الأديبة الجنوبيّة حياة شرارة حياتها بين حدّين
كانت حياة محمّد شرارة ابنة أبيها، ورثت عنه حبّ الأدب والشيوعيّة التي التزمت بها كعقيدة ثابتة في تصوّراتها الرؤيويّة، محبّة للأدب الروسيّ، باحثة نهمة، ومتمسّكة بعراقيّتها التي أعطتها من علمها وفكرها وترجماتها كثيرًا.
ولكن العراق بكلّ ما فيه من أفق وثراء ثقافيّ، تحوّل إلى سجن كبّل حياة “حياة”، في ظلّ حكم “الديكتاتوريّة المستبدة” في عهد صدّام حسين، بعدما سُلبت منها كلّ منافذ الأمل، فمنعت من السفر ومن النشر، ومُنعت ابنتها من الوظيفة؛ اتّخذت وابنتها قرارًا بالانتحار مسجّلةً موقفًا احتجاجيًّا، سُطّر في تاريخ الأدب والثقافة العربيّة، وبقي جرحًا غائرًا لم تلتئم ثناياه حتّى انكشاف تفاصيل حقيقته.
شرارة من لبنان إلى العراق
في العام 1920 وصل محمّد علي شرارة من بنت جبيل اللبنانيّة إلى النجف في العراق للدراسة الحوزويّة، وخلال إقامته حصل على الجنسيّة العراقيّة. في العام 1928 أسّس ونخبة من زملائه اللبنانيّين والعراقيّين جمعيّة “الشبيبة العامليّة النجفيّة”، وكان الهدف منها إصلاحيًّا تنويريًّا، والتجديد في المناهج الدراسيّة في الحوزة العلميّة في النجف.
في العام 1930 عاد شرارة إلى لبنان وتزوّج بزهرة بنت الشيخ عبد الكريم الزين، ثمّ رجع إلى العراق وأنجب بناته مريم وبلقيس وحياة، وفي العام 1936 ترك الدراسة الدينيّة وعمل مدرّسًا للغة العربيّة وتحوّل نحو الفكر الماركسيّ. وبين مدّ وجزر وقيام حكومة وانقلاب أخرى، تعرّض للاعتقال وخسر وظيفته في التدريس، وفي العام 1946 انتقل إلى منطقة الكرادة وهناك كان منزله ملتقى للأدباء والشعراء أمثال: نازك الملائكة، محمّد مهدي الجواهري، بدر شاكر السياب، بلند الحيدري وغيرهم من نخبة ذلك الزمن.
تميّزت مواقفه السياسيّة بالمعارضة والثوريّة واليساريّة فتعرّض للاعتقال والمطاردة والفصل، كما يذكر الكاتب سلمان رشيد محمّد الهلالي في مقال بعنوان: “محمّد شرارة ومساراته السياسيّة والفكريّة في العراق حتّى عام 1958″، نُشر في المدن العام 2023.
كان ناقدًا أدبيًّا وثقافيًّا مميّزًا في عصره، وله كثير من الدراسات النقديّة عن الشعر الحرّ، ونشر مقالات تأثّره بالفكر الماركسيّ حيث تناول قضايا الفلّاحين والنظام الإقطاعيّ، وبؤس المرأة الريفيّة، وغيرها من موضوعات اجتماعيّة وإصلاحيّة. توفي في العام 1979 ودفن في مقبرة السلام (النجف) في العراق.
حياة عاشقة الأدب الروسيّ
ولدت حياة محمّد شرارة، في العام 1935 في مدينة النجف، انتقلت العائلة إلى بغداد في الأربعينيّات، وتأثّرت بالجوّ الأدبيّ الذي كان شائعًا في عائلتها، إذ كان لوالدها صالون أدبيّ يرتاده أعلام الشعراء والمثقّفين. انتظمت في فترة شبابها بالحركة اليساريّة، نتيجة الأحداث السياسيّة التي حصلت في العراق. في الخمسينيّات هربت إلى سوريّا ومنها إلى مصر لدراسة اللغة الإنكليزيّة، وبعد سقوط الملكيّة في العام 1958، عادت رفقة والدها إلى العراق والتحقت بجامعة بغداد لمتابعة دراستها.
في العام 1961 سافرت إلى “روسيا” لاستكمال دراستها في الأدب الروسيّ، واختارت لأطروحتها الجامعيّة عنوان “تولستوي فنّانًا” تميّزت في مرحلة دراستها بهدوئها وجدّيّتها ومثابرتها، وحظيت باحترام الجميع. وهناك في موسكو تركت التنظيم الشيوعيّ إلى الأبد وبقيت متمسّكة بفكرة اليسار وأهدافه، “ربّما خافت حياة أن تبتلعها أيديولوجيّة الحزب وأن تصبح آلة مسخّرة له” تقول أختها بلقيس شرارة.
ولدت حياة محمّد شرارة، في العام 1935 في مدينة النجف، انتقلت العائلة إلى بغداد في الأربعينيّات، وتأثّرت بالجوّ الأدبيّ الذي كان شائعًا في عائلتها، إذ كان لوالدها صالون أدبيّ يرتاده أعلام الشعراء والمثقّفين
بعد عودتها إلى العراق العام 1968، عيّنت في كلّيّة اللغات في جامعة بغداد كأستاذة للأدب الروسيّ، ومع بدء نظام صدّام حسين الذي لاحق المثقّفين والأدباء وانصرف إلى تنكيد عيشهم، نُقلت إلى وزارة الصناعة كمترجمة في أحد المشاريع الروسيّة في الديوانيّة، ثم أُعيدت إلى كلّيّة اللغات في قسم اللغة الروسيّة عندما لم يجدوا عنها بديلًا.
في العام 1969 تزوّجت من الطبيب الجرّاح العراقيّ محمّد سميسم، وأنجبت ابنتيها مهى وزينب، كان شيوعيّ التوجّه، تعرّض للملاحقة على خلفيّة عضويّته في الحزب الشيوعيّ العراقيّ، سُجن وعُذّب وقد توفيّ اغتيالًا في العالم 1982.
وجدت حياة في الأدب الروسيّ حياتها ورؤاها الفكريّة، وكانت اختياراتها تعكس اهتماماتها وهواجسها الثقافيّة والاجتماعيّة. ترجمت عن الروسيّة وكتبت مقالات عن الشعر والأدب الروسيّ، نذكر منها: “ماياكوفسكي” (1976)، “مدخل إلى الأدب الروسيّ” (1978)، “بيلنكسي” (1979)، “تأملات في الشعر الروسيّ” (1981)، “من ديوان الشعر الروسيّ” (1983)، “مسرحيات بّوشكين” (1986) بحث في مجلّة “الأقلام” عن سيرغي ينسين بعنوان “ينسين في الربوع العربيّة” (1989) وغيرها.
وفي النقد العربيّ نشرت “صفحات من سيرة نازك الملائكة” (1994). وفي الراوية “إذا الأيّام أغسقت” نُشرت العام 2002، ورواية لم تُنشر بعد بعنوان: “وميض برق بعيد”.
الحياة بين حدّيْن
“كان الغضب يدفعني أن أردّد في دخيلتي أن لا بدّ من القيام بعملٍ سريع لمواجهة هذه الحال، ولكن أنّى لنا أن نعمل، ما دامت القدمان واليدان مقيّدتين بالأغلال، والفم مشدود بوثاق متين! إلى من نشتكي؟ لا توجد حتّى صحف معارضة مزيّفة يمكن أن تنشر على صفحاتها شكوى هادئة وليس اعتراضًا…”.
هذا المقطع ورد على لسان بطل روايتها “إذا الأيّام أغسقت” والتي نُشرت بعد وفاتها في العام 2002 عن دار المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، وتتحدّث عن معاناة أستاذ جامعيّ في زمن الرقابة، وهو يحكي كثيرًا عن واقع المثقّفين في العراق في تلك المرحلة السياسيّة الصعبة.
وصل صدّام حسين إلى الرئاسة في تمّوز العام 1979 بعد سنوات من التخطيط، وأعلن نفسه رئيسًا للجمهوريّة ورئيسًا لمجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوّات العراقيّة. وقد عمد على تقوية أواصر حكمه بحملة إعدامات واعتقالات شملت معارضين، وسنّ قوانين صارمة، واعتمد سياسة “التبعيث” لإحكام قبضته على السلطة.
على الرّغم من حيادها السياسيّ في تلك الفترة، إلّا أنّها تعرّضت للملاحقة السياسيّة من قبل الحكومة. تُشير بلقيس شرارة في مقال نُشر في مجلّة “إيلاف” في 25 آب (أغسطس) 2007، بعنوان “حياة شرارة بين الواقع ورواية إذا الأيّام أغسقت”، إلى نشأة حياة في جوّ سياسيّ أدبيّ ممّا أوجد لديها حبّ الأدب والوعي بالظلم في المجتمع جرّاء ما تعرّض له الوالد من ظلم واعتقال. وأنّها انتمت إلى الحزب الشيوعيّ وهي في السادسة عشرة من عمرها، واعتزلت العمل السياسيّ بعد عقد.
تحت عين الرقيب
وتحكي شرارة، عن مرحلة سيطرة حزب البعث على جميع المرافق الحكوميّة، وأنّها كانت وكثير من الأكّاديميّين أمام خيار من اثنين، إمّا ترك التعليم الجامعيّ أو الانتساب إلى البعث. وكانت كرامتها حائلًا دون التخلّي عن قناعاتها الحزبيّة والانتساب إلى البعث. مؤكّدةً موقفها المستقِلّ وتفرّدها الذي لا تتحمّله الأنظمة الشموليّة. وتتابع بلقيس: “وهذا ما عرّضها لصعوبات ومشاكل أثناء تواجدها في الجامعة… عَين الرقيب كانت تفتح الرسائل المرسلة من قبل عائلتها إليها قبل أن تصلها، وكان في الجامعة غرفة للتحقيق ومعاقبة للأساتذة المشكوك في أمرهم”.
كانت حتّى الصفوف ملغومة بالطلّاب الوكلاء من الدوائر الأمنيّة التي تطالب هؤلاء بتقارير عن كلّ أستاذ جامعيّ، أرادت حياة استعادة جنسيّتها اللبنانيّة والسفر خارج السجن الكبير ولكنّها مُنِعت من السفر، تقول أختها بلقيس شرارة: “كانت حياة تشعر أنّها مراقبة في الكلّيّة والدار، إنّه شعور مخيف ..”.
لم يعد بإمكان حياة التدريس في هذا الجوّ الخانق، في العام 1994 قدّمت طلبًا بإحالتها إلى التقاعد، وعندما قوبل الطلب بالرفض، انقطعت عن الذهاب إلى الجامعة، فاعتُبرت مستقيلة وحُرمت من أتعابها، فاتّجهت نحو البحث والتأليف متحمّلة الحصار السياسيّ.
لأكثر من ثلاثة عقود، حكم صدّام العراق بالخوف، وكانت مهى ابنتها ضحيّة هذا الخوف وتعرّضت أيضًا للرفض من التوظيف بسبب اسم والدتها.
صرخة أخيرة
كان الانتحار هو الصرخة الأخيرة في وجه كلّ العذابات، وإعلان الاحتجاج الأقوى والأكثر مأسويّة في حياة شرارة وبناتها. وتعدّدت الروايات حوله، فمن قائل أنّ ابنتها مهى كانت السبّاقة إلى اختيار موتها باستنشاق الغاز بعدما تعرّضت للرفض الوظيفيّ وشعورها بالاختناق والكآبة، وعندما عادت والدتها إلى المنزل شعرت بالعجز وتملّك اليأس منها ففتحت قارورة الغاز واستسلمت للموت.
ومنهم من يشير إلى أنّ قرار الانتحار كان قد اتُّخذ جماعيًّا بين الأمّ وبناتها، فأدخلت الأمّ الغاز إلى غرفة الاستحمام وجلسن متعانقات بانتظار الموت الذي كان هو السبيل الوحيد أمامهنّ للخلاص، وفي اللحظات الأخيرة غيّرت ابنتها زينب رأيها ونجت بنفسها. ورواية أخرى تشير إلى أنّ موت حياة وابنتها كان اغتيالًا مدبّرًا.
نجت زينب من الموت بأعجوبة واختارت سبيل الحياة لمواصلة طريقها. وبوصول مريم شقيقة حياة إلى العراق وجدت زينب منجوّها بالهروب والصمت. حتّى أنّ دفتر مذكّرات حياة أوُدع بأمانة أختها مريم ولم يُفصح عن تفاصيل منه لحدّ اليوم، والتزمت زينب بالتكتّم والامتناع عن مشاركة أيّ تفصيل عن حادثة الانتحار المأسويّة.
كتبت شقيقتها بلقيس شرارة: “… كان أوّل يوم من شهر آب العام 1997، يومًا مُحرقًا بحرارته عندما غادرت حياة شرارة بغداد إلى الأبد… كانت خسارة انعكست ظلالها على محبّيها وشملت حتّى تلامذتها…”.
في الختام وعلى حدّ قول المتنبّيّ: “إذا لم يكن من الموتِ بدُّ فمن العجز أن تموت جبانًا”.
عاشت حياة شرارة التزامها الوطنيّ والأخلاقيّ تجاه نفسها وتجاه وطنها وأهلها، رفضت المساومة على الحقوق وعلى كرامتها، ولم تستسلم لقاتلها وقاتل آلاف العراقيّين في زمن الدكتاتوريّة والرجعيّة. ومهما كانت طريقة الموت، ولو جزمت الحقائق أنّه كان انتحارًا، لا يُعفي ذلك النظام السائد آنذاك من دمها، وهي القائلة في رواية “إذا الأيام أغسقت” واصفة حالة الخوف والقلق: “والقلق والترقّب لا يُضعفان الأعصاب وحدها، إنّما يبريان الروح وينهكانها ويشوّشان الذهن”.