الأندية الثقافية تستعد للعودة إثر انتهاء الحرب

مع إعلان وقف إطلاق النار الذي ينفَّذ بشكل متقطّع، هناك عودة إلى الأنشطة الثقافيّة بالإيقاع المتقطّع عينه، فتلك الأندية تشبه مجتمعها انطلاقا من عمليّة إزالة الركام، ومسح الرماد والغبار، وصولًا إلى عودة الفريق للحديث والتجمّع ولملمة الذات المبعثرة بما حملته من جراح وآلام، فلا أحد نجا من هذه الحرب. لكنّ الجميع يمتلكون خططًا، بعد وقفات تأملّيّة وتقييميّة مع الذات، فإن كان من “إيجابيّة” للحرب، فهي إجبار الكلّ على محاكمات نقديّة للفترات التي مرّت، واحتماليّات الأنشطة المقبلة.

للوقوف على عمليّة الاستشفاء تلك، عمَدت “مناطق نت” إلى طرح استفساراتها على جهات ثقافيّة متعدّدة كمحاولة لتلمُّس عناوين المرحلة.

المجلس الثقافي للبنان الجنوبي

على مدى نحو 11 شهرًا، لم تنقطع نشاطات المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ في فرعه بالنبطية وهو الأقرب إلى الأجواء الأمنيّة والعسكرّية التي كانت تلقي بظلالها على الجنوب برمّته، وأقام متعاوناً مع جمعيّة تقدّم المرأة في النبطية وغيرها من الجمعيّات سلسلة من النشاطات الثقافيّة وإطلاق بعض دواوين الشعر واللقاءات الأدبيّة. وكان من الطبيعيّ أن تتوقف جميعها مع الحرب العشوائيّة التي أطلقتها إسرائيل ونزوح أكثر من 90 في المئة من سكان المدينة والمنطقة والجنوب.

من الجنوب إلى بيروت انتقل عدد من أعضاء المجلس حيث فتح الفرع الرئيس أبوابه برعاية الهيئة الإداريّة المركزيّة نحو المساهمة في إغاثة النازحين من الجنوب وتقديم ما يمكن من مساعدات عينيّة وتأمين السكن والإيواء عبر العلاقات والاتصالات، وإطلاق حملة لجمع الأغطية والحرامات مع بداية حلول البرد.

عن المرحلة المقبلة من النشاطات في النبطية ومنطقتها يؤكّد رئيس الفرع الزميل كامل جابر “أنّ الأولويّة اليوم للملمة الجراح وإزالة آثار الحرب ومن ثم استقرار الناس في بيوتها والمباشرة في إعادة إعمار ما تهدّم، خصوصاً في مدينة النبطية التي نكبت بعدد كبير من أبنائها وبتدمير لأسواقها وبنيتها التراثيّة والمعماريّة، لكن ذلك لم يمنعنا من رسم تصوّر ثقافيّ للمرحلة المقبلة، ومجموعة من النشاطات سنطلقها فور ملاءمة الأجواء العامّة وبدء استقرار الناس”.

من أنشطة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في النبطية قبل الحرب
“ديوان الأدب”

تتمركز غالبيّة أنشطة “ديوان الأدب” في مدينة النبطية، وتشاء المصادفات أن تكون رواية “ياقوت من شظايا الشّقيف” للكاتب عدّي الموسويّ، آخر نقاشات الديوان قبيل استعار نار الحرب. والشقيف من علامات الأصالة الجنوبيّة، وعناوين الثبات، من زمن الغزوات القديمة، وصولًا إلى “الكتيبة الطلّابيّة” في ثمانينيّات القرن الماضي.

يقول رئيس الديوان، الدكتور علي العزّي لـ “مناطق نت”: “سننطلق في وقت قريب، دون شك، لكنّها فترة مستقطعة من الزمن حتّى ينتهي الناس من ترميم جدرانهم المتفسّخة، وتركيب نوافذهم المتكسّرة. لكنّني شخصيًّا قمت بعمليّة مراجعة لكلّ ما حقّقناه خلال سنوات عملنا، وكانت ناجحة بمعظمها، أقلّه في الشكل، لكنّ سؤالي لذاتي كان حول جوهر ما أنجزناه، ومدى عمقه، وجدواه، وتحقيقه للمرتجى؟ هنا كنتُ شديد الصراحة مع نفسي، إذ وجدت عديدًا من الثغرات التي ننوي كفريق عمل سدّها وترميمها، تحديدًا من خلال رفد “ديوان الأدب” بأسماء وقامات من النسيج الفكريّ والثقافيّ والأكاديميّ، تجديدًا للحبر الذي يسري في أوردة الديوان”.

تتمركز غالبيّة أنشطة “ديوان الأدب” في مدينة النبطية، وتشاء المصادفات أن تكون رواية “ياقوت من شظايا الشّقيف” للكاتب عدّي الموسويّ، آخر نقاشات الديوان قبيل استعار نار الحرب

يختم العزّي: “لكنّني أعلم أنّها مهمّة صعبة، ففي عالم الإبداع هناك آفات نفسيّة، ذات منابع نرجسيّة مشوَّهة، وهو ما يجبرنا على التروّي في خطواتنا التالية”.

“منتدى خير جليس”

“تقرّر قراءة ومناقشة أعمال إبداعيّة تحت ما يسمّى أدب الحروب والهجرة وما يقع بالقرب من هذا القبيل. سنناقش بعد أسبوع رواية (الطنطوريّة) لرضوى عاشور” يقول الدكتور محمد حسّون، القيّم على “منتدى خير جليس”، ويضيف: “قبل حرب الـ 65 يومًا، كنّا نقيم اجتماعاتنا، ونقاشاتنا في أجواء حربيّة كذلك، وهناك عديد من المجازر ارتكبَت في قرى محيطة في تلك الأثناء”. أمّا عن هويّة “خير جليس”، فيخبرنا الدكتور حسون: “ولد المنتدى من رحم جمعيّة “سوا” في بلدة البيساريّة وهو معنيّ منذ أعوام بنقاشات أعمال أدبيّة شتّى ومتنوّعة من حيث المضمون ولو أنّ الرواية تحتلّ مساحة أكبر في سيرة أعماله”.

“جرجوعيّات”

في فترة الحرب، انشغل أعضاء منتدى “جرجوعيّات” بتأمين القاعدة الأساس في هرم “ماسلو” حيث ضروريّات العيش والأمان. “توقّفت أنشطتنا الثقافيّة، سوى مرّة واحدة عقدنا اجتماعًا (فنجان قهوة أونلاين) لنطمئنّ على بعضنا”. يقول الأستاذ محمّد الشامي لـ “مناطق نت”، ويضيف: “مرحلة الحرب تعطيك دفعًا لتوجّه ثقافتك أكثر، لتكون ندًّا لخطاب العدوّ. وهذا سنترجمه ميدانيًّا في المرحلة القادمة، لمناقشة أفلام سينمائيّة، وكتب أدبيّة، وسنقوم بنشاط ميدانيّ بقطاف الزيتون الذي نعتبره نشاطًا في صلب هويّتنا الثقافيّة”. يختم الشامي قائلًا: “كلّ صاروخ سقط علينا يحمل مشروعًا إلغائيًّا، لذلك مهمّتنا مواجهة أبعاد الصاروخ بأنشطة تتمحور حول الأصالة الوطنيّة”.

من أنشطة “جرجوعيات” قبل الحرب
“فرحات بوك”

هي مكتبة بآليّة مرنة، تشبه زمننا ومتطلّباته، بحيث تُعرَض الأغلفة عبر وسائل التواصل، ويتمّ إرسالها إلى القرّاء عبر خدمة الـ “ديلفري”، فكانت فعلًا تجسيريًّا ضروريًّا بين المركز والقرى، وبين المكتبة والقارئ. يقول الشاعر محمّد فرحات لـ “مناطق نت”: “نحمد الله أنّ مكتبتنا لم تتضرّر في فترة القصف، وها قد عدنا لنستجمع شتات العناوين، وآليّات التنسيق مع الزبائن، ولو أنّ الأمر يجري بصعوبة، حيث يشكّل ضعف شبكة الإنترنت وخدمات الديلفري المفقودة عائقين أساسيّين أمام ذلك. لكنّني أعتقد أنّ الأمر سيكون أفضل خلال أسبوعين”.

يتابع فرحات: “كان نزوحنا نزوحين، فكريّ وجسديّ، فجزء كبير من ثقافتنا ومراجعنا، تركناه خلفنا. ولأنّ كلّ شيء مقرون باحتمال الفقد، كان القلق سيّد الموقف. مع كلّ غارة كنت أشعر أنّ جزءًا منّي قد تضرّر”. يختم فرحات: “حاليًّا نحن في طور الترتيب، والتجميع، لننطلق نحن ومجتمعنا. هو مشهد سورياليّ لا ريب، حيث أمسح الغبار عن أغلفة الكتب، بينما الطائرة المسيّرة  “أم كا” تزاول نشاطها التجسّسي”.

