اقتصاد النازحين أسواق تنمو وأخرى تنتكس
نحو 11 شهرًا هي المدّة الفاصلة بين اندلاع المواجهات في البلدات والقرى الحدوديّة في الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، وبدء توسُّع العدوان الإسرائيليّ الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي؛ إلّا أنّ هذه المدّة الطويلة، وقناعة معظم المواطنين بعدم إمكانيّة توسّع الحرب، لم يدفعهم إلى تحضير أنفسهم للنزوح طويلًا بعيدًا من منازلهم وقراهم.
ففي يوم الإثنين المجنون الذي شهد النزوح الأكبر، غادر الجنوبيّون وأبناء ضاحية بيروت الجنوبيّة وغيرها من المناطق التي تتعرّض اليوم للغارات التدميريّة، سريعًا وعلى عجل نحو مناطق آمنة، وهذا ما منع كثيرًا منهم من إحضار حاجيّاته الأساسيّة، حتّى أن بعضهم غادر منزله تاركًا وراءه أوراقه الثبوتيّة.
توزّع النازحون على مختلف الجغرافيا اللبنانيّة، وبالأخصّ بيروت التي تحوّلت بفعل هذا النزوح إلى مدينة شديدة الاكتظاظ بكثافة سُكّانية كبيرة جدًّا، حيث غدت شوارعها عبارة عن “موقف كبير للسيّارات”. لكن من جهة ثانية كانت لذلك انعكاسات كبيرة على أسواق بيروت التجاريّة إذ تأثّرت إيجابًا وسلبًا بفعل موجة النزوح، فمن جهة امتلأت الأسواق والساحات والمقاهي بالوافدين الجُدد، إلّا أنّها خسرت في المقابل حركتها السياحيّة والتجاريّة والاقتصاديّة.
تأثير النازحين على الاقتصاد
استقبلت عاصمة الجنوب، صيدا، حيّزًا كبيرًا من النازحين الذين توزعوا بين مراكز الإيواء ومنازل خاصّة. عن تأثير ذلك على حركة الأسواق، يلفت عضو لجنة تجّار صيدا، محمود حجازي في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّ “هناك وجهان للحركة الاقتصاديّة التي أحدثها النازحون في المدينة، فمن جهة نجد زيادة ملحوظة في الاستهلاك وصلت في بعض القطاعات إلى نحو 40 في المئة، وهي تركّزت على الموادّ الغذائيّة، والبضائع الشعبيّة من ملابس وأدوات كهربائيّة صغيرة وغيرها، وهذا ما يُفسّر ازدياد أعداد المواطنين القاصدين للسوق الشعبيّة”.
توزّع النازحون على مختلف الجغرافيا اللبنانيّة، وبالأخصّ بيروت التي تحوّلت بفعل هذا النزوح إلى مدينة شديدة الاكتظاظ بكثافة سُكّانية كبيرة جدًّا، حيث غدت شوارعها عبارة عن “موقف كبير للسيّارات”
ومن جهة ثانية يتابع حجازي، “هناك تراجع في المبيعات في بعض القطاعات بنسبة تصل إلى 20 في المئة، وهذه القطاعات تتركّز على بعض الكماليّات مثل المفروشات أو البضائع ذات الجودة العالية والأسعار المرتفعة”. ويُبرّر حجازي ذلك بأنّ “النازحين وأهالي المدينة لديهم خوف من استمرار الحرب إلى وقت طويل وعدم يقين من المستقبل، ممّا يجعلهم حذرين في شراء الحاجيّات غير الأساسيّة”، مضيفًا أنّه “من الملاحظ ازدياد البسطات أمام المحال التجاريّة بشكل مضطرد؛ ففي السابق كنّا نسمح للمحلّات باستغلال مساحة ضيّقة جدًّا من الأرصفة لعرض بعض البضائع، لكن بعد النزوح باتت هذه البسطات تمتدّ على مساحات كبيرة، وهذا ما نُحاول معالجته بكلّ هدوء وبعيدًا من أيّ إشكالات قد تحدث”.
ويلفت حجازي إلى أنّ “معظم النازحين في صيدا هم من شرائح اجتماعيّة فقيرة، إذ إنّ القسم الأكبر من الميسورين مادّيًّا فضّل النزوح إلى بيروت أو مناطق أخرى، وهذا ما يحدّ من عجلة الحركة الاقتصادية”. وعن أسباب ذلك، يقول حجازي: “قد يكون خوفًا من امتداد الحرب إلى المدينة، فحارة صيدا متّصلة بشكل وثيق بها وجرى استهدافها أكثر من مرّة”.
فضلًا عن ذلك، لم تبقَ أسواق صيدا محصورةً في الاستهلاك نتيجة النزوح، بل تعداه إلى قيام جزء من النازحين، بنقل متاجرهم من مدن وبلدات الجنوب إلى صيدا. وفي هذا الصدد يُشير حجازي إلى أنّ “المدينة لطالما احتضنت محلّات تجاريّة تعود إلى أبناء القرى الجنوبيّة، وفي هذه الحرب، فضّل البعض القيام بهذه الخطوة بغية تحقيق هدفين، الأوّل هو نقل بضائعهم وحفظها بعيدًا من أماكن القصف، والثاني جني قوت أيامهم”، موضحًا أنّ ذلك “أدّى إلى ارتفاع بدل إيجار المحلّات في السوق الشعبيّة”.
