الأطفال الهدف الأوّل للمتحرّشين.. موت لين طالب يفتح الباب أمام صرخة الضحايا والناجيات
لم تكن قضية الطفلة لين طالب القصة الأولى من نوعها، فعلى مدى السنوات الماضية شهدنا و”لم نشهد” قصصاً تشبهها بوحشيتها وإجرامها. الفارق الوحيد أنّ لين توفيت، وما كان من بعض أفراد عائلتها إلا أن يكشفوا عن السبب بعدما ذاع الخبر والألم في كل منزل. أصبحت قضية الطفلة ابنة الثماني سنوات قضية رأي عام، هي التي تعرضت للإغتصاب والاعتداء من قبل خالها المتهم الأول بحسب ما وصلت إليه التحقيقات الأولية من ناحية، وتستر الأم وعائلتها على هذه الجريمة من ناحية ثانية.
أشعل موت لين شرارة قضيّة التحرش الأولى، وقصصاً موجعة تشاركتها النسوة والشابات في مساحات آمنة بعد صمت طويل. في معظم العائلات كان هناك “لين” ولكنها لم تمت، وكان هناك مجرم يشبه خالها ومتستر كان سبباً في ازدياد عدد الضحايا. بعد قضية لين، انكشفت قضية بيت اليتيم الدرزي حيث ظهرت شهادات عن تحرش جنسي وانتهاك لحقوق الأطفال. كما كان لقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة نصيب في توقيف أكثر من متحرش ومغتصب، ومنهم متحرش ستيني كان يستدرج الأطفال إلى مؤسسته ومنزله. وكأنّ لين طالب فتحت الباب أمام صرخة الضحايا وتحرّك المسؤولين.
في الواحد والعشرين من كانون الأول 2020، صدر قانون تجريم التحرش الجنسي في لبنان أو القانون رقم 205/2020، للمرة الأولى بشكل منفصل ومفصّل، بعد أعوام من المطالبات. كما تعاقب المادة 505 من قانون العقوبات اللبناني كل من جامع قاصراً دون الخامسة عشرة من عمره بالأشغال الشاقة المؤقتة لمدة لا تنقص عن خمس سنوات، ولا تنقص العقوبة عن سبع سنوات إذا كان الولد لم يتم الثانية عشرة من عمره، ومن جامع قاصراً أتمّ الخامسة عشرة من عمره ولم يتم الثامنة عشرة عوقب بالحبس من شهرين الى سنتين.
الأطفال.. الهدف الأول للمتحرشين!
من الملاحَظ اليوم أنّ الأطفال باتوا الهدف الأول للمتحرشين، وقد يعود ذلك لخوف بعض المتحرّشين أو المغتصبين من الفضيحة التي قد تقدم عليها النسوة عبر نشر تجاربهن من خلال مواقع التواصل الإجتماعي، وهذا ما حدث لمرات عدة، حيث شُهّرَ بأسماء بعض المتحرّشين، بالإسم والصورة والصوت على مواقع التواصل.
لا شكّ أنّ هذا التّحول الجذري في الوعي الجمعي سببه وعي الفتيات والشّباب الّذين ما عاد الخوف يتملّكهم إذا أرادوا فضح المجرم أو المتحرّش أو المغتصب، وكلّ ذلك يعود إلى بعض المساحات الآمنة الّتي خلقها المجتمع وحفظ فيها الحقوق ودافع بشراسة عن الضّحيّة. لذلك صار الأطفال الّذين لا حول لهم ولا قوّة الهدف الأوّل لمعظم المتحرّشين والوسيلة الأكثر ضمانةً ووقاية من الفضيحة والتشهير. أمّا السّبب الأبرز للتحرّش بالأطفال فهو مرض “البيدوفيليا” على الرّغم من أنّ الجدل حول ربط التحرّش الجنسي بالأطفال بهذا المرض لايزال قائمًا في وسط العلماء.
من الملاحَظ اليوم أنّ الأطفال باتوا الهدف الأول للمتحرشين، وذلك قد يعود إلى خوف بعض المتحرّشين والمغتصبين من الفضيحة التي قد تقدم عليها النسوة عبر نشر تجاربهن من خلال مواقع التواصل الإجتماعي
لين طالب ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وهذا ما ظهر واضحاً في التجارب التي روتها شابات وأمهات في مجموعة عبر “فايسبوك” مخصصة للنساء. فعدد لا يستهان به من المنضمّين والمنضمّات لهذه المجموعة كنّ قد تعرّضن لحوادث تحرش مؤلمة في صغرهن، ومن أقرب المقربين لهنّ. عشرات القصص، كل واحدة لا تشبه الأخرى إن كان بالوسيلة أو بالتفاصيل، ولكن جميعهن يتشاركن الخوف ذاته حتى اليوم. أطلقت لين بقصتها قصص النساء والفتيات وذكريات طفولتهنّ إلى العلن، رغم أنّ أسماءهم بقيت غير ظاهرة، ولكن كان كافيًا أن تتلو إحداهنّ قصّتها لتواسيها أخرى فتدرك أنّها لم تكن وحدها.
شهادات موجعة
تشرح سيدة منهن كيف تعرضت للتحرش من قِبل جدها، وأخرى من قبل شقيقها، وغيرها من قِبل والدها، ولائحة المجرمين تطول. ورغم مرور سنوات على تلك التجارب، إلا أنهن ما زلن يتذكرن أدق التفاصيل ويساورهن نفس الشعور بالإشمئزاز والقلق والخوف على أنفسهن وأولادهن.
تقول إحدى الضحايا إنّها عانت لسنوات من تحرش خالها وهي في عمر الخمس سنوات، وحينما قررت فضحه أمام والدتها، كانت هي المُلامة بنظرها. وتشير إلى أنّها لا تزال إلى اليوم تعاني نفسياً من تداعيات هذا الأمر، بالإضافة إلى تدهور علاقتها بأمّها. وتشرح أخرى كيف تحرّش جدها بها وذلك بعدما طلبت مساعدته مادياً، بينما تشرح إحداهن كيف استغلّ زوج شقيقتها وجودها في منزله لزيارة الأخيرة فأقدم على التحرش بها من دون خوف أو تردّد.
تشير إحدى الناجيات (م.ب) لـ “مناطق.نت”، إنّ جارهم وهو أستاذ مدرسي تخطى الخمسين من عمره كان قد تحرّش بها وهي إبنة خمس سنوات، ولكنها لم تدرك ذلك إلا بعد وقت طويل. وفي التفاصيل، تروي كيف كان يحملها ويضعها في حضنه، وأحياناً كثيرة كان يفعل ذلك معها ومع ابنة الجيران في الوقت نفسه. لسنوات مضت، كانت تراه وتلقي التحية عليه وتكنّ له احتراماً، إلى أن أدركت في السّنوات القليلة الماضية أنّ ما كان يفعله معها ومع أخريات كان تحرشاً، وربما ألقت اللوم على نفسها لأنها لم تفهم ذلك باكراً.
اللافت في الأمر أنّ معظم اللواتي تعرضن للتحرش يوماً ما، لم يدركن أنّ ما حصل كان تحرشاً، لكن الخوف من الفعل نفسه كان جرس إنذار بالنسبة إليهنّ. طفلة كان كل همها ألعابها ومدرستها وصديقاتها، كيف لها أن تعلم أنّ أحداً يتحرش بها بكل ما تحمله هذه الكلمة من أوجه، وأنّه كان عليها أن تواجه وتفضح!
تلفت إحدى الشابات بعد التجارب التي نُشرت على المجموعة نفسها إلى أنّ هذه الحوادث أجبرتها على العودة بالزمن لتتذكر أنّها تعرضت للتحرش دون أن تعرف بذلك، حيث كتبت: “كان عمري شي 11 او 12 سنة وأخدتني ماما لتجبلي شنطة مدرسة بتذكّر صار صاحب المحل بدو يجربلي ياها على كتافي وصار يحط ايديه على صدري من ميلة باطي قصدًا. اللي بتذكرو انو توترت وقلتلا لماما ما عجبني شي بدي فلّ”.
“كان عمري شي 11 او 12 سنة وأخدتني ماما لتجبلي شنطة مدرسة بتذكّر صار صاحب المحل بدو يجربلي ياها على كتافي وصار يحط ايديه على صدري من ميلة باطي قصدًا. اللي بتذكرو انو توترت وقلتلا لماما ما عجبني شي بدي فلّ”
وفي قصة أخرى، تشير إحدى الأمهات إلى أنّها تعرضت للتحرش وهي ابنة سبع سنوات من قِبل خالها الّذي اعتدى على أكثر لحظاتها الطفوليّة بينما كانت تشاهد أفلام الكرتون. والجدير بالذكر أنّها كانت على علم وقتها أنّه لا يجب على أحد رؤيتها أو لمسها بينما هي عارية، ولكنها لم تكن تعرف أنّ ذلك ينطبق عليها عندما تكون مرتدية ثيابها. بعدما أخبرت والدتها، أدركت أنّ الأمر سيّان في كل الحالات، وأنّه ممنوع لمسها في أيّ ظرف كان، دون إرادتها ووعيها الكامل وموافقتها. وهذا يسلط الضوء على أهمية التوعية الصحيحة والمفصلة، لأنّ الطفل لا يمكن أن يأخذ أبعاداً للمواضيع أو يحللها في لحظتها كما يجب.