هي مكتبة بآليّة مرنة، تشبه زمننا ومتطلّباته، بحيث تُعرَض الأغلفة عبر وسائل التواصل، ويتمّ إرسالها إلى القرّاء عبر خدمة الـ “ديلفري”، فكانت فعلًا تجسيريًّا ضروريًّا بين المركز والقرى، وبين المكتبة والقارئ.

“نادي الكتاب اللبنانيّ”

لم تكن تداعيات الحرب عموديّة فقط، بمعنى أنّها اقتصرت على منطقة دون أخرى، بل طالت بما يتجاوز المناطق المستهدفة في الجنوب والبقاع والضاحية. يعرض المهندس مازن عابد تجربة “نادي الكتاب اللبناني، فرع الشوف وعاليه، والذي تتمحور أنشطته في جبل لبنان.

عن تلك التداعيات، يقول “أصابتنا الحرب بصدمة لم نكن نتوقّعها، لكنّنا اعتمدنا في فرع د. نازك أبو علوان عابد، على توزيع كتب في التنمية الذّاتيّة لعلّها تساهم في تخفيف التوتّر وتساهم بالراحة النفسيّة، ولو بجزء بسيط، بالإضافة إلى بعض المساهمات الإنسانيّة التي نخجل في ظلّ الأوضاع الحاليّة في التحدّث عنها وسط كلّ هذه المآسي”. يتابع عابد لـ “مناطق نت”: “اليوم، وبعد مرور هذه الغيمة السوداء، نعاود أنشطتنا الثقافيّة مع التّشديد على تعزيز روح المواطنة مهما كانت انتماءاتنا وأيديولوجيّاتنا، فهذا هدف النّادي منذ بداية تأسيسه”.

ويشير عابد “إلى حرص استثنائيّ اعتمدناه هذه الفترة في مقاربة الأحداث من زاويتين وطنيّة وإنسانيّة فقط، ولو بصفة شخصيّة لكلٍّ من القيّمين على النادي وأعضائه على صفحاتهم الخاصّة على التواصل (كون المجموعات مقفلة)، في ظلّ تطرّف غير مقبول بأكثر من اتّجاه، وهذا الحرص منبعه الثقافة في جوهرها والفكر في أصالته حيث توحّدنا القيم السامية فعلًا وقولًا”.

“حبر أبيض”

يُعد منتدى “حبر أبيض” ناشطًا في المشهد الثقافيّ اللبنانيّ، وهو وإن كان متمركزًا في بشامون، تلك البلدة الجبليّة العريقة، غير أنّه فتح ذراعيه لأسماء من أقصى أطراف الوطن. يقول الشاعر مردوك الشامي: “منذ طوفان الأقصى والمذابح التي ترتكب ولا تزال بحقّ أهلنا في غزّة، تحوّلت غالبيّة المنتديات الثقافيّة في لبنان إلى منابر للرثاء والبكاء ورصد الجرح الفلسطينيّ، كان الجرح والنار على مقربة، فكنا قادرين على الوقوف على شرفة النحيب والأمل من خلال أمسيات عديدة ومكثّفة”.

يتابع الشامي: “حين انتقلت الحرب إلينا وصار الجرح ينزف من خلالنا، ومن خلال الدمار الكبير وفقدان الأحبّة والأصدقاء، انزوى المنبر، فلا متّسع لأمسيات تحتاج حضورًا ومشاركين والكلّ في الأتون المشتعل، والكلّ في نزوحٍ مستبدّ وخسارات بلا عدد. ما حدث على الساحة اللبنانيّة ثقافيًّا وحراكًا منتدياتيًّا توقّف، وساهم واقع الحال في الفرز الثقافيّ الإنسانيّ”.

يضيف الشامي موصّفًا المشهد العام “اليوم ومع وقف إطلاق النار، هذا الوقف الملتبس فعلًا، وبانتظار أن يعود النازحون إلى قراهم، وحياتهم وفي هذه العودة صعوبات وأحزان وفقدان، سيكون من الصعوبة جدًّا عودة غالبيّة المنتديات إلى أنشطتها ومسيرتها الطبيعيّة. فالناس مشغولة عن الشعر والثقافة ببناء ما تهدّم ورتق الجراحات. ومع ذلك أقول عن ملتقى “حبر أبيض” ولكونه يقع مصادفة في مكان آمن، نستعدّ للعودة، وبحذر، فغالبيّة أعضاء الملتقى وإداريّيه كانوا من فئة المنكوبين، وهذا سيؤخّرنا قليلًا، لكنّ العودة آتية وليست بعيدة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى