الأزمة تسرق “الميلاد”.. “البوش دو نويل” بـ 400 ألف و”الأوزة” بـ 5 ملايين
قد يكون الكلام عن الاحتفال بعيدي الميلاد ورأس السنة والأجواء السلبية المحيطة بهما، من باب التكرار أو الكلام الممجوع والممل، فالواقع في لبنان حيث وصفه البنك الدولي بأنه يمرّ بأحد أسوأ الأزمات في التاريخ الحديث يختصر كل شيء. بهجة العيد ليس لها مكاناً بين اللبنانيين الذين يجهدون بشتى الطرائق لتأمين متطلبات الحياة بحدودها الدنيا وأولها الخدمات من كهرباء وخبز ودواء وغيرها.
تقضي طقوس الأعياد وعاداتها لدى شريحة واسعة من اللبنانيين بتبادل الهدايا والاحتفال وتحضير المأكولات والحلويات، حيث جرت العادة أن يكون الاحتفال بالميلاد في المنزل ووسط العائلة، بينما كان يعمد قسم كبير من اللبنانيين للاحتفال بسهرة رأس السنة خارج منزله. وفي الحالتين كان اللبناني ينفق بيسر على المناسبتين المتقاربتين وكان باستطاعته ذلك. حيث الهدايا والبذخ في تحضير عشاء الميلاد، والحجز في أفخم المطاعم والسهر حتى الصباح.
منذ سنتين وأكثر حيث يرزح اللبنانيون تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، انحدر عدد غير القادرين على الإيفاء بطقوس العيد بشكل مريع، حيث تهاوت القدرة الشرائية التي قاربت التسعين في المئة لدى الغالبية منهم إلى مستويات قياسية، ومعها انحسرت بهجة العيد إلى مستويات دنيا أيضاً. وهذا ما نلحظه ليس في المنازل فقط حيث انخفض مستوى التزيين بالمناسبة، بل أيضاً في الشوارع التي كانت تزدان سنوياً بأشكال مختلفة ومتنوعة من الزينة والتي كانت تتسابق البلديات على إقامتها وتنظيم الاحتفالات وسطها.
أكلاف العيد لم تعد بالمستطاع
“البوش دو نويل” و”أوزة العيد”، يشكلان الطبقان الرئيسيان على مائدة الميلاد بالإضافة إلى الاجبان والمشروبات الروحية، خاصةً النبيذ. سابقاً، كانت “البوش” تكلف حوالي الأربعين ألف ليرة لبنانية، أي حوالي ستة وعشرين دولاراً. الآن يتراوح سعرها بين ثلاثمائة وأربعمائة ألف ليرة في محلات الحلوى المتوسطة، وهذا السعر يرتفع إلى أضعاف ذلك في المحلات المعروفة. أما بالنسبة للأوزة، خاصة تلك المصنوعة من لحم الغنم، فقد ارتفع سعرها من حوالي خمسمائة ألف ليرة إلى ما لا يقل عن خمسة ملايين ليرة، والسعر يرتبط بنوع اللحم ووزن الوجبة وما يلزمها من عمل.
في مناطق التسوق الشهيرة في بيروت مثل الحمرا، مار الياس، الأشرفية، مار مخايل وفرن الشباك، حيث تعج عادة بالمتسوقين تحضيراً للأعياد وشراء شجرة الميلاد وغيرها، اليوم اقتصرت واجهات المحلات على “التفرج” فقط دون الدخول، فسعر شجرة الميلاد هذا العام تراوح بين الثمانين والمئة وعشرين دولارًا، أي ضعف الراتب الشهري للعامل اللبناني.
بابا نويل مريض
يلجأ العديد من الآباء هذا العام إلى “الكذب المر” مع أطفالهم، فواقع الحال يقضي ذلك. يؤلفون حكايا من أن بابا نويل مريض ولن يتمكنوا من إحضار الهدايا. يبررون أن الهدايا ستختفي بسحر ساحر من تحت أشجار الميلاد هذا العام. لن يستطيع الآباء أن يصارحوا أبناءهم أن ليس بابا نويل وحده على فراش المرض إنما وطنهم يحتضر وعلى فراش الموت. ولن يستطيعوا أن يخبروهم أنهم يكافحون بشق النفس لمجرد شراء الطعام والأدوية. لكنهم سيستطيعون قول الحقيقة لأبنائهم من أن فرحاً وحلماً قتلتهما طبقة سياسية فاسدة قبل أن تسرق أموالهم وجنى أعمارهم.
ليست القدرة الشرائية للبنانيين الوحيدة التي اغتالها الانهيار المالي، فتداعيته كثيرة ولا تقف عند حدود عدم تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطن، بل تتعداها إلى ذبول الأعياد، وتحوّلها إلى محطات تحسّر وحزن على ما وصلنا إليه من وضعٍ مزرٍ. الذي يحصل الآن من موت للأعياد ما هو إلا نتيجة طبيعية للأزمة الاقتصادية التي دخلت على المناسبات العامة وأحالتها خراباً. وهذا يقوّض بشكل أو بآخر ثقافة الحياة واستبدالها بثقافة الموت والقهر وهذا ما نعيشه الآن.