الأسعار شبه مستقرّة
عن حركة البيع، يؤكّد صاحب أحد متاجر السمانة في حيّ التعمير في صيدا، وسيم مروّة، لـ “مناطق نت”، أنّ “نسبة المبيعات زادت نحو 20 في المئة إذ إنّ المنطقة التي يتواجد فيها متجري محاط بمركز إيواء (مدرسة الزعتري) وبكثافة سكّانيّة من النازحين”. ويتابع “على صعيد مجال عملنا لا يمكن أيّ مواطن الاستغناء عن الاستهلاك، بصرف النظر عن المستوى الاقتصاديّ للنازحين”.
وحول الزيادة في الأسعار، يؤكّد مروّة أنّ “سوق المواد الغذائيّة لم يشهد أيّ زيادة في الأسعار سوى في بعض المنتجات التي لا تتجاوز الـ 10 في المئة، في حين أنّ الـ 90 في المئة الباقية حافظت على أسعارها كما كانت قبل الحرب”، موضحًا أنّ “تلك الزيادة الطفيفة تُبرّرها الشركات المُستوردة بأنّها مرتبطة بزيادة التأمين على الشحن، وبجميع الأحوال فهي زيادة مقبولة ومحدودة”.
حول هذا الأمر، تشرح الخبيرة في الشؤون الاقتصاديّة والماليّة، ليال منصور، لـ “مناطق نت”، أّن “معظم البضائع في السوق اللبنانيّة هي بضائع مُستوردة وحافظت على أسعارها لأنّ نسب الاستيراد ما زالت نفسها، أمّا البضائع المُصنّعة في داخل البلاد فمن الطبيعيّ أن تزداد أسعارها لأنّ الطلب فاق القدرة الإنتاجيّة”. وتلفت إلى أنّه “في حال ازدادت تكلفة الشحن بسبب المخاطر أو حصار أو ما شابه فإنّ الأسعار ستشهد ارتفاعًا لأنّ العرض سينخفض أمام الطلب”.
آثار الأزمة على النازحين
ويأتي ذلك بعد سنوات من تراجع الحركة الاقتصاديّة التي شهدتها السوق اللبنانيّة منذ الأزمة الماليّة والانهيار اللذين يشهدهما لبنان منذ العام 2019 مرورًا بجائحة كورونا، إذ وصلت نسبة المحال والمؤسّسات التجاريّة التي أقفلت أبوابها في صيدا في تلك الفترة إلى 30 في المئة، وفقًا لحجازي.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الأزمة المصرفيّة انعكست بشكل كبير على النازحين ممّن خسر جزء كبير منهم مدّخراته في المصارف، الأمر الذي حدّ من قدرته الشرائيّة وأيضًا على مواجهة ظروف النزوح. إضافةً إلى أنّ كثيرًا من هذه العائلات تعتمد على التحويلات المصرفيّة، ولا سيّما من القارّة الأفريقيّة، إلّا أنّ هذه التحويلات تراجعت بنسب كبيرة جراء الأزمة أيضًا.
فورة اقتصاديّة
من جانبه، يصف رئيس جمعيّة تجّار الشمال، أسعد الحريري، في حديث لـ “مناطق نت” الحركة الاقتصاديّة الناجمة عن النزوح بـ”الفورة وليست بالنموّ الاقتصاديّ الحقيقيّ، فهذه الحركة تحصل لأنّ النازحين مضطرّون إلى شراء بعض الاحتياجات، بعد أن خرجوا من منازلهم من دون أن يحملوا شيئًا معهم”، مضيفًا أنّه يتوقع “ركودًا اقتصاديًّا بعد انتهاء الحرب وعودة النازحين”.
ويلفت الحريري إلى أنّ “هناك نقصًا في بعض المواد الأساسيّة التي يحتاجها النازحون، من فرش وحرامات ومخدّات (وسادات) وغيرها، إذ إنّ الطلب أكثر من العرض، ممّا أدّى إلى تضاعف أسعارها بأكثر من 20 في المئة، كذلك فإنّ الإيجارات ارتفعت من دون شكّ”. ويُشير إلى أنّ “المطلوب هو تحرك وزارة الاقتصاد لضبط الأسعار”، موضحًا أنّ “النازحين لم يندمجوا بسوق العمل ولم يفتتحوا محلّات”.
زيادة المبيعات وتراجع الأرباح
“لكن يبدو أنّ تحسّن الحركة التجاريّة اصطدم بالواقع الإنسانيّ”، توضح صاحبة إحدى المؤسّسات التجاريّة المعنيّة ببيع البياضات في صيدا، والتي فضّلت عدم ذكر اسمها، إذ قالت لـ “مناطق نت” إنّها تنظر إلى الظروف الحاليّة من عيون إنسانيّة، “وهذا ما يدفعني إلى مراعاة الظرف الحاليّ للمواطنين وتخفيض الأسعار”، مضيفةً أنّ “هذا ما يُقلّل من هامش الربح كثيرًا خصوصًا في البضائع التي لا نصنّعها، ممّا أدّى إلى زيادة المبيعات وانخفاض الأرباح”.
