، شمالي لبنان. لكن المستودعات التي حفظت فيها هذه القطع تعرّضت لعمليّات نهب وسطو على أيدي إحدى المليشيات المشاركة في المعارك العام 1981، حيث سرقت قرابة 600 قطعة أثريّة، وجرى تهريبها إلى خارج لبنان.
وبعد انتهاء الحرب الأهليّة اللبنانيّة العام 1990، سعت الحكومة إلى استعادة المسروقات الأثريّة، ونجحت في العام 2009 باستعادة ثمانية تماثيل من الآثار المنهوبة، حيث جرى نقلها إلى المتحف الوطني.
اكتُشف رأس أشمون في سبعينيّات القرن الماضي أثناء الحفريّات التي كان قد أشرف عليها رئيس البعثة الأثريّة الفرنسيّة في لبنان موريس دونان في موقع بستان الشيخ، بالقرب من مدينة صيدا في جنوب لبنان
إله الشفاء
وفي الميثولوجيا الفينيقيّة، أشمون هو شاب من أصول بيروتيّة كان يهوى الصيد، وفي أحد الأيام وقعت الآلهة عشتروت في حبّه، فلاحقته وضايقته لاستمالة قلبه، ولكن، للهرب منها قام الشاب بتشويه جسده فمات، لكنّ عشتروت لم تستسلم للقدر، فأعادت حبيبها الى الحياة مسبغة عليه خصائص إلهيّة. ويُقال أيضاً إنّ بلدة قبرشمون في جبل لبنان لا تزال تحتفظ بأثار مدفن الإله الشاب، ومن هنا التسمية “قبر أشمون”، وهذه القصّة نجدها أيضا في الميثولوجيا المصريّة القديمة وإن بتفاصيل مختلفة مع “أوزيريس” و”إيزيس” و”ست”.
وفضلًا عن أنّ أشمون هو في الأصل إله الشفاء، إلّا أنّ قصة موته وانبعاثه جعلت منه إلهاً للخصوبة الكونيّة وللخضرة التي تموت كلّ عام وتعود الى الحياة.
وبصفته إله الشفاء، اندمجت شخصيّة أشمون الفينيقيّ بشخصيّة إله الطبّ الاغريقيّ الرومانيّ اسكليبيوس. فكلاهما على علاقة وثيقة بالثعابين، التي كانت تُربّى في المعابد وتلعب دوراً في شفاء بعض الأمراض. وعُثر على مقربة من معبد أشمون على ورقة من الذهب نُقشت عليها صورة أشمون إله الشفاء وهو يمسك بيده عصاً يلتف حولها ثعبان، والى جانبه صورة “إيجيا” إلهة الصحّة. لذلك يتمّ اليوم استعمال صورة الثعبان الملتفّ حول العصا كرمز للطبّ تمامًا كالإله أشمون.
وبحسب العلوم الأركيولوجيّة، فإنّ أصل كلمة أشمون مستمدّة من “الزيت”، الذي كانت له وظائف علاجيّة وطقوسيّة في الشرق الأدنى القديم. لذلك فأشمون هو “الشخص الذي يزيّت” أيّ الشخص الذي يشفي، وهذا ما كان سائدًا لدى معظم الحضارات القديمة، فضلًا عن أنّ أشمون يحتلّ مركز الصدارة بين آلهة صيدا. ممّا دفعهم إلى بناء المعبد في هذا الموقع القريب من نبع ماء، لأنّ المياه كانت تؤدّي دوراً رئيساً في طقوس الغسل المرتبطة بطقوس الشفاء.
معبد أشمون
بنـِيَ معبد أشمون في أواخر القرن السابع (قبل الميلاد)، خلال فترة حكم أسرة الملك أشمون عزر الصيدونيّة، وابتداء من العام 1963، انطلقت أعمال الحفريّات في ضواحي صيدا، من قبل المديريّة العامّة للآثار من خلال بعثة ترأّسها عالم الآثار الفرنسيّ موريس دونان الذي عمل لنحو خمسين سنة في التنقيب عن الآثار في كلّ من جبيل وأشمون وأم العمد في الناقورة. عُثر في حينه على بعض العناصر الهندسيّة المنحوتة من الرخام الأبيض الذي كان يؤتى به من جزيرة باروس اليونانيّة على متن البواخر.
وهناك أيضاً عددٌ من التماثيل الرخاميّة متوسّطة الحجم، لأطفال يحملون حيوانات يعرفون باسم أطفال أشمون، مرفقة بإهداءات طقوسيّة باللغة الفينيقيّة للإله أشمون، وهذه المنحوتات موجودة في المتحف الوطنيّ في بيروت، إلى جانب الجزء الأعلى من عمود رخاميّ حفرت عليه رؤوس ثيران.
لا يمكن الإحاطة في عجالة بكلّ هذا الإرث الحضاريّ، فلبنان غنيّ باللقى التاريخيّة، كما أنّ التنقيبات ربّما تكشف في المستقبل عن آثار جديدة، لكن يبقى الأهمّ متمثّلًا في استعادة المسلوب من آثار البلاد، واستعادة رأس أشمون يمثّل بقعة ضوء في ليل الإهمال وما شهد لبنان من ويلات وحروب، فهل سنكون جديرين بحماية إرثنا الثقافيّ؟