الأرملة في المجتمع إرث عائليّ وتنميط واضطهاد

“الأرملة الصالحة والشريفة الوحيدة هي الأرملة المدفونة”.

مثل برازيلي

اختلفت مراسم دفن الأرامل عبر الثقافات وعلى مرّ الأزمنة، إلّا أنّ الدفن المجازيّ يظلّ أكثر انتشارًا حتّى لحظة كتابة هذا المقال، في أماكن عديدة من العالم، حيث “الحضارة” عاجزة عن محو التصوّرات المتجذّرة بشأن مصير الأرامل، إذ تعيد البنية الأبويّة إنتاج مشهديّاتها الذكوريّة على مسرح حياتهنّ المُعاشة.

وبينما قد تجد بعض النساء في الترمّل خلاصًا من زوج سيّئ أو طريقًا إلى الإرث، تظلّ كثيرات أخريات رازحات تحت وطأة الهويّة الجديدة “كأرملة” التي فُرضت عليهنّ بمجرّد فقدانهنّ أزواجهنّ.

تُقصى معظم الأرامل من حسابات المجتمع، ويُنظر إليهنّ وفق تصنيفات متباينة تبعًا للظروف التي يواجهنها: فقد يُنظر إليهنّ وأطفالهنّ بعين الشفقة، يُدرجن ضمن المُستحقّات للمساعدات الإنسانيّة، يُدفعن نحو زواج المتعة، أو يُتركن فريسة للإهمال، والتحرّش، والوحدة، والنبذ…

التشهير بالأرامل

من بين الحوادث التي شهدتها، كانت قصّة أرملة فقدت زوجها حديثًا ولديها عدة أطفال. استيقظ الحيّ ذات صباح ليجد أوراقًا متناثرة أمام البيوت ومعلّقة على الجدران، بل امتدّ الأمر إلى الأحياء المجاورة. كُتب عليها اسمها ورقم هاتفها، مرفقًا بعبارة تصفها بـ “العاهرة”.

الأرامل ضحيّة العادات والمجتمع

يُعدّ هذا النمط من التشهير والإشاعات الكاذبة عن الأرامل الوسيلة الأسهل لتحقيق مآرب الفاعلين، التي تتعدّد بين محاولة الاستيلاء على ممتلكات وميراث الزوج عبر إلحاق الضرر بزوجته، أو ممارسة ضغوط اجتماعيّة لاستغلالها جنسيًّا. يزداد انتشار هذا الأسلوب خلال الحروب والنزاعات، حيث تتزايد أعداد النساء اللواتي يفقدن أزواجهنّ.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك النكتة التي راجت في لبنان مطلع العام 2012، حيث استُخدمت للسخرية من وضع النساء اللواتي ترمّلن بسبب الحرب في سوريّا: “صباح المهدي، عندك داخلي؟ منركّبلك داخلي”. الإيحاء الجنسيّ فيها واضح للغاية، إذ كانت تشير ضمنيًّا إلى زواج المتعة من الأرامل حديثات الفقد، من أبناء البيئة نفسها.

إلى جانب التشهير، عُرفت سابقًا اتّهامات الأرامل بممارسة السحر، إذ كان يُنظر إليهنّ باعتبارهنّ ذوات “عيون شرّيرة”. وكان بعضهنّ يجبرن على اجتياز “اختبار الماء”، حيث تقوم الفكرة على أنّ من تغرق بريئة، أمّا من تطفو فتُعدّ ساحرة دون شكّ. كذلك كان أولاد الأرامل يُنسبون إليهنّ بدلًا من آبائهم، في محاولة لانتقاص قيمتهم وإلصاق شبهة الخيانة بأمّهاتهم.