وتُشير السيدة إلى أنّ “العجلة الاقتصاديّة تحسّنت من ناحية وتراجعت من ناحية أخرى، فبات لدينا مزيد من الزبائن، ولكن في الوقت عينه هذه الحال غير دائمة، إذ إنّ هؤلاء الزبائن سيعودون إلى بلداتهم وقراهم ولن يكونوا زبائن ثابتين”. وتتحدّث عن أنّ “المعامل التي ما زالت تعمل ولديها قدرة إنتاجيّة محدودة، وبات هناك احتكار كبير في السوق”، وتضيف أنّ “هناك كثيرًا من الموادّ التي نقوم ببيعها ولا نتمكّن من إعادة شراء بديل عنها بسبب سعرها المرتفع جدًّا، فالفرشة التي كنّا نستلمها بثمانية دولارات بتنا نشتريها بالجملة بـ 25 دولارًا، بخاصّة في أوّل أسبوعين من النزوح”.
الحريري: هناك نقصًا في بعض المواد الأساسيّة التي يحتاجها النازحون، من فرش وحرامات ومخدّات (وسادات) وغيرها، إذ إنّ الطلب أكثر من العرض، ممّا أدّى إلى تضاعف أسعارها بأكثر من 20 في المئة
وتؤّكد السيّدة أنّ “هناك قسمًا من الزبائن يملكون قدرة شرائيّة مرتفعة، وهؤلاء من نعتمد عليهم بشكل رئيس، ونعرفهم من طلبهم لماركات معيّنة، إلّا أنّ هؤلاء نسبتهم قليلة”.
زحلة تُعاني اقتصاديًّا
على عكس صيدا وطرابلس، فإنّ مدينة زحلة كانت استثناءً هذه المرّة. فوفقًا لرئيس جمعيّة تجّار زحلة، زياد سعادة، الذي تحدّث لـ”مناطق نت”، فإنّ “العجلة الاقتصاديّة شبه معدومة، باستثناء الحاجات الأوّليّة، أمّا بقيّة القطاعات فتعيش حال ركود، إذ إنّ النازحين يهتمّون بتأمين المستلزمات اليوميّة فقط”، مضيفًا أنّه “من المستغرب أنّ بعض القطاعات مثل الألبسة وغيرها لم تشهد أيّ تحسّن على غرار كثير من المناطق”.
من الصعب تحديد أسباب عدم تأثير النازحين على الدورة الاقتصاديّة في زحلة، ولكن يمكن تفسير ذلك بأنّ “في المدينة حالتان من النزوح، منها وإليها، فتاريخيًّا تستقطب زحلة محيطها وتُشكّل مركزًا اقتصاديًّا وتجاريًّا وصناعيًّا للبقاع. وبالتالي فإنّ الاستهلاك المحلّيّ تراجع لأنّ كثيرًا من أبنائها وأبناء المناطق المحيطة نزحوا، وفي المقابل تحسّن الاستهلاك بسبب وفود عدد كبير من النازحين من مناطق بعيدة”.
ويؤكّد سعادة أنّ “المدينة تتعرّض لعدوان مباشر، فعلى سبيل المثال، جرى استهداف حي الكرك الذي يُعتبر جزءًا من المدينة أكثر من مرّة، كذلك استهدفت حزرتا الواقعة على مدخل المدينة، وجرى استهداف أوتوستراد زحلة أيضًا”.
ويوضح سعادة أنّه “بشكل عام فإنّ المدينة تعيش استنزافًا اقتصاديًّا منذ وقت طويل، وفي حين شهدنا بعض التحسّن في فصل الصيف إلّا أنهّ منذ توسعّ الحرب بات الوضع مأسويًّا فهناك كثير من المؤسّسات التي لا تستطيع تأمين مدخولها اليوميّ ونتلقّى بشكل يوميّ شكاوى في هذا السياق”.
على الرغم من مساهمة النازحين في الاستهلاك في بعض القطاعات، ولا سيّما المأكل والملبس، إلّا أنّ هذا الطلب لم ينعكس على حجم الاستهلاك اللبنانيّ العام الذي تركّز في المناطق المُستضيفة على حساب المناطق التي نزح إليها المواطنون.
ومهما يكن، فإنّ التحدّي الأكبر سيظهر بعد انتهاء الحرب، وهو تحدٍّ مرتبط بإعادة الإعمار وعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم، خصوصًا أنّ حجم الدمار كبير جدًّا مقارنةً مع الدمار الذي نجم من حرب تمّوز 2006، وفي حال الفشل في هذا التحدّي فإنّ عجلة الاقتصاد، وبخاصّة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيّة، ستكون مُهّددة بالركود التام.