ضرورة التوعية والمتابعة النفسية
تلفت الاختصاصيّة النفسية فاطمة معتوق في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّه لا يمكن الوصول إلى إحصائيات دقيقة حول عدد حالات التحرش، وذلك بسبب خوف الضحية غالباً من البوح، إلا أنّ المؤكد أنّ الأرقام حتماً مخيفة. وتضيف: “أنّ المتحرشين لا يمكن حصرهم بدائرة أو تصنيف معين، فالمتدين والملحد، المثقف والجاهل وغيرهم يمكن أن يكونوا جميعهم في دائرة الإتهام. كما يمكن أن تكون أساليبهم مختلفة، فبعضهم يمكن أن يأتي بمظهر لطيف وآخر من خلال بث الخوف في نفس الطفل”.
وفي سياق تواصلها مع مختلف المعالجين النفسيين في لبنان، تشير إلى أنّ الأمر ليس محصوراً في بيئة معينة، ولا في مجتمع دون آخر، فمعظم الفتيات اللواتي قرّرن زيارة معالج أو طبيب نفسي أكّدنَ أنّهنّ في مرحلة ما تعرضن للتحرش. وعن حالة صادَفَتها، تشير إلى أنّ الأب كان هو المتحرش وقد مارس وحشيته على بناته، كل واحدة على حدة وبأسلوب مختلف، دون أن تعرف الأخرى. وحين قررن الزواج، كان يرفض قائلاً: “أنا أحق بكنّ”. إلى هذه الدرجة وأكثر، يمكن أن تصل الأمور والإجرام “والتبريرات”.
في السياق نفسه، تؤكّد الإختصاصية التربوية فاطمة زين الدين لـ “مناطق.نت”، وهي التي تقوم بإعداد ورش للأمهات والأطفال للتوعية حول موضوع التحرش الجنسي، أنه ما زال هناك رفض من قبل بعض الأمهات لتصديق أنّ أحد أولادها يمكن أن يكون قد تعرض للتحرش. وتضيف أنّ هناك إقبالاً جيداً على المشاركة في هذه الورش، وهذا إن دلّ على شيء فيدل على تزايد نسبة الوعي حول هذا الموضوع.
التشدّد في العقوبة
من جهتها تشير رئيسة “الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان” أميرة سكر لـ “مناطق نت” إلى أنّ ظاهرة العنف ضد الأطفال لم تتزايد فقط خلال الأيام الماضية وإنما منذ بداية العام الحالي، فقد سجلت “جمعية الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان”، 227 حالة عنف أسري، 117 حالة تحرش و396 حالة اعتداء على أطفال خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري.
وتؤكد سكر أنّ “المطلوب من كل القضاء اللبناني إصدار عقوبة الإعدام لمغتصب تسبب بمقتل أي طفل أو طفلة بعد أن تثبت عليه الدلائل والشواهد والأدلة. فمن غير المنطقي أن يسمح المشرع اللبناني بالإبقاء على حياته وهو الذي لم يرحم رحمه ودمه وهتك وفرط في شرفه وشرف عائلته. كيف نعترف بحق الطفولة في الحياة بأمان ولا نردع كل مغتصب؟”.
وما لا يمكن تجاوزه هو أنّ العديد من الأطفال الذكور كانوا قد تعرّضوا للتحرّش، وهناك قصص لا تزال شاهدة على ذلك. لذلك على التوعية أن تتوجه وتطال كل الأطفال، ذكوراً أم إناثًا. آلاف كانوا يوماً ما مكان لين طالب، بعضهم ربما قضوا دون أن يدري أحد عن الظلم الذي حل بهم، وآخرون نجوا من الموت، إلا أنّهم لم ينجوا من الألم النفسي الذي رافقهم طوال حياتهم. لا شيء يعيد للضحايا حقهم ولا ينسيهم، إلا العدالة ووضع قوانين رادعة وتنفيذها، وإلا قد تكون الضحية القادمة أقرب لأيّ شخص منّا، حينها لن ينفع قانون لم يُنفذ ولن تنصفه العدالة المتأخرة.