الأزمة تتفاقم بقاعاً.. الطبخ والخبز على المواقد والتنور، والبراد في الهواء الطلق
العودة إلى الحطب والتنور والصاج والمواقد لأغراض الطبخ والتدفئة التي تنتشر في معظم المناطق اللبنانية، ليست حنيناً إلى الماضي وتذكّره، إنما لمواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلد منذ سنتين وأكثر وأعادتنا سنوات لا بل عقود إلى الوراء. إلى تلك الحياة الصعبة والقاسية عادت الناس في القرى والبلدات حيث لا مقومات حياة ولا خدمات إجتماعية. لا كهرباء دولة، والاشتراكات باهظة التكاليف. المازوت والغاز “يحلقان” وأصبحا خارج قدرة شريحة واسعة من اللبنانيين للحصول عليهما، وسلسلة من الحاجات تبدأ ولا تنتهي.
يجهد المواطن البقاعي اليوم وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة في البحث عن سبل الحياة، فلا يجدها سوى بما مضى من أيام ظنّ أنها ولّت إلى غير رجعة. النساء في البقاع الشمالي نفضن الغبار عن التنور بعدما أهملنه لعقود، والبعض الآخر أعاد إنشائه من جديد. صاج الحديد والكارة و”لكن” النحاس عادوا بقوة. المواقد اشتعلت ومعها عادت الأواني النحاسية القديمة من “دست” و”حلة” من أجل طهي الطعام وصناعة المناقيش والخبز وحتى من أجل تسخين المياه بهدف الاستحمام.
الليل البارد بديل البرادات
لافتاً كان تدلي سلّة قصب من غصن شجرة أمام أحد المنازل، المشهد لم يكن تزيينياً لإحياء التراث، بل بحكم الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، حيث يلجأ البعض لوضع المأكولات في السلة خلال فترة الليل بهدف حفظها بفعل برودة الطقس ومن ثم يدخلونها نهاراً إلى المنزل كي لا تفسد.
اللجوء إلى نمط الحياة التقليدية وعيشها بات المشهد الأكثر إلفة في مناطق البقاع الشمالي، حيث كيفما توجهت في القرى والبلدات البقاعية كافة المشهد يتكرر، فالمشكلة عامة ويعاني منها الجميع، في ظل الغلاء الفاحش للغاز والمازوت وعدم قدرة المواطن البقاعي على شرائهما.
صاج وموقدة
أم علي علام التي تقطن في إحدى القرى النائية، وهي أم لسبعة أولاد قالت لـ “مناطق نت”: إن الموقدة على الجهة الشرقية للمنزل عامرة طوال الوقت وعلى مدار الساعة”. تروي أم علي رحلتها اليومية من تحضير العجين مساءً والاستيقاظ فجراً مع طلوع الشمس لجمع العود والحطب و”القشاقيش”. تشعل نار الموقدة وتكتفي بدفة من الحديد تخبز عليها الخبز حيث لا صاج لديها. عائلة أم علي كبيرة وتحتاج إلى حوالي أربع ربطات خبز يومياً، أيضاً بُعد المنزل عن الطريق العام يستدعي منهم قطع مسافة لتأمين الخبز من الأفران. لذلك تحاول أم علي التوفير خصوصاً لجهة الغاز الذي بلغ سعر قارورته حوالي 360000 ألف ليرة وهي يومياً إلى إرتفاع. إضافة لسعر الطحين الذي يشهد ارتفاعاً أيضاً، حيث سعر الكيس يفوق المئتي ألف ليرة ولكن يبقى أفضل من شراء الخبز الجاهز.
التنور القديم
الحاجة سميرة من بلدة الخرايب هي الأخرى رممت “التنور” الذي مضى على عدم استعماله أكثر من اثني عشر عاماً. قالت لـ “مناطق نت” إنها تخبز أسبوعياً وتؤمن حاجة عائلتها لأيام، بحيث تعجن حوالي المدّ إلى المدّ ونصف المد أي حوالي٣٥ كيلوغراماً من الطحين. تستيقظ باكراً تضع “الوقدة” في التنور وهي عبارة عن شحلات (أغصان الأشجار اليابسة) وتبدأ العمل والذي غالباً ما يمتد لساعات طويلة، وهو صعب ومتعب ولكن ليس باليد حيلة.
تغرورق عينا الحاجة سميرة بالدموع على الرغم من أنها كانت تحاول طوال الحديث أن تُبقي نفسها قوية، وتصوّر معاناتها على أنها أمراً واقعاً، تحاول أن تُبدي المشهد وكأنه جميل، وتقول “الخبزات أطيب” لكنها تخبئ غصّة في حنجرتها لتعود وتقول شو فينا نعمل “ما جبرك عالمرّ إلا الأمرّ منه”.
يساعد الحاجة سميرة بناتها في عملية “رق العجين” وهنّ فتيات في عمر الشباب، إحداهن خريجة الجامعة اللبنانية كلية العلوم الاجتماعية، والأخرى تدرس التمريض في أحد معاهد المنطقة، يخجلن وهن يتحدثن عن معاناتهن اليومية، تقول إحداهن والدي يعمل في الزراعة، وما يحصّله في ذلك لا يكفي لشراء أدنى حاجاتنا.
الطهو على صوبيا الحطب
الحال بالنسبة لعلياء أبو ضاهر ليس بأفضل من حال الحاجة سميرة، حيث تستغل اعتمادها على صوبيا الحطب في المنزل لتطهو عليها، وتضيف أن معظم ربات المنازل يطهون على الصوبيا، خاصة الطعام الذي يحتاج لوقت طويل على النار مثل الملوخية والفاصوليا، وهذا لم يعد ممكناً على الغاز حيث يستهلك مصروفاً كبيراً من تلك المادة التي أصبحت مكلفة.
تقول علياء لـ “مناطق نت” إن صوبيا الحطب “رحمة” فبالإضافة إلى التدفئة وطهي الطعام تسخن عليها الماء للجلي، لأنها أصبحت تعاني الكثير من الأمراض بسبب المياه الباردة.. وتتمتم باللعنة على من أوصلنا إلى هذه الحال من دون أن تسميهم.
متعبٌ بات عمل ربات المنازل ويستهلك أوقاتاً طويلة تمتد لمعظم ساعات النهار. الاقتصاد ومعاونة “رجل البيت” هو عنوان المرحلة الصعبة التي تمر بها معظم العائلات. تحاول ربة المنزل إدارة راتب زوجها ليقتصر على ضرورة الضروريات، وتعمل لكي تخفف عن كاهله وتؤمن لعيالها أدنى الحاجات.
بعض ربات المنازل يشكو بمرارة، والبعض الآخر تعب من الشكوى، والشكوى لغير الله مذلة على حدّ تعبيرهم. البعض يتأمل أن ينصفه الله وتتغير هذه الظروف. لكن أمام هذا المشهد المأساوي وفي المقلب الآخر، يقف الكثير من الزعماء والسياسيين يحدقون بعين جامدة لا رحمة ولا شفقة فيها، دون أن يتحرك لهم ساكن، فهل يرتضي هؤلاء كل هذا الشقاء والتعب والذلّ لنسائهن؟!!