حصان جامح

كانت المرأة التي فقدت زوجها تُشبَّه بحصان جامح فُقدت السيطرة عليه، سواء جنسيًّا أو اجتماعيًّا، لذا كان لا بدّ من “إعادة النظام” عبر فرض قيود على حياتها، كتقييد حركتها وتنقّلها. تصف إحدى النساء معاناتها بعد وفاة زوجها: “صار ارتداء الملابس والخروج عبئًا منذ فقدت زوجي، فلمن ترتدي ولمن تتزيّن؟ وهل يحقّ للمرأة أن تبتسم؟”. كلّ هذه المراقبة والتشدّد ليست سوى إجراءات احترازيّة لضمان أن تبقى الأرملة تحت السيطرة، وكيلا يفقد المجتمع “اللجام” الذي يكبحها.

كانت المرأة التي فقدت زوجها تُشبَّه بحصان جامح فُقدت السيطرة عليه، سواء جنسيًّا أو اجتماعيًّا، لذا كان لا بدّ من “إعادة النظام” عبر فرض قيود على حياتها، كتقييد حركتها وتنقّلها

حتّى إنّ النساء الأخريات ربّما يشاركن في هذه العملية، إذ ينظرن إلى الأرامل بشفقة، أو احتقار، أو ارتياب، أو حتّى بعداء، باعتبارهنّ تهديدًا محتملًا، وكأنّهنّ موجودات فقط لإغواء أزواجهنّ. هذه المواقف تجاه الأرامل جزء من المحاصرة التي تُبقي النساء في أماكنهنّ، فالأرملة تفقد مكانتها الاجتماعيّة، إذ تُختزل قيمتها كإنسان في زوجها، فهي “زوجة فلان”، وإن لم تعد كذلك، تصبح خطرًا متنقّلًا على الجميع.

ويخضع وجودها نفسه للتساؤل: لماذا مات بينما ما تزال هي حيّة؟ وعليها أن تعبّر عن حزنها بانفعالات مشحونة حتّى يكون مقنعًا للعامّة، فحزنها ليس شأنًا فرديًّا يخصّها وحدها.

في جذور الترمّل

في كتاب مينيكه شيبر الأرامل: التاريخ المسكوت عنه، وهو من بين الكتب القليلة التي تتّبع المسار التاريخيّ والأنثروبّولوجيّ للترمّل عبر العالم وفي حقبات مختلفة، يشير مصطلح “الترمّل” تقليديًّا إلى الخواء. ففي اللغة السنسكريتيّة، تعني كلمة ﭬيدهوا “المعدمة”، أمّا الكلمة اللاتينيّة ﭬيدواتا (جعله معدمًا، أفرغه)، فهي جذر كلمة “أرملة” في عديد من اللغات الأوروبّيّة، مثل Witwe في الألمانيّة، وVeuve في الفرنسيّة. كذلك فإن الكلمة اليابانيّة المقابلة لـ”أرملة” (موبيجين) تعني حرفيًّا: “تلك التي لم تمت بعد”.

على الجانب الآخر، كان وضع الأرمل أقصر زمنًا وأكثر قابليّة للتجاوز، حتّى أنّ بعض اللغات تفتقر إلى كلمة خاصّة به. فالأرمل ليس أرملة في جميع الأحوال.

في كتابها الترمّل (Widowhood)، ترى باتريشيا أوكويي أنّ الفجوة الهائلة في السلطة بين الرجال والنساء تمتدّ حتّى إلى الموت، حيث يُسقط التمييز الجندريّ على الأرواح كما يُمارس على الأحياء.

من تظاهرة في لبنان منددة بالعنف ضد المرأة بكل أشكاله (الصورة AFP)

تكثر الأمثال التي تصوّر الأرمل سعيدًا بفقدان زوجته، مثل: “الزوجة الميتة أفضل متاع في المنزل” (مثل كتالونيّ). كذلك يُنظر إلى الزواج مجدّدًا وكأنّه مجرّد استبدال لما فقد بنسخة أخرى، وكأنّ الزوجة شيء قابل للتغيير.

أما الترمّل في السرديّات الدينيّة، “يواجه آدم حوّاء على فراش موته بأقسى الاتّهامات، إذ يُجبرها خلال لحظة الوداع العاطفيّة على أن تعيد أمام أبنائهما، وأحفادهما سرد القصّة التي تُحمّلها مسؤوليّة جلب الموت إلى العالم. بعد وفاته، تمضي حوّاء في حدادها متمرّغة في الطين، مكلومة وقانطة”.

وأيضًا فإنّ وجود الأرملة ضروريٌ لإقامة الحداد على روح الزوج، فوفقًا للتقاليد اليهوديّة، هي من تغسّله قبل دفنه. أمّا من سيحدّ عليها ويغسّلها حين تموت، فهذا ليس من شأن الزوج!

النساء الأرامل كممتلكات

عوملت النساء كممتلكات في حياة أزواجهنّ، فما المصير الذي تؤول إليه ملكيّتهنّ بعد وفاة الزوج؟ ومن المسؤول عن أطفالهنّ وميراثهنّ؟ هذه الأسئلة، التي تعود جذورها إلى قرون طويلة، ما زالت تلعب دورًا قانونيًّا واجتماعيًّا كبيرًا في تحديد مصير الأرامل.

يُعدّ زواج الأرملة من شقيق زوجها انتقالًا لملكيّتها إلى الوريث، وهي ممارسة قديمة معروفة باسم الزواج من شقيق الزوج (levirate marriage)، وأتت من الكلمة اللاتينيّة levir التي تعني “شقيق الزوج”. لم تكن عديد من الأرامل يحظين بحقّ تقرير مصيرهنّ، بل كان يتمّ قمعهنّ: فمن سيسمح لهنّ بالزواج مجدّدًا من شخص غريب؟

كانت الأرملة تُعامل كامتداد لجسد زوجها، فيصبح موته عبئًا عليها: تُعلن نجاستها، تُجبر على العزلة، وقد تُمنع من الاغتسال أو الحديث

لم يكن هذا التصوّر للأرملة وليد المجتمعات الحديثة، بل يعود إلى نصوص دينيّة وتقاليد قديمة. ففي الكتاب المقدّس، يُذكر الأرامل إلى جانب الأيتام، في سياق يوحّد بينهما في العجز والفقر، وكأنّهما فئتان فاقدتان للحماية، لا بدّ من وضعهما تحت وصاية الآخرين.

يعرّض هذا الوضع الأرامل إلى مستويات مختلفة من العنف والاكتئاب، بما في ذلك الاعتداء اللفظيّ والجسديّ والجنسيّ، إضافة إلى فقدانهنّ الشعور بالأمان وبأحقّيتهنّ في تقرير مستقبلهنّ.

طقوس الترمّل

كانت الأرملة تُعامل كامتداد لجسد زوجها، فيصبح موته عبئًا عليها: تُعلن نجاستها، تُجبر على العزلة، وقد تُمنع من الاغتسال أو الحديث. لم يكن الحداد مجرّد تعبير عن الفقد، بل وسيلة لمحوها اجتماعيًّا، إذ حوّلتها التقاليد إلى كائن غير مرئيّ، بملابس حداد قاتمة وسلوك زاهد (إذ لا يجب أن تتمكّن روح الزوج المتوفّى من تمييزها)، ممّا يجعلها “نصف جثّة” بعد رحيل نصفها الآخر.

عبر التاريخ، فُرضت على الأرامل خيارات قاسية: إمّا أن يرافقن أزواجهنّ في الموت كما في الهند، أو يُمرَّرن كإرث لأقارب الزوج الذكور. أمّا من تختار الحياة، فتُفرض عليها قيود تجعلها بلا هويّة أو رغبة- كائن لا جنسيّ- وإلّا فإنّها ستتسبّب بهلاك روح زوجها في العالم الآخر.

ولا تزال بعض هذه الممارسات قائمة، كالعِدّة التي تعزل الأرملة اجتماعيًّا لمدة تتجاوز الثلاثة أشهر، بهدف التأكّد من نسب المولود في حال كانت حاملًا، بينما يمكن لفحص الحمل أن يظهر نتيجة فوريّة.

وفي السياق اللبنانيّ، بعد الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان، تعود الإشكاليّة للظهور: ما مصير النساء الأرامل في لبنان من هذا كلّه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى